مديح الصادق - (كل سالفة ولها رباط)... مغامرات (أبو حصان)

لبعض النساء في عشقهن غرائب تفوق حدود الخيال، وقد سمعنا وقرأنا عن ذلك الكثير، فليس شرطاً أن يكون الرجل المُغرَم به فائق الجمال، أو ثرياً، أو كليهما؛ ليستحوذ على مشاعر امرأة جميلة، سليلة عائلة ذات موقع اجتماعي أو اقتصادي يعصى على أي كان التقرب منه بأي شكل من الأشكال، فكم من جميلة أُغرمت بمن لا يناسبها في الشكل والمظهر، وكم منهن من عاندت العشيرة والأهل واقترنت بفقير لا يملك قوت يومه؛ كتلك التي نسيت أنها ابنة شيخ العشيرة ووقعت في شباك فلاح لا يملك سوى (الكلب) وموقد النار، وصوت شجيّ تردده ضفاف النهر وهو يُنهي مواله بعبارة (تدرين بس الجلب عدي) (أعبري يا زينة الماي دافي) (تعبرين لو أملخ شعفتي)، وقد عبرت المسكينة النهر، في أربعينية الشتاء تاركة الجاه والخدم والجواهر؛ لتلحق بمن أُغرمت به ولم يتبعهما سوى كلبه الذي مثل صاحبه أهلكه الجوع.
لبعض الرجال أيضا غرائب في اختيارهم؛ بل لولعهم بمن يحبون، فذلك الذي أفنى عمره في انتظار حبيبة سمع عنها من الرواة القادمين من بلدتها، وآخر كان مولعاً بمن لا تستحق أن تلفت انتباه الديوان إن مرَّت أمامه بقصد، ولا يكفّ عن ترديد موَّاله: (كالوا صفيرة، كلت الزعفران أصفر)، كما أن غيره يقضى النهار- على طوى- منتظرا دون جدوى أن تطلّ من الشباك ابنة السلطان، أو يكحل ناظريه بمشهد ثوبها إن تدلّى على حبل الغسيل، ومن ذلك الكثير الكثير.
أما مشحوت فقد أُغرم بالتاجرة (بسماية)، أحبّها حباً ملك العقل منه والقلب، كل كيانه، هجر الدار والزوجة والصغار، تغمره السعادة حين تناديه وتأمره أن يكنس عتبة الدار، يملأ الجرار من ماء النهر، أو يحمل على ظهره ما تجلبه من بضاعة في سفراتها للمدينة مقابل أن يسمع صوتها حين تناديه بغنج ودلال، أو يسترق السمع من خلف الباب عندما مع نفسها تغني لوحيدة خليل أو زهور حسين؛ فتثور الثائرة عنده محاولا كسر مزلاج الباب واقتحامه على من فيه؛ لكن تخونه الشجاعة ولا يجرؤ على غضب الذين بهم أُغرم، فلا هو قد قلَّد مشي الحمامة المُتَّزن، ولا بمشيته المعتادة احتفظ الغراب.
لم يقف طموحه عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى أنه جند نفسه ليعمل (ملاّحاً) ودون مقابل في المركب النهري الذي تسافر فيه معشوقتة كل أسبوع للتبضع، إذ تنتظرها نساء الحي والعرائس، لتجلب لهن ما لا تجرؤ النساء على الإفصاح في طلبه من البائعين الرجال، لقد استنفذ كل الحيل والألاعيب كي يستدرج بسماية لتكشف الخمارعن وجهها ولو للمح بصر؛ فيطمئن على أن اختياره في محله، وأنه قد كسب الرهان الذي باع من أجله الأهل والأصدقاء، وأضاع فيه جهد الليل والنهار، هاجراً البيت والزوجة والصغار، عارٌ عليه إن لم يكسب الرهان، وينعم بالجاه والسمعة والمال.
أيّة خيوط في جعبته بها يتعلق كي ينال الشمس؟ كمٌّ هائل من النكات التي لم يُجد لها نفع، رداء مقطع الأوصال، أرغفة من خبزالشعير، كيس من تمر الزهدي الذي يُحدِث ما يحدثه في البطن من غازات، وعليه أن يُشهر آخر أسلحته- والأمر لله- فها هو (الحصان) في كرشه قد تهيَّأ للانطلاق بكل عنفوان، والنتيجة معلومة لمن خبِر التقاليد في الديوان، يُكسَر فنجانه، لا مكان له بين الجلّاس، العار يلحق الأولاد والأحفاد، تسمى الذرية (أولاد أبو حصان) والزوجة تعزف عن مجالس النساء تحاشياً لما تواجهه من سخرية وازدراء.
إنه لصعب جدا الاختيار في مثل هذا المقام قد يوازي الانتحار؛ لكن الرجل اليوم قد حسم القرار، لابد أن تزيح الخمار عن وجهها وعلى حقيقته يراه، أمسك جرة الماء، فتح الغطاء، بخطى وئيدة مدّها إلى معشوقته المبرقعة، تمطّى خلفاً، ضغط الإبهام على السرة، انطلق (الحصان) مدوِّياً، وواحد آخر، والثالث أعقبه؛ انفجرت ضحِكاً (بسماية)، رددت قهقهاتها ضفاف النهر، هاهو الفارس مشحوت يراقبها، مالت جانباً؛ انزاح الخمار، انكشف السرّ خلفه، (بشاعة لا تُطاق)؛ انهار هلعاً ذلك المسكين، ولم ينطق إلا بجملة: (أنا غلام ابوى، ما تسوين تيسي)، نعى نفسه، خسر الرهان، ألقى بنفسه في النهر، ولم يفز إلا باللقب الذي أورثه الأولاد والأحفاد، (أبو حصان).

بقلم مديح الصادق...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى