خالد جهاد - زمن بين الأقواس

بين قوسين.. تبدأ الكثير من الحكايات وتنتهي، تتفاوت في تفاصيلها بين حزنٍ وفرح عدا تلك التي تنتهي برحيل أحد أبطالها لتترك فراغاً لا يملأه سواها معلنةً نهايةً ما، نهايةً لمرحلة، لشعور، لجيل، لفكرة أو معنىً ارتبط في الوجدان بأشخاصٍ محددين، يمثلون قطعةً منا، عاشوا نفس اللحظات التي عشناها وتنسموا ذات الهواء الذي تنسمناه، لفحتهم أشعة الشمس بشجن ٍ لا يبارح العيون رغم ابتسامتها، ومع كل مغيبٍ كانت تودع القمر مفاتيح الليل الذي يضمنا جميعاً بين أحضانه لننام من التعب حالمين بغدٍ آخر يجب ما سبقه من أحزان..

بين قوسين.. وضع الحب أوزاره كأي حرب وسط نظراتٍ تائهة تحيطها الكثير من علامات الإستفهام والتعجب، متسائلاً عن أمسه، عن إحساسه البريء بشخصٍ من دون الجميع، عن وجهٍ جميل يطالعه على الشاشة بضحكته العريضة، تبتسم صاحبته ابتسامةً تشبه الحياة فيتأملها الفؤاد ليستلهم منها الحياة عندما كانت له ذات معنىً وقيمة، يكتفي بإطلالاتها المتباعدة، يسمع أخبارها النادرة تروي عطشه وتؤنس وحدته في زمنٍ من الخوف اللا متناهي، تتعلق فيه الأعين ببندول الساعة ذهاباً وإياباً، ويموت فيه الكثيرون على عتبات الإنتظار لتوأم روحهم الذي ضل طريقه إليهم لأكثر من أربعين عاما ً..

يصحو فيها كل صباحٍ ينتظر طيفاً، خبراً، صوتاً، يداً تطرق على الباب..ذات الباب الذي لم يتغير الساكنون خلفه، وتعاقبت عليه أجيالٌ تفرقت على امتداد الخريطة بحثاً عن السراب، عاصر فيها أفراحاً وحروباً.. ميلاد أحداث ٍ وفراق أخرى، اختفاء طقوسٍ وأحبابٍ وأشياءٍ تغيرت الدنيا بعدها.. وتغيرت بتغيرها المشاعر ليصبح لها شكلٌ جديد عصي على الفهم عصي على اللمس عصي على التخيل مع أن الخيال حياةً بأكملها..

شيء ٌ لا يشبه بغربته وغرابته سوى الحب من طرفٍ واحد لفراشة تجوب هذا الوجود بجناحين رقيقين يختصران سحر الكون وبساطة الأمنيات التي ملأت أرواحنا، ولم تكن أكثر من قلبٍ مطمئنٍ يغتسل بسكينة الفجر وندى الأزهار في ساعات الصباح الأولى، يكتب قصائده في عشق الشوارع والطرقات والمباني القديمة، يقتسم وجبته مع القطط وعابري السبيل، يفرح لعاشقين تشتبك أيديهما بحب ٍ رغم قسوة العالم عند المغيب، وتذبل أجفانه بأمانٍ في حضنٍ ليلٍ لا يغدره ولا يسلبه من أحبابه أحداً حتى وإن كانوا بعيدين عنه..

وبين قوسين مر العمر.. وفي غفلة من الزمن الذي رضينا فيه بكثيرٍ مما لم نكن لنرضى به، تفاجأنا بالرحيل.. رحيل من لم نكن لنصدق بأنهم سيرحلون.. آخذين معهم زمنهم وزمننا وقطعاً من ذواتنا التي ذابت فيهم، وكان لا بد أن تتركنا لترحل بصحبتهم وتكون وفيةً لأحلامنا وللحظات التي عشناها بفضلهم وإن لم نكن سوياً، وليظل جزءًا منا ينبض معهم حيث ارتحلت روحهم فلا تدركهم الأعين، لكن حبنا وصلواتنا ودعواتنا المختلطة بدموعنا تحيطهم من كل جانب، تناديهم فيلبون وينادوننا فنلبي ونلتقي في ذات المكان.. قلبنا الذي عاشوا فيه وسكنوا في ثناياه ودفنوا بين شرايينه وتحت طبقاته، حيث يرقدون بأمانٍ دون أن يزعجهم أحد بعد أن اختاروا الصمت لينهوا حكايتهم ويغلقوا الأقواس التي ضمتنا معاً لوهلةٍ من الزمن..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى