سعد محمود شبيب - اسماعيل.. وسيدٌ عُمُلّسٌ.. وأرقط زهلولٌ!

حين تشيح عنك الدنيا بوجه افراحها ،ويعتلي صفوة يومك الهم والقلق ، ستذكر بلا ادنى شك بواكير صحابك ورحلة جلوسك في الصف، والوان كتبك واساتذتك جميعا ، ولن يغيب عن بالك استاذ مثل فاضل رجب معلم اللغة العربية..
والأستاذ فاضل طويل كأنه جذع نخلة اجتثت من الارض ، نحيف مثل عود ثقاب ، بجسد صقيل تقلصت أمعاؤه وبانت اضلاعه ولم يبق من معالم وجهه سوى عينين غائرتين تنظران نحونا شزرا، ولسان لبق لا يتعاطى سوى الفصيح من الكلام ..
في كل يوم ، كان يعتلي موضعا داخل صف الدرس ، ويهز رأسه الاصلع بعنف فتتحرك خصلة شعر يتيمة صفراء كسنديانة متيبسة وسط بيداء ، ويهتف على طريقة طارق بن زياد منشدا أبيات الشنفري :
ولي دونكم أهلون سيدٌ عملسٌ ... و أرقط زهلولٌ و عرفاء جيأل
ثلاثة أصحاب : فؤادٌ مشيعٌ ... و أبيض إصليت و صفراء عيطل
ثم وما ان ينتهي من تلاوة هذه الابيات الأغرب من عفاريت النهار ، حتى يطلق علينا نحن الصغار سهام غضبه ويقول فينا ما لم يقله مالك في الخمر ، وابو الطيب في كافور ، متهما ايانا بالغباء في حياتنا والتكاسل عن اداء واجباتنا والجهل باصول ومعاني لغتنا ..
ورغم ان الاستاذ بدا غاضبا علينا دوما ، الا انه ظل يصوب أنظار بغضه نحو اسماعيل ، الفتى البدين المكور مثل قنفذ عجوز، المشاغب المسكون بالشر ، الذي ارتشف الغباء من نبع صاف لا تشوبه أدنى شائبة ، وهو لا يلبث أن يسأله :
- أيها الغافل ، ما الأرقط الزهلول وما العرفاء الجيأل ؟ أجب دون ان تتلفت ؟
- لربما اجبتك عن الارقط استاذ لكنني لا اعرف الزهلول ..
- وما الارقط ايها المشاغب الوقح ؟
- هو اللص وربّ السماء ، لطالما سمعت ابي يصف اخي بالارقط حين يسرق منه نقودا ..
- قد علمت اللحظة سر ذكائك ومن أين توارثته ايها الاحمق .. صه واجلس لعنك الله ومن معك ..
وطوال اشهر الدراسة الباقية ، لم يكف الاستاذ عن توبيخ اسماعيل كلما اعتدى على طالب أوتهاون في أمر درسه ، فكان اذا ما دخل الصف ، صوب سهامه نحوه وصار يردد :
لكم وددت ان يشرئب عنقي نحو السياف حين ألمحك ، لكم وددت أن لم تك معي ولم أك معك ، رويبضة ماجن ، واني في أمرك لمحيار .. محيار .
وبالطبع لم نفهم معنى أن يشرئب عنقه نحو السياف حين يراه ، وماذا يعني بالرويبضة الماجن ، ولماذا هو محيار بينما صاحبنا واجم مثل حمار .. حتى اخر هذه الافكار ..
ولأن لكل شيء نهاية كما عودتنا سنة الحياة ، فقد دخل علينا استاذنا ذات صباح ، حاملا اوراقه بيد، ومظلته باليد الاخرى، وقد بدا غضبه على محياه مثل شمس تموز حين تشرق في كبد السماء ، ثم طلب من كل تلميذ أن ينهض ويذكر تاريخ ولادته بالتقويم الهجري كما علّمنا قبل يوم ، فلما بلغ اسماعيل، تلا بعد تردد كبير اجابته التي بقيت خالدة على مر السنين :
- ولدت لستة عشر خلون من ذي الحجة ..
- أتمم جوابك .. ثم ماذا ؟
- ولدت لستة عشر خلون من ذي الجحة ، وامتلأن بذي القعدة !!
- ماذا تقول ؟؟ ويلك .. ويلك .. ليت أمي لم تلدني ولم أكن ، امتلأن بماذا ؟ بذي القعدة ؟ هل من شهر يخلو ويمتليء يا خزان الشر والحماقة ؟؟ خذ كتبك وانطلق بعيدا وسأفاتح المدير بأمر نقلك ، وان لم يجبني فسأطالب بنقلي أنا بقتلي أنا ، واقسم أني لا ارى فيك سوى راع للاغنام أو ساع بائس تقضي حاجات الأنام !!
وحين مرت السنوات سراعا كموجة تلاحق موجة في بحر متلاطم ، لم تعد تربطني بالاستاذ رجب سوى لقاءات عابرة مع مودة وحنين عميقين ، لاني تعلمت على يديه من علوم لغتي الكثير ، ونسيت ومعي معظم من تتلمذ على يديه ، ساعات قسوته وشدته التي كان دافعها حبه لتعليمنا ، وقد احتفظت باجمل هدية واول هدية من استاذ لتلميذه ، قاموس مختار الصحّاح ، منجم اللغة الثمين ..
وعقب عام 2003 ، توطدت علاقتي باستاذي أكثر ، فكلانا من رواد مقهى الحاج نجم في الكاظمية وكلانا تعاطى اللغة الأم ، هو كمصحح واستاذ عريق وأنا ككاتب يشار ألي بسكّين الطعام ، وقد نلت في البداية محبته وتوقيره ، وحين تذكّر اني من تلامذته القدامى احتفظت بمودته وفقدت توقيره ، اذ صار يعاملني كتلميذ ، فلا اجلس الا باذن منه ولا ابدي رأيي الا بعد أن يسمح لي بذلك ..
وللحق، فقد كنت احب لقاءه ، لكنني شعرت في البدء بشيء من الملل جراء جفاف احاديثه ، اذ اقتصرت جوانبها على الادب القديم وضروبه من بلاغة وجناس وطباق وتورية ومحسنات لفظية ، حتى لتشعر ان هذا الرجل قد قفز من العصور الغابرة الينا عن طريق الخطأ ، وكان ينبغي ان يكون شاعرا يجوب سوق عكاظ ممتدحا ابا سفيان وحنظلة بن صفوان ، أو يُقتل في حرب البسوس بين يدي جساس ، او يعتنق الاسلام ثم يموت قبيل فتح مكة !
لكنه مع الايام ، تنازل وصار يخلط لهجته الفصيحة بالعامية ، ويزين احاديثه بطرائف جميلة ونحن نستذكر حماقات اسماعيل ، وقصة ذي القعدة والارقط الزهلول ، بل وأصبح يحدثني عن اعتى من صادف من تلاميذ لا يفرقون بين الالف كحرف والألف كعدد ، وكيف انه لم يتهاون أو تفتر شفتاه عن بسمة ازاء اي خطأ لغوي، الا في حالة طالب يدعى ((كريم سكراب )) ، جعله يطلق ضحكة تبلغ عنان السماء حين طلب منه أن يعرب له حرف الواو، فلما تحير في الجواب همس له صاحبه من خلفه بالحل فقال : أنه حرف عطف ، وحين طلب منه الاستاذ رجب ان يتمم الجواب أردف : هو حرف عطف .. وحنان يا استاذ ..
ورغم وطأة السنين وقسوة الدهر ، والمرض الذي بات يفترس ويفترش جسده النحيل، الا ان الاستاذ الفاضل كان كمن يخفي آلامه ، فلا يشعرك الا انه سليم ومعافى ، ولم يلمّح اليك يوما انه يمر بضائقة مالية مع علمنا بظرفه وهزالة مرتبه ، فلا يقبل أن تدفع له الحساب مهددا بالقطيعة ، ولا يكف عن كلمات الترحيب وابداء الشوق لك كأنك أبن له غاب منذ زمن ..
وذات صباح، وجدته وهو يرتجف بعنف ويحاول الامساك بالسيجارة بصعوبة تامة ، وقد طلب مني طلبا غريبا ، الا وهو الطريق الى اسماعيل ، صاحبنا الفاشل ..
وحين أبديت استغرابي من هذا الطلب أجابني ان لديه عند اسماعيل حاجة لا يقضيها سواه ، وانه قد التقاه منذ مدة فوجده طيبا ودودا متناسيا كل سوء ، وحين سألته عن حاجته لهذا الساذج اجاب :
- هذا الساذج الذي تتكلم عنه صار سفيرا ثم وكيلا لوزارة وتدان له الرقاب !
صعقت من جوابه لكنني اردفت :
- وليكن ، ما حاجتك لمخلوق وصفته أنت يوما بانه سيكون ساعيا على باب الأنام أو راعيا للاغنام ؟
- اريده ان يتوسط لتوظيف ولدي صاحب الشهادة العليا في الفلسفة ، ليلتحق بأي عمل وان كان ساعيا لقضاء حاجات الانام أو راعيا للأغنام !
- اسماعيل ؟ الغافل ؟ الجاهل .. الذي لا يعلم أي يديه أطول ؟؟
- بل الغافل هو من لم يظن يوما أن الدهر سيحكمه غافل ، ثم ما ضره لو لم يعلم أيا من يديه هي الاطول وقد بلغتا به عنان السماء ؟؟
- ستة عشر خلون من ذي الحجة وامتلأن بذي القعدة ..
- بلى، ستة عشر خلون من ذي الحجة ، ومن كل حاكم ذي عدل ومنطق وحُجة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى