لم يدخل عم "جابر الرحالي" المدرسة ابدا.. هو فقط يحفظ بعض قصار السّور لزوم صلاته.. وسيرة ابي زيد الهلالي.. والزير سالم.. وعنترة بن شداد لزوم.. جلسات الشتاء الليلية الطويلة التي تجمعه.. مع كبار الحومة.. في منزله البائس.. حول كانون يُطبخ عليه شاي ثقيل.. يعمل "عم جابر" بائعا مُتجولا.. ينتقل بعربته من مكان إلى آخر... يعرض بضاعته المتكونة من مناديل للأنف.. وأنواعا من الحلوى الرخيصة.. وامشاطا.. وبعض العطورالمحلية.. واشياء اخرى يصعب حصرها!!. ولم يزد رأسماله أبدا عن عشرة دولارات!!.. ولكنّ.. راسمال "العم جابر" الحقيقي.. وسبب شهرته.. امر آخر مُختلف كل الإختلاف.. فالجميع في حينا.. كبيرهم وصغيرهم شيبهم وشبابهم.. يُنادونه "عم جابر بي بي سي" نسبة إلى الإذاعة البريطانية الشهيرة!!.. وسبب هذه الكنية الغريبة.. أن صاحبنا.. يمتلك مذياعا.. -او "ترانزيزتور" كما يحلو لكبار الحي أن يُسموه- اباني الصنع.. اقتناه من السوق الليبية في أواخر الستينات..!! وقد ظل يفتحه.. كل هذه السنين الطويلة.. على إذاعة البي بي سي.. وهو يقسم أنه لم يُضيع ابدا أي نشرة اخبار.. ولا أي حوار.. ولا اي أغنية للإذاعة المذكورة!! حتى ليلة زفافه.. يذكر انه بعد أن قام "بالواجب" واصل السهر مع إذاعته المحبوبة.. لا يُنكر "عم جابر" أنه كان يستمع أيضا لصوت العرب.. ايام جمال عبد الناصر.. وصوت فلسطين التي تبث على موجات الإذاعة الجزائرية.. وذلك قبل أن يدخل الفلسطينيون في متاهة أوسلو.. كما كان يستمع إلى الإذاعة الليبية.. قبل أن يُخيب العقيد ظنه!!.. ولكن تبقى البي بي سي.. هي حبه الأول.. وغرامه الذي لا تزيده الأحداث والأيام إلا استعارا.. كنا لا نراهُ.. إلا وهو مُحتضن مذياعه.. كأنه العاشق الولهان.. وقد سحب هوائيهُ.. إلى الآخر.. مُلصقا إحدى أذنيه بمضخم صوت .. وقسمات وجهه.. تشي بالإهتمام.. الشديد.. والإنشغال.. أو السعادة. أو الحيرة والضياع... بحسب نوعية الأخبار!! وإذا قادك حظك العاثر.. إليه.. لتشتري منه شيئا.. وهو بصدد الإستماع إلى نشرة الأخبار.. فسيكون نصيبك منه.. إشارة حازمة بيديه أن قف مكانك.. ولا تتكلم.. فاذا تكلمت رغم كل شيء.. فثقْ انك ستنال منه صفعة.. بملء كفه الغليظة على أحد خديك.. إن كنت طفلا أو شابا.. واحتجاجا حاد اللهجة متبوعا.. بكل لعنات الدنيا إذا كنت كهلا.. وإعراضا ونظرة نارية إذا كُنت إمرأة أو مسؤولا أو شيخا كبيرا.. لذلك.. يتجنب الجميع في حينا.. إزعاج "العم جابر" عندما يكون بصدد الإستماع إلى نشرات الأخبار!!.. كنا ننتظر فراغه من النشرة.. لنسأله.. عن آخر أخبار.. البلد.. والشرق الأوسط.. والعالم.. بل ان الخالة.. مريم.. كانت تسأله إن كانت البي بي سي.. قد ذكرت شيئا عن ابنها الذي هاجر إلى إيطاليا. وانقطعت أخباره عنها. منذ عشرين سنة... كما يسأله مصطفى الشيوعي.. عن أخبار البروليتاريا حول العالم.. وعن ظهور بوادر تبشر بسقوط الإمبريالية الأمريكية.. أما سعد المخبول فيسأله على الدوام إن ذكرت البي بي سي شيئا عن ظهور "المسيح الدجال".. حتى يتوب.. قبل فوات الأوان!!.. من خلال مذياعه الترانزستور.. الياباني.. عايش "عم جابر بي بي سي" جميع الأحداث التي مرت على العرب بقلبه ووجدانه وكل خلية فيه.. عاش آخر أيام عبد الناصر.. واعتنق القومية العربية.. حتى العظم.. وراح يُردد "شعب واحد لا شعبين من مراكش للبحرين!!".. و"أمة واحدة برسالة خالدة"وسمى ابنه البكر "جمال".. وكان يستوقف المارة ليخطب فيهم "يا جماعة هذه المرة باش نرتاح من اليهود الكل.. لخاطر [لأن] عبد الناصر باش يطيشهم [يُلقيهم] في البحر!!.. لكن عبد الناصر مات.. دون أن يتحقق ذلك.. فاحتاج شهرا كاملا.. ليُلملم جراحه.. ويعود.. مثل حذاء مهتريء إلى عربته وحياته القديمة.. ومع حرب العبور.. وحصار النفط.. عاش "عم جابر" أجمل أيام عمره.. وراح يُوزع قطع الحلوى الرخيصة على أطفال الحي.. طيلة الأيام الأولى للمعركة. مرددا.. وقد ملأه الزهو..: "ها قد "استرجل" العرب أخيرا.. وفرضوا حصارا.. على العجم الكفار أعداء الأمة..". وحين توقفت الحرب دون أن تتحرر الأرض.. احتاج "عم جابر" شهرين كاملين.. ليعود إلى حياته القديمة.. وقد ابيض شعره وغارت عيناهُ.. وغزت الغضون والتجاعيد.. جبينه.. وبعد توقيع السادات.. لمعاهدة السلام.. قاطع صاحبنا الأفلام والمسلسلات المصرية.. وراح يشتم الرئيس المصري اقذع سباب.. على طريقة الإذاعة الليبية.. وسرعان ما أصبح مولعا بالعقيد.. حتى انه سمى ابنه الثالث "معمر" وأعلن انه تبنى النظرية العالمية الثالثة.. وكاد يدخل السجن بسبب رفعه لعلم اخضر فوق عربته.. التي صبغها باللون الأخضر.. وكتب له أحد الخطاطين على جنباتها.. "الفاتح ابدا!!" بعد ذلك توالت السنوات العجاف.. على صاحبنا.. وعندما عدتُ اخيرا من سفر لي.. إلى الحي.. سألتُ عن "العم جابر" فقيل لي.. إنه اعتزل الناس.. وانه لم يعد يفتح المذياع.. مثل عادته.. ولم يعد يُتابع الأخبار.. منذ سقوط بغداد.. ولكنني أصررتُ على زيارته.. وحين دخلتُ إلى غرفته البائسة.. وجدته ملقى على حصير بالية.. وعيناه المتجمدتان مغروستان في المجهول.. مد لي يدا باردة قد برزت عروقها.. وبإيماءة من عينيه.. أشار علي بالجلوس إلى جانبه.. القيتُ نظرة سريعة على الغرفة التي تفوح منها رائحة الموت.. على احد الحيطان علم عراقي تتوسطه عبارة "الله أكبر".. وبجانبها صورة "بن لادن" ولوحة بدائية.. تُصور الإمام علي وهو يطعن راس الغول.. حاولتُ قطع الصمت الثقيل بأن سالتهُ عن احواله.. وعن مذياعه الشهير.. فاشار إلى حقيبة ملقاة في احد الأركان.. حين فتحتها.. وجدت المذياع.. في حالة مزرية.. خاليا من البطاريات.. وقد تناثرت أجزاؤه.. وبرزت اسلاكه.. بألوانها المختلفة.. وكانه تعرض إلى مجزرة رهيبة!!!.. حاولتُ تجميع أجزائه فلم أفلح.. كان يتابعني بنظراته المتعبة دون أن ينبس ببنت شفة.. سالتُه باصرار: "كيف ترى حال الأمة يا عم جابر؟؟" حدجني بنظرة.. حائرة.. أشعل سيجارة رخيصة.. انفرجت شفتاه قليلا.. بكلمات مبهمة.. قبل أن يشير بيده إلى المذياع بين يدي.. بما فهمتُ.. منه ان حال الأمة.. هو بالضبط مثل حال المذياع الذي أحملهّ!!