استأثر التهديد الكوني الناجم عن تفشي جائحة كورونا بجانب أساس من طبيعة قراءاتي خلال الأشهر الماضية من هذا العام. واقعاً لا يقتصر الانشغال بالوباء الراهن، بالنسبة لبعض الناس، على تهديده الصحي الآني والمباشر للأفراد والمجتمعات. نعم، هذا التهديد أساسي من حيث خطورته، وما ينجم عنها من قلق، لكن نتائجه الأوسع على حياة الناس والمجتمعات هي الجانب الأكثر أهمية الذي يستحوذ على تفكيرنا ونوع اهتمامنا وقلقنا بالوباء وبالحياة التي باتت مهددة جراءه.
لا يمكن الفصل ما بين الحالين؛ حال الأثر الراهن للتهديد المباشر، وحال التفكير بالمستقبل البشري. لكن النظر إلى المستقبل من لحظة أزمة راهنة، كأزمة الوباء، يجعل هذا النظر محكوماً إلى حد ما بالطبيعة التي نفكر من خلالها بالمستقبل. هذه نتيجة مؤكدة لبعض طبائعنا الإنسانية التي نُرغم من خلالها على التفكير بالمستقبل كلما كانت حياتنا محكومة بتهديد مباشر.
الأدب، كمعطى جمالي وجداني، يقدّم أمثلة نصية كثيرة عبر التاريخ على هذا الجدل ما بين أزمات الراهن، الشخصية والعامة، والتفكير بالمستقبل، لعل ملحمة كلكامش هي العمل الأدبي الأقدم والذي تكرس لهذه الطبيعة؛ موت أنكيدو، محنة صديقه كلكامش إزاء فاجعته بصديقه، ومن ثم تفكير كلكامش بالمستقبل وسعيه من أجل الخلود. هذا ما جعل من نص الملحمة عملاً خالداً، حيث انشغاله بقضية بقيت خالدة بخلود البشر على هذه الأرض.
في المكان نفسه، في بلاد الرافدين، الذي أنتج هذه الملحمة يأتي عمل أدبي كبير آخر، إنما بعد عصور، وذلك مع ولادة (ألف ليلة وليلة). في هذا العمل، وبخلاف ملحمة كلكامش، يحضر الفن كوسيلة لدرء الموت، لتأجيله. ثيمة الكتاب قائمة على التهديد بالموت والسعي من أجل تفاديه، على نجاح شهرزاد، بطلة العمل الأدبي، في (الاحتيال) على الموت وتأجيله بمواصلة الحكي، بابتكار القصص وسردها. يخفق كلكامش بالظفر بعشبة الخلود بينما تنجح شهرزاد بدحر الموت بالاستعانة بالأدب واختلاق حكاياته.
تحضر سطوة (ألف ليلة وليلة) عند ولادة كتاب أدبي آخر، جاء بعده بقرون وبمكان آخر، في إيطاليا، وذلك مع ولادة (الديكاميرون)، العمل الأدبي الخالد لمؤلفه جيوفاني بوكاشيو. وضع بوكاشيو هذا الكتاب في القرن الرابع عشر، وكان نتيجة أدبية خلاقة في ظرف وباء خطير، وباء الطاعون الذي اجتاح بلده إيطاليا حينها. وفي هذا الكتاب يجري اللجوء إلى سرد الحكايات كوسيلة لجعل حياة العزلة والنأي عن المجتمع المصاب بالوباء حياةً قابلة للعيش والاستمرار فيها، وذلك في قصر يعتزل فيه عشرة من الفتيان والفتيات عن المجتمع من أجل الحفاظ على حياتهم.
قرأت الترجمة العربية لهذا الكتاب وذلك في أيام الحجر والعزلة في منزلي خلال الأسابيع الأولى للوباء. إنه كتاب يعتمد القصة الإطارية، هذه استعارة تقنية أكيدة من (ألف ليلة وليلة)، سرد الحكايات من أجل إدامة الحياة. ولعل الفارق التعبيري ما بين الحكايات العربية والحكايات الايطالية هو في هدف الحكي الذي يشكل قوام العملين الأدبيين. ففيما تؤجل وتدحر شهرزاد الموت الذي يهددها شخصياً من خلال سرد الحكايات الممتعة فإن فتيان وفتيات (الديكاميرون) ظلوا يديمون جمال عزلتهم ونأيهم عن الموت من خلال سرد مماثل للحكايات. تدرأ شهرزاد شهوة السلطة الغاشمة وشراهتها للقتل بمواصلة الحكي، بينما تسوغ حكايات الديكاميرون حياة العزلة والنأي عن الوباء وموته المتوقع بخلق الحكايات.لا يحضر الوباء في كتاب جيوفاني بوكاشيو إذا استثنينا مروراً سريعاً عليه يأتي في مستهل الكتاب وذلك حين يروي بوكاشيو النتائج المفزعة للوباء بمدينة فلورنسا. (الديكاميرون). يجعل الكاتب من هذا المرور السريع على الوباء مدخلاً ليشيح بفعله بأبطاله عن الطاعون، بالاندفاع بهم في عالم من الخيال وسرد الحكايات التي تديم لطف العيش البشري المشترك في حياة صحيحة، إنه كتاب للإمتاع في زمن الخوف، كتاب لتوسعة قيمة الشراكة الإنسانية حين تكون هذه الشراكة داعياً للتهديد وانعدام الثقة والاطمئنان ما بين البشر. لقد بدأ هذا الكتاب، بالنسبة لي، في ساعات قراءتي له مؤخراً في ظرف العزلة والحجر المنزلي، على أنه كتاب موضوع فعلاً لإمتاع قرائه في زمنه، ممن كانوا يعيشون ظروفاً تكاد مماثلة للظرف ذاته الذي كنت أواصل فيها قراءته، ظروف محاولة تفادي وباء الاصابة بكورونا وذلك بالنأي عن الاختلاط الاجتماعي من خلال العزلة الشخصية والأسرية.
كتاب الديكاميرون الذي يستلهم بطريقة خلاقة كتاب الليالي الألف هو أيضاً كتاب ملهم، بموجب هذا الكتاب فإن مؤلفه جيوفاني بوكاشيو بات يحظى بقيمة تأسيسية خاصة في ما يمكن تسميته بأدب الأوبئة والحياة والمصير البشري، وهو أدب من المتوقع له أن يحظى باهتمام استثنائي خلال السنوات المقبلة.بعد الديكاميرون عرف الأدب الغربي العديد من الأعمال الأدبية الأصيلة والمستلهمة التي كانت تظهر كلما مرت المجتمعات بجائحة وكانت تحت تهديدها. في الكثير من هذه الأعمال يجري التفكر، وأحيانا التنبؤ، بصورة المستقبل كما يخلّفه وباء.في مقالنا المقبل سنقف عند رواية الطاعون القرمزي لجاك لندن، وهي عمل أدبي استثنائي في هذا السياق، كان قد صدر في الولايات المتحدة مطلع القرن الماضي، وقد أتيحت لي فرصة قراءته في هذه الظروف بعد صدور ترجمته العربية مؤخراً عن (مؤسسة هنداوي).
لا يمكن الفصل ما بين الحالين؛ حال الأثر الراهن للتهديد المباشر، وحال التفكير بالمستقبل البشري. لكن النظر إلى المستقبل من لحظة أزمة راهنة، كأزمة الوباء، يجعل هذا النظر محكوماً إلى حد ما بالطبيعة التي نفكر من خلالها بالمستقبل. هذه نتيجة مؤكدة لبعض طبائعنا الإنسانية التي نُرغم من خلالها على التفكير بالمستقبل كلما كانت حياتنا محكومة بتهديد مباشر.
الأدب، كمعطى جمالي وجداني، يقدّم أمثلة نصية كثيرة عبر التاريخ على هذا الجدل ما بين أزمات الراهن، الشخصية والعامة، والتفكير بالمستقبل، لعل ملحمة كلكامش هي العمل الأدبي الأقدم والذي تكرس لهذه الطبيعة؛ موت أنكيدو، محنة صديقه كلكامش إزاء فاجعته بصديقه، ومن ثم تفكير كلكامش بالمستقبل وسعيه من أجل الخلود. هذا ما جعل من نص الملحمة عملاً خالداً، حيث انشغاله بقضية بقيت خالدة بخلود البشر على هذه الأرض.
في المكان نفسه، في بلاد الرافدين، الذي أنتج هذه الملحمة يأتي عمل أدبي كبير آخر، إنما بعد عصور، وذلك مع ولادة (ألف ليلة وليلة). في هذا العمل، وبخلاف ملحمة كلكامش، يحضر الفن كوسيلة لدرء الموت، لتأجيله. ثيمة الكتاب قائمة على التهديد بالموت والسعي من أجل تفاديه، على نجاح شهرزاد، بطلة العمل الأدبي، في (الاحتيال) على الموت وتأجيله بمواصلة الحكي، بابتكار القصص وسردها. يخفق كلكامش بالظفر بعشبة الخلود بينما تنجح شهرزاد بدحر الموت بالاستعانة بالأدب واختلاق حكاياته.
تحضر سطوة (ألف ليلة وليلة) عند ولادة كتاب أدبي آخر، جاء بعده بقرون وبمكان آخر، في إيطاليا، وذلك مع ولادة (الديكاميرون)، العمل الأدبي الخالد لمؤلفه جيوفاني بوكاشيو. وضع بوكاشيو هذا الكتاب في القرن الرابع عشر، وكان نتيجة أدبية خلاقة في ظرف وباء خطير، وباء الطاعون الذي اجتاح بلده إيطاليا حينها. وفي هذا الكتاب يجري اللجوء إلى سرد الحكايات كوسيلة لجعل حياة العزلة والنأي عن المجتمع المصاب بالوباء حياةً قابلة للعيش والاستمرار فيها، وذلك في قصر يعتزل فيه عشرة من الفتيان والفتيات عن المجتمع من أجل الحفاظ على حياتهم.
قرأت الترجمة العربية لهذا الكتاب وذلك في أيام الحجر والعزلة في منزلي خلال الأسابيع الأولى للوباء. إنه كتاب يعتمد القصة الإطارية، هذه استعارة تقنية أكيدة من (ألف ليلة وليلة)، سرد الحكايات من أجل إدامة الحياة. ولعل الفارق التعبيري ما بين الحكايات العربية والحكايات الايطالية هو في هدف الحكي الذي يشكل قوام العملين الأدبيين. ففيما تؤجل وتدحر شهرزاد الموت الذي يهددها شخصياً من خلال سرد الحكايات الممتعة فإن فتيان وفتيات (الديكاميرون) ظلوا يديمون جمال عزلتهم ونأيهم عن الموت من خلال سرد مماثل للحكايات. تدرأ شهرزاد شهوة السلطة الغاشمة وشراهتها للقتل بمواصلة الحكي، بينما تسوغ حكايات الديكاميرون حياة العزلة والنأي عن الوباء وموته المتوقع بخلق الحكايات.لا يحضر الوباء في كتاب جيوفاني بوكاشيو إذا استثنينا مروراً سريعاً عليه يأتي في مستهل الكتاب وذلك حين يروي بوكاشيو النتائج المفزعة للوباء بمدينة فلورنسا. (الديكاميرون). يجعل الكاتب من هذا المرور السريع على الوباء مدخلاً ليشيح بفعله بأبطاله عن الطاعون، بالاندفاع بهم في عالم من الخيال وسرد الحكايات التي تديم لطف العيش البشري المشترك في حياة صحيحة، إنه كتاب للإمتاع في زمن الخوف، كتاب لتوسعة قيمة الشراكة الإنسانية حين تكون هذه الشراكة داعياً للتهديد وانعدام الثقة والاطمئنان ما بين البشر. لقد بدأ هذا الكتاب، بالنسبة لي، في ساعات قراءتي له مؤخراً في ظرف العزلة والحجر المنزلي، على أنه كتاب موضوع فعلاً لإمتاع قرائه في زمنه، ممن كانوا يعيشون ظروفاً تكاد مماثلة للظرف ذاته الذي كنت أواصل فيها قراءته، ظروف محاولة تفادي وباء الاصابة بكورونا وذلك بالنأي عن الاختلاط الاجتماعي من خلال العزلة الشخصية والأسرية.
كتاب الديكاميرون الذي يستلهم بطريقة خلاقة كتاب الليالي الألف هو أيضاً كتاب ملهم، بموجب هذا الكتاب فإن مؤلفه جيوفاني بوكاشيو بات يحظى بقيمة تأسيسية خاصة في ما يمكن تسميته بأدب الأوبئة والحياة والمصير البشري، وهو أدب من المتوقع له أن يحظى باهتمام استثنائي خلال السنوات المقبلة.بعد الديكاميرون عرف الأدب الغربي العديد من الأعمال الأدبية الأصيلة والمستلهمة التي كانت تظهر كلما مرت المجتمعات بجائحة وكانت تحت تهديدها. في الكثير من هذه الأعمال يجري التفكر، وأحيانا التنبؤ، بصورة المستقبل كما يخلّفه وباء.في مقالنا المقبل سنقف عند رواية الطاعون القرمزي لجاك لندن، وهي عمل أدبي استثنائي في هذا السياق، كان قد صدر في الولايات المتحدة مطلع القرن الماضي، وقد أتيحت لي فرصة قراءته في هذه الظروف بعد صدور ترجمته العربية مؤخراً عن (مؤسسة هنداوي).