أ. د. عبدالجبار الرفاعي - تصوف الحُرِّيَّة وتصوُّف الاسْتِعْبَاد

تصوُّف الاسْتِعبادِ يعني أن يتطوَّعَ الإنسانُ بوضعِ كلِّ شيءٍ في حياته تحتَ وصايةِ شيخِه. هذه بدايةُ محوِ الذَّات الفرديَّة، وإنتاج نسخ متماثلة من المتصوِّفة، تظهر متطابقةً في الخارج، تتشابهُ في كلِّ شيءٍ كأنَّها روبوتات. نشأ تصوُّفُ الاسْتِعباد من إساءةِ فهمِ وتطبيقِ معاني القضاءِ والقدرِ، والتوكُّل والتسليم لله، والصبر وتحمُّل الألم، وغير ذلك من اعتقاداتٍ أنتجتْ تعطّيلَ إرادةِ المتصوِّف، وشلَّ فاعليته وحركته، وغفلتَه عن استعمال عقله، وتقييدَ حُريَّة تفكيره النَّقْديّ، وجعله إنسانًا مُسْتَلَبًا رَاضِخًا.
تضخُّمُ الصورُ المتخيَّلة في ذهن المريد يعمل على تنازله عن كلِّ شيءٍ في حياته لشيخ الطريقة، وإذْعَانِه وانْقِياده وخضوعه له مختارًا. متخيَّلُ المريد لا يكفُّ عن ابتكارِ المواقف الخارقة والأحوالِ المدهشة والهالةِ المقدَّسة للشخصية الروحيَّة الاستثنائيَّة. يظلُ المريدُ يراكمُ الصورَ المتخيَّلة بشغفٍ، إلى أن تصلَ الصورُ المتخيَّلة حدًّا تمحو فيه الطبيعةَ البشريَّة لهذه الشخصية، وتصيّرها في ذهن المريد كائنًا مجردًا من المادة وشئونها، لا تشبه في عيشها وأحوالها حياةَ الناس في الأرض بشيء. الصورُ المتخيَّلة تتوالد باستمرار، كلُّ صورة تولِّد صورةً أوسع منها، تواصلُ هذه الصورُ تمدّدها وتوليدها لصورٍ أخرى بكثافة ‏حتى تستبدّ بالذهن، وتنتزع تلك الشخصية من عالَمها الأرضي وترفعها إلى العالَم الربوبيّ. ‏تفرضُ الصورُ المتخيَّلة حضورَها فتأسر ذهنَ المريد وتخفي عنه الواقع. إذا تضخَّم متخيَّلُ المقدَّس توارى العقلُ النقديّ ‏واحتجبَ الواقع. لو لم يضع العقلُ النقديّ حدًّا لتضخُّم هذا المتخيَّل يغرقُ الذهنُ في اللا معقول.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى