إيفان بونين - حفلة لا تنسى.. ترجمة: محمود عبد الواحد

لم تكن حفلة عيد الميلاد التي شهدتها موسكو لتختلف عن غيرها من الحفلات، ولكن كل ما ضمته بدا لي، ذاك المساء، ممیزًا وخاصًا الحشد البشري ذو الثياب الأنيقة الذي كان يتعاظم مع حلول منتصف الليل، الصخب المسكر لحركة الجمهور على الأدراج، تزاحم الراقصين في القاعة المضاءة بثريات كريستالية محجرة، دوي الأبواق الموسيقية التي كانت تصاحب الكورس، مرحبة بالضيوف، مغطية بضجيجها كل شيء. وقفت طويلا في الحشد، عند أبواب القاعة، مركز انتباهي، منتظرًا حلول موعد قدومها، فقد قالت لي من العشية إنها ستأتي في الثانية عشرة. كنت شاردًا للغاية، بحيث أن الداخلين إلى القاعة، والخارجين منها، هاربين من حرها الخانق، كانوا يصدمونني باستمرار. کنت، ضمن هذا القيظ الاحتفالي، والقلق الذي انتظرها به، مقررا أن أقول لها كلمة أخيرة، حاسمة، أحس بكل ما فيّ يحترق: الفراك، والصدار وظهر القميص والياقة والشعر المُسرح الأملس. جبيني المغطى بالعرق فحسب كان باردًا کالجليد، وكنت أحس ببرودته، وبعظمه بل و ببياضه أيضًا، هذا البياض الذي لا بد أن يشبه، فوق العينين السوداوين الحادتين، بياض القبور. كان كل شيء يزداد حدة فيّ، فأنا مريض بحبها منذ زمن بعيد، وكنت أخاف على نحو غامض، وكأنني مسحور، جسدها العارم وشعرها الرائع وشفتيها المكتنزتين، ورنين صوتها، وأنفاسها. كنت أخافها، وأنا الشاب القوي ذو الثلاثين عاما، والضابط الذي استقال لتوه. فجأة نظرت برعب إلى الساعة، فتبين أنها تمام الثانية عشرة، فاندفعت إلى الأسفل، عبر الدرج، معاكسة الجمهور الصاعد من القاعة السفلى، التي كان يهب منها برد صقيعي اخترق كل جسدي عبر الفراك - لم أتعود خفته ورقته أبدًا بعد المعطف العسكري - ركضت، غير آبه بالحشد، بسرعة فائقة وانسياب لين، ومع ذلك تأخرت: كانت تقف وسط القادمين الجدد الذين كانوا يخلعون معاطفهم، في فستان أسود من الدانتيلا، عارية الكتفين، وقد لفت شعرها العالي ذا التسريحة الاحتفالية بمنديل أورنبرغي، وعيناها تلمعان من تحته دون تعبير عن شيء. أزاحت المنديل، ومدت لي يدها ذات القفاز الأبيض الطويل الممتد حتی كوعها بصمت كي أقبلها، وأنا، من الرعب لامست القفاز بشفتي فحسب، فأمسكت بذيل ثوبها، ولفت يدها حول كتفي بصمت، وبصمت أيضًا صعدنا الدرج وأنا أقودها ككائن مقدس. ثم سألتها، لسبب غير مفهوم، بشفتين جافتين:
- هل ترقصين هذه الأيام؟
فأجابت مضيقة عينيها، ناظرة من فوق رؤوس الصاعدين أمامنا، باقتضاب مبالغ:
- کلا!
عندما دخلنا القاعة ظلت واقفة قرب الباب، مستمرة في الصمت وكأنني غير موجود. لم أستطع ضبط نفسي، خفت ألا تتاح لي فرصة أخرى، فرحت، فجأة، أقول كل ما كنت أعد نفسي القوله طوال المساء. كنت أتحدث بحرارة وإلحاح، ولكن بصوت هامس ووجه جامد كيلا يلاحظ أحد حرارة حديثي. أما هي فكانت لفرحتي تسمعني باهتمام من دون أن تقاطعني، متفرجة على الراقصين وهي تلوح بمروحة من ريش النعام الأدخن.
- أعلم - قلت بوجه جامد و أنا أزداد حرارة وسرعة، معذبًا في إخفاء تلك الابتسامة المرتعشة على شفتي من فرط السعادة لكونها تسمعني بصبر واحتمال، إذن فهي تتظاهر فحسب بأنها مشغولة بتأمل الراقصين - أعلم - قلت وأنا لا أصدق كلماتي - أنني لا أستطيع أن آمل بشيء... فأنت اليوم مثلا رفضت أن أمر لمرافقتك.
وهنا قالت بلا اكتراث ومن دون أن تنظر إليّ:
- الحوذي يعرف الطريق إلى هنا جيدًا.
اعتبرت هذا مجرد مزحة وواصلت بإلحاح:
- أجل، أنا لا أنتظر منك شيئًا، يكفيني أنني واقف إلى جانبك.. تكفيني تلك السعادة الضئيلة في أن أبوح لك أخيرًا بكل مشاعري الحبيسة في صدري... هذا وحده - غمغمت ماسحًا جبيني المتجلد، من دون أن أزيح بصري عن رموشها الطويلة الملطخة بذرات البودرة، و ثغرها - هذا وحده فقط...
رفرفت، بين الراقصين، فتاة مرحة حمراء الشعر، راكضة صوبنا، تحمل آخر باقة لديها من السوسن في سلة مجدولة، فنظرت من دون تفكير إلى النمش الذي يملأ وجهها، ووضعت بسرعة في السلة، خمسين روبلاً من غير أن آخذ الباقة. ابتسمت الفتاة بلطف وانحنت ثم ركضت مبتعدة.
أردت متابعة حديثي لكنها سبقتني. ها قد نطقت أخيرا:
- كم أضجرتني هذه الدمية الحمقاء، لا يخلو احتفال منها. قالت هذا وهي تواصل التلويح بمروحتها على وجهي، خافقة الهواء الدافئ عليها، ناظرة إلى حسناء شقراء، تراقص ضابطًا جيورجيًا، مقتربين منا مع غيرهما من الراقصين، ثم أردفت:
- مؤسف أنك لم تأخذ السوسن، كان بودي أن أحتفظ به كذكرى لهذه الحفلة .. ولكن مع ذلك لن أنساها أبدًا.
تنفست بصعوبة من البهجة، وغمغمت، بصعوبة أيضًا، مخفضًا بصري:
- لن تنسيها؟
فأدارت رأسها نحوي قليلاً:
- أجل، لقد سمعت اعترافك هذا أكثر من مرة، ولكنك الآن حزت، کما عبرت أنت، على هذه «السعادة الضئيلة » بالبوح أخيرًا «بكل مشاعرك تجاهي.» سوف لن أنسى هذه الحفلة لأنني أنا أيضًا كرهتك «بكل مشاعري» أنت وحبك البهيج هذا. قد يبدو أنه ما من حب رائع يدغدغ القلب كحبك هذا، لكنه يصبح فوق طاقتي على الاحتمال عندما لا أستطيع مبادلتك إياه. أنت تظن أنني أحب رجلاً آخر، وأنني لهذا باردة وعديمة الرحمة تجاهك. أجل أنا عاشقة. أتعرف من هو معشوقي؟ إنه زوجي الذي تحتقره، صحيح أنه أكبر مني سنًا بمرتين، وأنه السكير الأول في كل الفوج، وأنه قرمزي دائمًا من الشرب، وفظ كضابط صف، وأنه لا يفارق تلك العاهرة المجرية، لكنني مع ذلك أعشقه.
انحنيت لها ورأسي تدور، وانسحبت ببطء، عبر الحشد، إلى فسحة الدرج، مفكرًا بأنه لم يبق أمامي سوى الانتحار بعد هذا الموقف المخزي. كان عليّ في الحشد أن أتجاوز رجلا کهلا، وقف بلا حراك على قدميه المتباعدتين، عاقدًا يديه خلف ظهره، ممسكًا بقبعته، ضخمًا فظ المظهر، يرتدي فراكًا عريضًا باليًا، تعلو رأسه تسريحة فلاحية. وفي اللحظة نفسها مرت به فتاة نحيلة طويلة تحمل بيدها المهتزة قليلاً مروحة صدفية مفتوحة، ترتدي فستان أحمر زاهية، غطت فمها بالمروحة وقالت بصوت میت مبهم النبرات: (غدًا في الرابعة) ثم اختفت في الحشد متوردة الوجه. ظل واقفًا بثبات على قدميه، ملوحًا خلف ظهره بالقبعة، ثم أطلق ضحكة رضا عن النفس وغطى عينيه، علامة أنه سمعها. فتقدمت منه بحدة وتسمرت من حسد مسعور وقلت بصوت متقطع، مثل رجل فضائحي عريق:
- أيها السيد اللطيف، إنني أشمئز منك بشكل فظيع.
فرفع حاجبيه مندهش:
- ما بك ومن حضرتك...؟
قاطعته منفعًا:
- الآن أعلمك من أنا، ولكن بودي أولاً أن أقول لك إنك جلف وإنني أدعوك للمبارزة.
فحرك قدميه واستقام:
- أنت سكران أم مجنون؟
تدخل الناس وفرقوا بيننا، فألقيت في وجهه ببطاقتي ومضيت عبر الدرج إلى الأسفل. لاهثًا، باحتفالية مسرحية تليق بمجنون.
طبعا لم تأت من طرفه أية دعوة مماثلة للمبارزة.

~تمت~

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى