فاسيلى شوكشين - فاجعة!.. ترجمة: د. أحمد الخميسي .

فى وقت معين من الصيف تَذيع عطور نبات الشيح حتى يوشك المرء أن يفقد عقله. يسود الهدوء ويشع ضوء القمر بينما يغمر روحك قلق مضن. فى تلك الليالى الرحبة المضيئة، وفي ذلك الجو المشبع بعطر لاذع يحلو للمرء أن يسرح بأفكاره في حرية وجرأة. ولعله لا يسرح وإنما تتملكه أنواع من الرؤى ويحتشد في نفسه شعور الترقب لشىء ما.
اختفيتُ بين الأعشاب خلف بساتين الخضروات، وقلبي ينوء بسرور مبهم لا أعرف له سبباً، خسارة! إن هذه الليالى قليلة في حياتنا. ليلة من ذلك النوع انطبعت في ذاكرتي مدى الحياة. كان عمري حينذاك اثني عشر عاما، جلستُ في البستان عاقداً ذراعي حول ركبتي وأنا أحدق إلى القمر بثبات حتى طفر الدمع من عينيي. فجأة سمعتُ صوتاً غير بعيد لإنسان يبكي بهدوء. التفت مستديراً فرأيت جارنا العجوز نيتشاي، إنه هو، نحيف صغير الجسم يمشي في قميص طويل من الخيش ويبكي متمتماً بأشياء غير مفهومة. لقد ماتت زوجته "براسكوفيا" منذ ثلاثة أيام مضت، كانت عجوزاً هادئة الطبع وديعة، عاشا وحيدين تماماً بعد أن تفرق أبناؤهما. وعاشت الجدة براسكوفايا لا يشعر بوجودها أحد، كذلك لم يشعر بموتها أحد حين فارقت الحياة. عرفنا بموتها ذات صباح، وأخذ الناس يرددون: "براسكوفيا.. العزيزة.. تصوروا؟".
حفروا لها قبراً، أنزلوها فيه، أهالوا عليها التراب، وانتهى كل شيء، نسيت الآن هيئتها. كانت تدور حول السور تصيح على الدجاج: "تسيب ـ تسيب ـ تسيب"، لم تتحرش بإنسان في القرية أبداً، ولم تسب أحداً قط. كانت موجودة، ثم اختفت، ذهبت عن عالمنا. في هذه الليلة المضيئة الجميلة، أدركت وطأة ما يحسه المرء حين يصبح وحيداً، حتى حين يلفه هذا الجو الرائع والدفء والأرض الأم التى لا تبعث على الخوف.
تواريتُ، كان قميص العجوز طويلاً يصل إلى ما بعد ركبتيه، أبيض باهر البياض في ضوء القمر، أخذ يمشي ببطء وهو يجفف عينيه بكمه العريض. كنت أشاهده بوضوح من مكاني، فقد جلس غير بعيد.
ـ طيب.. سأهدأ الآن.. ونتحدث بالراحة ـ قال العجوز بهدوء وهو غير قادر على وقف دموعه ـ اليوم الثالث لعذابي، لا أدري ما أفعل بروحي، أسقط في يدي، افعلي أي شيء، سكن قليلاً.
ـ يا للمرارة يا بارسكوفايا .. لماذا لم تنطقي بكلمة في اللحظة الأخيرة؟ هل كتمت عني زعلاً؟ لو كنتِ بحت لي لصار الأمر أهون، أما الآن فإنني أفكر و.. آخ.. آآه.. ـ سكت ـ غسلناكِ وكفناكِ مثل أحسن الناس، جهز لكِ العراب سيرجي نعشاً جيدا .ً. صحيح كان الناس قلة .. أعددنا وجبة الأرز بالسكر. . وأريناكِ عند طرف المقابر حيث ترقد "دادوفني".. في منطقة جافة.. حسنة، ونظرتُ لنفسي مكاناً هناك .. لست أدري ماذا أفعل بنفسي وحدي؟ هل أغلق الكوخ بالمسامير وأسافر إلى ابني "بيتيا"؟ إن كان على ابنى فإنه لن يعترض، لكن امرأته .. أنتِ نفسك عارفة أنها لن تتفوه بشيء لكن اللقمة ستقف في حلقها .. السفر خطر إذن .. يا للمصيبة! بم تنصحيني؟
ساد الصمت.
وتملكني الخوف ... توقعت أن الجدة باراسكوفايا ستنطق الآن بصوتها الحنون الصابر .. استمر الجد نيتشاي: أضربُ أخماساً فى أسداس.. عند من أعيش؟ يا رب حبلاً أشنق به نفسي وأستريح .. ليلة البارحة نعست قليلا وشاهدتك كما لو كنت تدورين حول السور تحملين بيضاً في غربال.. دققت النظر فوجدت أنه ليس بيضاً، لكن كتاكيت صغيرة صاحية. وبدا لي أنكِ تلتهمينهم واحداً بعد الآخر. تأكلين وتمتدحين مذاق الكتاكيت! يا إلهي.. يا للرعب. استيقظتُ وأردت أن أنبهك لتفيقي من نومك ناسياً أنكِ لم تعودي موجودة. يا باراسكوفيوشكا يا حبيبتي.. فلتمس كلماتي روحك ذاتها.
وطفق الجد نيتشاي ينوح بصوت مرتفع مرة أخرى.
حينئذ دب الصقيع حتى في عظامي، صار يعوي بطريقة غريبة، منخرطاً في أنين ممتد: هيه.. هيه.. أوو.. ذهبتِ عني.. وما فكرت.. أين أذهب أنا.. آه.. لماذا لم تتكلمي؟ لكنتُ قد استدعيت طبيباً من المدينة.. يشفى الناس على أياديهم.. لم تنطقي بشىء.. رقدت ومت! يمكنني أنا الآخر أن أفعل ذلك .. تمخط نيتشاي، جفف دمعه وتنهد: هل ذلك صعب عليك يا باراسكوفيوشكا؟ هل ترغبين في العودة إلينا هنا؟ إنكِ تترددين عليّ في نومي.. تعالي لي في أحلامي، تعالي ولو باستمرار لكن في صورة طبيعية.. يعرف الشيطان وحده ما هي حكاية الكتاكيت في الحلم الأخير..
هنا بدأ العجوز يهمس بكلامه، فلم التقط نصف ما قاله.
ـ بل كدت أقدم على الحرام.. وما في هذا؟ تقع مثل هذه الحوادث، أنا سمعت بذلك، يدفنون الشخص ويتضح أنه لم يمت. في قرية "كراى أوشكين" دفنوا امرأة لكنها أخذت تئن فنبشوا القبر وأخرجوها. في الليلتين المنصرمتين.. كنت أطوف حول قبرك.. أرهف السمع لكني لم أستمع إلى شيء.. وكنت قد حزمت أمري بالفعل.. يقولون إن نوماً ثقيلاً يجثم على الإنسان في بعض الحالات.. ويفكر الناس جميعاً أنه توفي وهو لم يمت.. بل نائم فقط؟
عند هذا الجدارتعبت إلى أقصى درجة.
شرعت أزحف.. وأزحف.. هارباً من بستان الخضروات. وانطلقت أجري إلى بيت جدي. حكيت له كل شيء. ارتدى جدي ملابسه، وعدت معه نقطع نفس الطريق.
سألني جدى مدققاً: هل بدا أنه يكلم نفسه.. أم كأنما يتحدث معها؟
ـ بل كان يتحدث معها، وجعل يسألها النصيحة كي تدله على ما يفعل.
ـ سوف يُجن ذلك التيس العجوز. لا تستبعد أن ينبش القبر فعلاً. يجوز أنه شارب خمرة؟
ـ لا، إنه حين يسكر يغني وينبسط ويتذكر ربه .. كنت أعرف ذلك.
حين تناهى وقع خطواتنا إلى نيتشاي لزم الصمت .. صاح جدي بشدة: مَن هنا؟ .. مر وقت طويل ونيتشاي لا يجيب.
ـ من هنا! إني اسأل؟
ـ ماذا تريد؟
ـ أهو أنت، نيتشاي؟
ـ نعم..
اقتربنا منه. كان الجد نيتشاي جالساً على الأرض متربعاً على الطريقة التترية. رفع عينيه متطلعاً إلينا من تحت. كان مستاءاً للغاية.
سأله جدي: من كان هنا سواك؟
ـ أين؟
ـ هنا.. لقد سمعتك.. كنت تتكلم مع شخص آخر.
ـ هذا ليس شغلك.
ـ طيب.. سأعثر على نبوت جامد أطاردك به الآن حتى باب بيتك لتجري فلا تنظر خلفك. رجل عجوز.. وتجن؟ ألا تستحي؟
ـ إني أخاطبها هي.. ولا أضايق أحداً..
ـ مع من تتحدث، إنها لم تعد موجودة، وليس هناك من تتحدث معه.. ماتت وواريناها التراب.
ـ بل إنها تتكلم معي.. وقد سمعت صوتها ـ أخذ نيتشاي يعاند.
ـ لا داعي لتعطيلنا.. ما الذي دفعكم إلى الحضور إلى هنا والتصنت علينا؟
ـ طيب فلنذهب..
قال جدي وهو يرفع العجوز من على الأرض، وأردف: لنمش إلى بيتي، عندي هناك زجاجة فودكا منزلية، سنشرب وتخف عنك همومك.. لم يمانع الجد نيتشاي في السير معنا. قال يكلم جدي: ما أصعب وضعي أيها العراب. لم تعد بي قوة.
ثم مضى بعد ذلك أمامنا وهو يتخبط في مشيته ويجفف دمعه بأكمام قميصه طول الوقت. رحت أتابعه ببصري من الخلف وهو يتحرك أمامي.. ضئيلاً، قصير القامة، قضت عليه الفاجعة. انهمرت دموعي أنا الآخر، بكيت بصوت خافت حتى لا يسمعني جدي ويصفعني على قفاي. أحسست الشفقة على الجد نيتشاي. كان جدي يهون عليه: من حياته سهلة؟ من الذي يهون عليه دفن إنسان حبيب في التراب؟ فإذا رقد الجميع من المصيبة إلى جواره.. فكيف ستسير الحياة؟ حدق فيّ.. كم مرة كان لابد أن أموت فيها؟ تحمل. تماسك وتحمل.
ـ خسارة.
ـ طبعاً خسارة.. لا يقال إلا ذلك .. ولكن ليس في وسعك الآن مساعدتها بشيء .. فقط تعذب نفسك. ومحتمل أن تموت. تماسك.
ـ أجل أعرف ذلك.. لكن قلبي احترق، لا شيء الآن يطفىء ناري. حاولت أن أجرع الخمر، لكن نفسي لا تتقبل شيئاً.
ـ ستتقبل. لماذا لم يجيء ابنك بيتيا إليك ليحضر الدفن؟ بالنسبة لابنك الآخر فإن المسافة بينكما طويلة، لكن بيتيا..؟
ـ مسافر في مأمورية. يا للشقاء.. أيها العراب.. عمري ما فكرت أنها ستموت.
ـ هكذا نحن دائماً.. يعيش الإنسان بيننا ويبدو وكأن هذا هو الوضع الطبيعي ولا بد أن يستمر.. فإن مات نتحسر عليه. أجل.. لكن أن يُجن الإنسان من الكارثة فهذه أيضاً حماقة.
في هذه الدقائق تبددت مني الليلة الهادئة الصافية، ولم تعد تساورني أية خيالات، وانقضت تلك السعادة المضيئة، غير المفهومة. وأسدلت أشجان هذا الإنسان النحيف قصير القامة ستاراً على العالم الجميل. أذكر فقط أن نباتات الشيح كانت كما من قبل تذيع في الجو رائحتها الحادة والمرة.
استضاف جدي العجوز نيتشاي ليبيت عندنا. هناك رقدا على الأرض متجاورين، وتغطيا بمعطف من فرو الخرفان.
قال له جدي: سأحكى لك حادثة واحدة.. وبصوت هادئ أخذ جدي يقص: أنت لم تحارب يا نيتشاي ولا تعرف ما جرى.. كانت الحالة حينذاك أفظع بما لا يقاس يا أخي، اسمع هذه القصة: كنت أخدم في الجيش ممرضاً أقوم بنقل الجرحى إلى المؤخرة، وذات يوم.. كانت عربتنا الضخمة "ستوديو بيكر" تنهب الأرض، مكتظة بالجرحى الذين تصاعدت أصواتهم بأناتهم وهم يرجون السائق أن يسير ببطء، وكان السائق نيكولاي إيجرينيف من نفس عمري، حاول أن يقود السيارة بسرعة مناسبة ومعقولة، ذلك أن المبالغة في التمهل كانت مستحيلة، لأن قواتنا كانت تنسحب وقتها ونحن معها. المهم أننا مضينا نقترب من مفارق طرق، ورأينا على بعد أمامنا، عربة صغيرة واقفة وإلى جوارها ضابط يلوح بيديه وهو يصيح: قف.. أقول لك قف.. وكان قد صدر لنا أمر صارم: لا تتوقفوا، ولو طلب ذلك الشيطان شخصياً.
كانوا على حق.. ما يزال كثير من الأحباء يرقدون هناك.. قل لو كان جيشناً في حالة هجوم لهان الأمر.. أما ونحن ننسحب؟ المهم مررنا قرب العربة الصغيرة مواصلين طريقنا. لكن العربة الصغيرة انطلقت تلاحقنا حتى تقدمتنا، وخرج منها الضابط ووقف في منتصف الطريق ومسدسه في يده. لم يكن بوسعنا أن نقوم بشيء، فتوقفنا. اتضح أن ثمة ضابطاً جريحاً يجلس في العربة الصغيرة، وأرادوا أن ينقلوه لإسعافه ولم يكن في استطاعة الضابط صاحب المسدس أن يوصله هو، لأن عليه أن يسلك الطريق المعاكسة. استطعنا بطريقة ما أن نحشر الجريح فى جوف عربتنا المكتظ بمعاونة الضابط الآخر. في ذلك الوقت كان نيكولاي السائق يجلس في كابينة القيادة إلى جوار نقيب جريح جلس شبه راقد، وكان نيكولاي المسكين يمسك بعجلة القيادة بيد، ويسند النقيب الجريح بالأخرى. أما الشخص الذي ساعدناه على صعود سيارتنا، فكان مسكيناً، وكان من الواضح أنه لم تبق أمامه إلا ساعات معدودة يقضيها في هذه الدنيا. كان رأسه غارقاً في دم جاف. شاب صغير، برتبة ملازم. لعله بدأ يحلق ذقنه من زمن بسيط. حملت رأسه، ووضعتها على ركبتي، قلت لعلني بذلك أساعده.. لكن تساعد من؟.
وصلنا إلى المستشفى العسكري، وهناك شرعنا فى إخراج الجرحى من السيارة..
سعل جدي، وصمت. أشعل سيجارة وواصل:
ـ جعل نيكولاي يساعدني فى إخراج الجرحى، ناولته الملازم، وقلت له: " هذا الشاب انتهى.. خلاص" فتطلع نيكولاي إلى وجه الملازم.. هيه.. أطبق الصمت مرة أخرى. سكتا طويلاً .. سأل نيتشاي بصوت خافت: ترى أكان الملازم هو ابن نيكولاي حقاً؟ أجاب جدى: نعم ابنه.
ـ يا إلهى!
ـ هووف.. تمخط جدي، وأخذ يسحب أنفاساً من سيجارته عدة مرات متعاقبة.
ـ وماذا حدث بعد ذلك؟
ـ دفناه.. وأعطى رئيس الكتيبة إجازة أسبوع لنيكولاى الذي سافر إلى قريته. هناك.. لم يخبر زوجته أن ابنها مات. أكثر من هذا أخفى نيكولاى كل الوثائق التى تخص ابنه حتى الوسام الذي منحوه له، ومكث فى القرية أسبوعاً ثم رحل.
ـ ولماذا لم يخبرها؟
ـ يخبرها؟! هكذا على الأقل سيظل لديها أمل.. أما لو قال لها لانتهى بذلك كل شيء. لم يستطع أن يقول لها. عدة مرات شاء أن يكلمها. ولكنه لم يستطع.
تنهد نيتشاي مرة أخرى: يا إلهي.. يا إلهي.. وهل ظل نيكولاى على قيد الحياة؟
ـ نيكولاي؟ لا أعرف.. فرقتنا الحرب، ووزعتنا في أماكن مختلفة.. هذه هي القصة. ابن الإنسان! هل هذا هين؟ وخاصة إذا كان شاباً صغيراً؟! .. لزم العجوزان الصمت.
كان ضوء القمر المهيب، الساكن، ينسكب، وينسكب في الشبابيك. كان القمر منيراً! وسيان أفرحة كانت على الأرض أم فاجعة.. يظل القمر مضيئا.ً

~تمت~

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى