صقر المحمود - المبروك.. قصة قصيرة

اعتدل في جلسته، وتناول علبة الدخان الفضية، فتحها بكل رفق، ورأيت التبغ المخبوء بداخلها كشعر امرأة شقراء، رفع خصلة منه يستعرضها أمام الليل
و نفضها لتنفصل عن رفيقاتها، ثم مدها على الورقة، ولفّها باحتراف كمن ينحت جسد حبيبته.
في نهاية هذه الفسحة ارتدى وجه الراوي:
_ كنا راجعين بجِمالنا إلى الجزيرة، نحمل عليها التمر، والبخور وقد حفظت الطريق كما أحفظ الندبات على كفي .
ودعت المدينة بلا رأي محدد، ربما لإيماني بعودتي إليها بعد شهر، وانبسطت أمامنا الصحراء بوجهها المستفهم وغرورها الأصفر، ومزاجها المتقلب.
كان هذا عملي بعدما رفضتني (ريما):
_ أنتَ؟ بشعرك الأشعث وأنفك الكبير وقامتك القصيرة و عينيك الغائرتين و . . . !
من يومها، صرتُ أضحوكة للناس.
تطاولتْ جمرة سيجارته حتى دانت إصبعيه الممسكتين بها فمسحها بالأرض، وانشغلتُ بالذرات المشتعلة، تهرب بعيدا مع النسيم، واستغلَ هروبها ليطبع الحكاية برأيّه:
_ البشر سيّئون يا بن أخي . . . سيّئون، تتمنى أحيانا لو كنت من فصيلة أخرى ! . . . . .
هكذا امهتنتُ خدمة القوافل، لأختبئ من هذه الوصمة.

في منتصف الطريق، قبل الظهيرة بقليل غفلت _ لا تعرفُ هذا الشعور إنه إحساس يشبه الغفوة يساورك، وأنت تتهيأ لشيء غير عادي، أمر حِيك ليغير حياتك، و يجعل منك رجلا آخر _
كنت أغنّي للجِمال فتتمايل مع كلماتي، و التجار يمسحون عن وجوههم المترفة قطرات العرق، وسكون عميق يحيط بنا.
فجأة، هبّت عاصفة . . . كلا، لم تكن عاصفة، كان ظلاما من الرمل . . . قطعة من الليل ضللنا طريقنا، ودخلناها، فبركت الجمال و اختبأنا خلفها، ولففتُ رأسي بعباءتي حتى كدت أختنق من الحر . . . . .
بعد ساعات، صفت السماء، وصرت أرى النجمات مربوطة بخيوط من نور ملون .
كانت العاصفة قد سلبتنا كل شيء، حتى قِرب الماء التي أربطها جيدا، وأعلق عليها آمال نجاتنا من العطش.
نظر التجار إليّ، جميعا يستجدون:
_ فرحان، إفعل شيئا.
وفي نفسي:
_ ما عساي أن أفعل؟ أعرف المكان جيدا، إن وحشته تكفي لتقعد، تنتظر الموت.
عندما يتسرب الأمل من بين أصابعك في البرية، وأنت تبحث عن طوق نجاة يصبح البحث سهلا!
نعم . . . اختر أيّ اتجاه، و اكتفِ بالمشي، سترشدك نيران من تبحث عنهم.
أخذت أمشي وأمشي، حتى خفت من الغرق في سواد الليل
وبعدما يئست، التفتّ لأعود، فاصطدمت به، أقول لك الصدق؟
أظنه باباً كان يتبعني!
طرقته، طرقته بلا تفكير، ففتحتْ لي
قطعَ حكايته، وخاطبني مقرّعا:
( سمعتُ ما ردده فكرك . . . حسنا، سأقول لك شيئا: أعتقدُ كل النساء جميلات . . . المهم أن تحبك . . . صدقني، أن تكونَ محط اهتمام امرأة، أمر يجعلك تشعر كالملوك القدماء! )
كانت تعرفني، أحضرت ماء، وجعلتْ تحكي بشوق:
_ انتظرناك طويلا، حتى القِفار جعلتُ منها محطة لك.
و فكرتُ :
_ أنا؟بعيني الغائرتين، وشعري الأشعث وقامتي القصيرة!
ردّت بوجه متأكد:
_ تصّور! . . . كم هو أعمى هذا الحب!
لا أدري كيف نمت هناك، لكنني لمّا استيقظت، عرفت سريري و أقسمتُ أنني أنام عليه كلما مررت من هنا.
جاءت على استيقاظي، تحمل خبزا، أخذته منها، فأحرق
كفي؛ خلعتْ غطاء رأسها، ولفّتْ به الأرغفة.
( توقفَ عن الكلام، وأخرج من عبّه منديلا كحليا مطرزا بخيوط فضية، غطّى به وجهه لدقيقة ) . . . .
عندما رجعتُ إليهم، كنت أردد أغنية حفظتُها منها
و أستذكرُ ما قالته، وهي تعلّق القِرب على كتفي:
_ أنا حلمك
رحيلكَ، لقائي
حيث تتوقف قافلتك، ستجدني أنتظرك، لا تلقِ بالا للجهات فقط، أطلق قدميك لنسيم الليل؛ ستراني.

أيقظتُ التجار من النوم، و قدمت لهم الماء و الخبز، وأعيُنهم ترمقني بخوف، وتتنقل بيني و بين فراشي، خلف الجِمال
و لما نظرتُ معهم، هالني أن رجلا ينام مكاني، لكنني لم أجرؤ على السير نحوه، خذلتني قدماي في البداية، ثم لحقت بهم
كان فراشي مبعثرا، وبقُرب الوسادة، قربة ماء.
منذ ذلك اليوم صرت مبروكا، وصارت القوافل تتقاتل
على مرافقتي، والناس يحتشدون أمام بيتي، ينتظرون
عودتي من السفر، وكم قلت لهم بلا جدوى:
_ لست مبروكا . . . إنما أنا عاشق.
صمتَ برهة ليلتقط أنفاسه، ووقعتْ عيناه على علبة التبغ مرة أخرى فلم يُجبْ نداءها، وغرق يشتّم المنديل.

صقر المحمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى