أ. د. لطفي منصور - خواطِرُ لا بُدَّ من تذكُّرِها..

كثيرًا ما أقرأُ للمتنبِّي شِعْرًا فَأُفَكِّرُ فيه مليًّا كقوله من البسيط:
طَوَى الجَزيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ
فَزِعْتُ فِيهِ بِآمالي إلَى الْكَذِبِ
حَتَّى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلًا
شَرِقْتُ بالدَّمْعِ حتّى كادَ يَشْرَقُ بِي
غَدَرْتَ يا مَوْتُ كَمْ أَفْنَيْتَ مِنْ عَدَدٍ
بِمَنْ أَصَبْتَ وَكَمْ أَسْكَتَّ مِنْ لَجَبِ
مناسَبَةُ الأبياتِ معروفَةٌ قالها في رثاءِ "خولة" الشّابةِ أختِ سَيْفِ الدّولَةِ، ويقالُ إنَّهُ كانَ يعشَقُها، وينوي طلَبَ يَدِها من أخيها.
لكنَّ الدَّهرَ - وهذا طَبْعُهُ - يُعاكِسُ العاشقينَ. ولنا مثالٌ في الشعراءِ العُذْريِّينَ الذينَ قِيلَ فيهم:
هم إذا أحَبُّوا ماتوا.
ّ
الْمَوْتُ: ما هذا السَّيْفُ الْمُصْلَتْ عَلَى رِقابِ الْعِبادِ، ولا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ حَيٌّ، مِنْ إنْسانٍ وحَيوانٍ أو نَباتٍ. أو كما قَالَ الْحكيمُ مُسْتَخْدِمًا لا النّافيةَ لِلْجِنسِ: لا حَيَّ بَاقٍ.
لَو كانَ الْمَوْتُ مَخْصوصًا بِكَوْكَبِنا وَمَنْ عَلَيْهِ لعرفنا حُدودَهُ، واكتشفنا سِرَّهُ، لكنَّهُ يتجاوَزُنا إلى الكَوْنِ كُلِّه، إلى الملائِكَةِ والْجِنِّ، والنُّجومِ والكواكِبِ والْمَجَرّات، وما الثقوبُ السَّوْداءُ وَسْطَ الْمجرّاتِ إِلَّا آيَةٌ من آياتِ الْموتِ للمجرّةِ أو للنَّجم. وشمْسُنا نَحْنُ التي هي أَساسُ حياتِنا، سوفَ يَأْتِي دَوْرُها لِلزَّوال شِئْنَا هذا أم أبيْنا.
كيفَ نُعَرِّفُ الْمَوْتَ؟
تولَدُ الْمَخْلوقاتُ الْحَيَّةُ صَغِيرَةً أو حتّى لا تُرى، ثمَّ تَأْخُذُ بالنُّمُوِّ والكِبَرِ حتّى تصبِحَ شابَّةً وتَصِلَ إلى قِمَّةِ قُوَّتِها، ثمَّ تَأْخُذُ بالاضْمِحْلالِ شَيْئًا فَشَيْئًا
نحوَ الفناءِ والاندثارِ والْمَوت.
فالموتُ هو الفناءُ وَانْتِهاءُ الْحَياةِ. لِأنَّ الإنسانَ جزءٌ من الطبيعَةِ تَحْكُمُهُ قوانينُها كأيِّ شجرةٍ أو حيوانٍ أو مخلوقٍ آخر.
هذا هو الموتُ الطبيعيُّ لكلِّ مخلوق. ولكنَّ الموتَ لا يصلُهُ كُلُّ حَيٍّ بهذه الطريقة، فقد يحدُثُ أنْ يُخْتَرَمَ بالقتلِ أوِ المرَضِ الْمُهْلِك أو بعوامِلِ الطبيعة أثناءَ سيرِهِ في طريقِ الْحَياةِ.
كيفَ عَرَّفَ الشُّعَراءُ الْمَوْتَ؟
شاعرُنا الكبيرُ أبو الطَّيِّبِ الْمتنبِّي عرَّفَ الْمَوْتَ أَنَّهُ لَيْسَ يَقَظَةً ثانِيَةً أَوْ سُهادًا ولا كَرًى أي نومًا، وإنَّما هو حالةٌ ثالثَةٌ لا يعرِفُ طَعمَها أو كُنْهَها إِلَّا مَنْ ماتَ وانتَهى. يقول من الوافر:
تَمَتَّعْ مِنْ سُهادٍ أَوْ رُقادٍ
وَلا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجامِ
فَإنَّ لِثالِثِ الْحالَيْنِ مَعْنًى
سِوَى مَعْنَى انْتِباهِكَ وَالْمَنامِ
( الرِّجامِ: حجارَةُ القبْرِ)
وَقَالَ في موضعٍ آخَرَ من الطويل
وَمَا الْمَوْتُ إلَّا سارِقٌ دَقَّ شَخْصُهُ
يَصولُ بِلا كَفٍّ وَيَسْعى بِلا رِجْلِ
وهذا أبو العلاءِ يَرَى أَنَّ العيشَ كالسُّهاد. أي كَأَنَّنا في سهرةٍ لا بُدَّ أنْ تنتَهِيَ. وهي راحةٌ للجِسْمِ، يَقُولُ مِنَ الخفيف:
ضَجْعةُ الْمَوْتِ رَقْدةٌ يَسْتَريحُ الْ
جِسْمُ فيها، والْعَيْشُ مِثْلُ السُّهادِ
———-
فطالما لا نعرِفُ متى ينزلُ الموتُ في الإنسان ، وَنَعْرِفُ أنَّهُ حَتْمِيٌّ فَلِمَ الْجَزَعُ مِنْهُ، لِأنَّنا لو عرفنا موعِدَهُ لا نقدِرُ على العيش بسببِ الخوفِ والقلقِ. وعلينا أن نستغلَ عُمُرَنا في سبِيلِ سعادَتِنا وسعادَةِ مجتمعِنا، ولا نُحْدِثُ أَذًى لِلْآخَرين، ولا نلتفتُ إلى ما يُخيفُنا بِهِ جَهَلَةُ الْمُتَمَشْيِخين من الذينَ نَصَّبُوا أنفسهم وُعّاظًا ولا نَأْبَهْ لِما يتخرَّصونَ به، لأنّ حياتَنا لنا فلا نسمحُ لهم بالتلاعُبِ في عقولنا وعواطفِنا.
رَحِمَ اللُّهُ أمواتَنا جميعًا وأسكنهم فسيحَ جِنانِهِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى