د. محمد الشرقاوي - كيف يدحض مسلمو بروكسيل أطروحة هانتغتون؟

امتدّت الطاولات، وتراصّت الكراسي، وحضرت البهجةُ على طول الحي وسط بروكسيل. وكبرت الابتساماتُ في الدعوة والترحيب بالجيران وبقية السكان من ثقافات مختلفة، ومن كان متدينا أو غير متدين، لتناول إفطار رمضان مع مسلمي الحي من مغاربة وجزائريين وتونسيين وأتراك وغيرهم.
هكذا جاءت اللحظة البشوشة جدا لتختزل النبل الإنساني والرِّفعة الحضارية والاحتفاء بثقافة وقيم الذات الاجتماعية مع الآخر في تناغم مع حكمة الوجود البشري فوق هذه الأرض، وكيف أصبحوا شعوبا وقبائل لتعارفوا.
عندما تتحدثُ الألسن، وتنظرُ العيون في بعضها بعضا حول وجبة رمضانية، يحدثُ الوصال الحسي والذهني والعاطفي، وتتضح الرؤية ويتعزز التفاعل الاجتماعي الراقي، فتغيب العداءات المفتعلة، وأيديولوجيات الإقصاء والتطرف، وتهم الإرهاب والتعصب التي هندسها بعض اليمينيين ودعاة الانطواء على الذات العرقية ومركزية الرجل الأبيض والثقافة البيضاء في أوروبا والولايات المتحدة منذ نهاية القرن الماضي.
اليوم، يسقط جدار برلين جديد بين دعاة الانفتاح والتسامح الثقافي الواسع ودعاة الانغلاق والانطوائية والسير عكس التاريخ. وإزاء هذا المشهد المتحضر في بروكسيل، تسقط ورقة توت أخرى من شجرة شحبت من عنائها في افتعال صراعات ومواجهات بين ما صنفها صموئيل هانتغتون "سبع حضارات متعارضة" ووضعها على طريق المواجهة والتأزم.
ولا ينتبه كثيرون أن هانتغتون بنى هذه الأطروحة بالأساس على تضادّ متخيل بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي في حقبة ريغان وبوش الأب وعلى خلفية أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران عام 1979. ووقتها، بدأ هانتغتون وغيره من أقطاب اليمين المتطرف يبحثون عن معادلة نظرية لتبرير ما أصبح يعرف بمشروع القرن الأمريكي ونشوته بفشل المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.
بعدٌ مهم آخر لا ينبغي تجاهله هو أن إفطار بروكسيل وغيره من مثل هذه المبادرات التي يقدمها الشتات المغربي والمغاربي والمسلم عموما في الغرب دفعة إيجابية لمفهوم الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة بشكل تلقائي. وتثير سؤالا ضمنيا: ماهي حصيلة الدبلوماسية الرسمية وأداء الحكومات ووزارات الخارجية العربية والإسلامية لمكافحة الصور النمطية السلبية وتهم التعصب والإرهاب لشعوب برمتها ومنطقة جغرافية مترامية الأطراف بكاملها؟
لو ظل هانتغتون حيّا وشملته الدعوة إلى إفطار بروكسيل وعاين تلك الأجواء المنسجمة المحتفية بالآخر قبل الذات، ربما كان سيتصل بناشره لإيقاف طباعة كتابه، ويبدأ في صياغة مؤلف جديد مغاير بعنوان "الشتات وحوار الثقافات من جديد"…!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى