محمد عبدالله الخولي - قراءة في نص " شيء باهت" لسلمى فايد

قبلَ الخُصومةِ
في البِدايةِ"


سرد تاريخي يشف عن غيب صاحبه الماضوي، أو لاهوتية الروح في عوالمها المغيبة إما في تاريخ ما قبل القبل، أو مغيبة في الذات التي لا تشي بتاريخها أو واقعها مخافة التعري والبوح، فتلك الخصومة لا تزال هي البرزخ الذي يحجب الإنسان الكامل، عن الإنسان الصورة الذي من المفترض له أن يكون كاملا ولكنه ما كان. يمتد الخلاف من الداخل/ الذات إلى الخارج/ النص/ العالم، كان يخص صاحبه لأنه يعانيه، ذاك الخلاف الذي لا يخص سوى صاحبه، معاناة لا تخص العالم، بل الذات، ولكنها امتدت، فكلما غابت الذات وانمحقت بسطوة المادة، حضرت اللغة؛ لتكون براحا متنفسا، ليمتزج الداخل بما تعالق به من فضاءات متعددة شكلت الجسد النصي، أفضت بسر صاحبها اللغة، هتكت أستار الغيب ليتجلى الخلاف الذي لا يخص سوى صاحبه، حتى أدوار البطولة منسحقة بحكم القدر، فهي بطولة جبرية، لتكتمل الصورة/ الحكاية، وبهذا يظل البطل الحقيقي الأوحد، هو الذات/ الإنسان/ سلمى فايد
عندما كانَ الخِلافُ يخصُّ صاحبَه
وأبطالُ الحكايةِ
لم يكونوا
غيرَ أبطالِ الحكايةِ
قالَ شوفوا ما أشوفُ
وصدّقوه
. . .
. .
استحضار للتاريخ الغيبي، استمطار ذاتي على سماء النص، تجليات ما كان على ما هو كائن، ارتهان باللحظة الغيبية، وفي انتظار شروق ما سيكون مفترضا، ليكمل الإنسان ذاتا وصفة ومعنى، امتداد الأمس يصل ما بين ظلمة الغيب إلى تلك الوردة الحمراء التي تنبت في قميص صبية، والقميص له دلالات متعددة، فبراءة يوسف الصديق كانت مرتهنة بقد القميص، عندما أُلقي الخليل إبراهيم عليه السلام في النار ألبسه جبريل عليه السلام قميصا، القميص كان براءة للذئب من دم يوسف، وبالقميص عاد النور إلى عين يعقوب النبي عليه السلام، فاختيار الشاعرة لمفردة القميص يحمل براءات متعددة من اتهامات وربما تعديات في حق الذات التي تحاول الارتفاق بسموات الكمال الإنساني، وثمة ما يحول بينها وبين الوصول، وإن كان القميص كما سبق دليل براءة وسبيل نجاة، فثمة علاقة تربطه سيميائيا باللون الأحمر/ العذابات المتوالية التي تحملتها الذات في تاريخها وحاضرها وربما مستقبلها، فهل يكون قميص الشاعرة براءة من ..، وسبيل نجاة، وانكشاف وخلاص كقميص يوسف ويعقوب. أبطال الحكاية عند سلمى فايد في نصها نوعان: بطولة حقيقية تسعى إلى الخلاص، وبطولة تكتمل بها الحكاية وحسب، ولذا تلك الصبية تلتزم الرصيف وحدها؛ فهي البطل الحقيقي الفاعل في الحكاية سردا، وفي النص إبداعا، ولكنه إبداع الشاعر الساعي إلى المطلق اللا محدود، ولذا يتحمل في سبيل ذلك عذابات متوالية، وهي تحاول أن تحقق المستحيل/ الأمنية، ويظل القميص مشتتا بين براءة واتهام ونجاة وخلاص، الوحدة والعزلة سمتان تلقيان بظلالهما على النص الشعري، فما الناس سوى رسم بالرصاص، وهذا يشير إلى أن البطولة هنا من حق الشاعرة وحسب، لا يشاركها المعاناة أحد فما هم غير رسوم بالرصاص، يمحقها أي شيء عابر، وتظل الشاعرة بارزة في نصها، فإذا كان الناس رسوما بالرصاص، فالنص مكتوب بغير ذلك، ربما كتب بلون أحمر لا يقبل المحو أبدا، بل قابع في الإثبات يتأبى إلا أن يكون فكان.
أمسُ
كانَ الشارعُ الممدودُ
يحضِنُ وردةً حمراء
تنبتُ من قميصِ صبيّةٍ
تمشي وتلتزمُ الرّصيف
كأنّ أُمنيةً تُموّتُها استحالتُها
وكانَ الناسُ
رسمًا بالرّصاصِ
يمرُّ كالظلّ البعيدِ
خلالَ جِسم الوردةِ الحمراء
لحظةٌ
لتكونَ تجربةُ الخيالِ
الأرضَ بالألوان
والوقتُ/الحقيقةُ
خلفَها
مثل أشباحِ الهواجسِ
يظهرونَ لوهلةٍ
ويغادرون
. .
.
الشاعرة تستحضر ما سيكون، تصحح الرؤية والرؤيا سويا في ذهن المتلقي، فتلك الرسوم الرصاصية لن تظل هكذا، فالشاعرة تتبرأ مما سيكون، تحذير يأتي في صورة مبدعة، الشاعرة تنفخ في روح الرسم الرصاصي ليحيا، حتى لا يتحول الشارع إلى بركة من الدماء، فتلك الخيالات التي تراءات على جسد الوردة، وحاولت قد قميصها، ستؤول تلك الخيالات والرسوم إلى واقع، وكأن الهم البشري ليس ذاتويا خاصا، بل مسؤولية يتحملها الإنسان كيانا واحدا، فالصمت والتزام الرصيف معاناة أخرى تكابدها الشاعرة، فليس ثمة نجاة إلا بالكل، ولن تكون العزلة إلا مفضية لما هو أسوأ، فهل تأتي تلك الرسوم إلى الرصيف لتكسر حد العزلة وتهتك ستر الوحدة، تتمازج وتتداخل الذوات، لينكسر المستحيل على رصيف الأمنيات فتتحقق، أم ستعاني تلك الرسوم نفس المصير، بعد أن يلقى بالقميص على عين الرائي فتنكشف الحقائق، وهنا يدرك الإنسان مصيره.
لكنّ أمسَ الشارعَ الممدودَ
كانَ
البِركةَ الحمراء
فجّرها الرّصاصُ
بِطَلقةٍ
في صدرِ إنسانٍ
تعلّمَ أن يسير
النّاسُ
كانوا مثلَ شَكلٍ باهِتٍ
يبدو وراءَ البركةِ الحمراء

تظل الشاعرة متشبثة بالأمل، فثمة بريق يلمع في الذات، يمنّي النفس، تحاول الروح الفرار من عزلتها في بر يابسها، إلى اخضرار الأمنيات، ولكن هل تظل الامنيات حبيسة نصها/ ذاتها، أم ستنفحر كانفجار اللغة في النص وتتشظى حتى تنير العالم الباهت باللون الاحمر/ الحرية/ الخلاص. تتحول الرسوم إلى أبطال حقيقيين، تتجلى شخوصهم على المسرح/ الحياة، ويجبرون المؤلف على تغيير المشهد برمته، ويمتلك الإنسان حقه في تغيير المصير البشري، وتشرق شمس الخلاص على خشبة المسرح، ويكون الإنسان هو المؤلف والبطل والجمهور.


"مشهدٌ
حتى تشوفَ الأرضُ شيئًا من جَمَالٍ
في الجريمةِ"

والشّهودُ/ الناسُ
كانوا من وراءِ المسرحِ المُمتدّ
مثل مساحةٍ
بيضاءَ أحيانًا
سوداءَ أحيانًا
هنالكَ
قالَ شوفوا
لم يشوفوا
غيرَ شيئٍباهتٍ
ما بينَ الأحمر والأحمر.
هذا النص الفريد المدهش تغلي من تحته تجربة ذاتية خاصة، ولكنها تلقي بنيران التجربة على الإنسان عموما، بعمق وفلسفة ومنطق، مدهش مبدع، هذا النص علامة فارقة ما بين الشعر واللا شعر، فحينما يحمل الشاعر / الذات هم البشرية جمعاء، ويصهرها في نص مادته الخام، تجربة ذاتية، ولكنها ذات صلة وطيدة بالعالم كله، فهكذا يكون الإبداع وهكذا يكون الشعر الذي أنضجته نيران التجربة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى