عبد العزيز أمزيان - الطفل الذي كنته

الطفولة هذا القطار البعيد/ القريب، الذي أسمع هديره، وهو ينطلق في سكة ذاكرتي من أول عهدي بالحياة، إلى آخر هذا العهد الماثل أمامي الآن، وأنا راكب، لا أعرف أين سيذهب بي؟ ولا إلى متى سيتوقف؟
أفتح عيني، ألتفت، فأرى ذلك الطفل، الذي كنته، بملامح غارقة في الحزن، وذهن شارد في عوالم الغيب، وأكوان الوجود، ورأس مطرق، ممسك عن الكلام، كأنه أضاع بوصلة حلمه، فتاه في الطريق، لا يلوي على شيء، أو كأن شرخا أصاب روحه، على حين غرة، فراح يستقصي هذا الأثر، الذي ما فتئ ينغص عليه الحياة، ويكدر عيشه.
لم يكن هذا الشرخ سوى هذا الإحساس المضني بقتامة الحياة، وحلكة الأيام التي تسير بطيئة، في كل شيء. الأفق ضيق، والمدار قليل الاتساع، محدود المنافذ، محصور المسالك.
يشعر الطفل أنه نقطة صغيرة عائمة كسمكة في الأكواريوم، أو كذرة متناثرة في محيط مغلق، تقع في مخلب الزمن، فيحبس أنفاسه، وتخنق الهواء في رئته.
يذكر الطفل مما مر به في القطار، أنه عثر على صديق طيب، خفيف الظل، طلق المحيا، حلو المعشر، يدرس معه في نفس الفصل، بالمستوى الأول بمدرسة سيدي بو أحمد، ويقطن بنفس الحي، اسمه نجيب. يذكر الطفل أنه يطمئن إلى صحبته، ويأنس إلى الحديث معه، كان طفلا مختلفا عن الأطفال الذين عرفهم، كانت تقاسيم وجهه منبسطة، لا تجهم، ولا عبوس، ولا شحوب، ولا تعكر فيها، كان حالما وديعا كعصفور، وهادئا ساكنا كنهر، لا يعرف البغض، الذي غالبا ما يلمسه الطفل بالفطرة، مع أقرانه الآخرين.
تقوت الصداقة بين الطفل وصديقه، وازدادت المودة بينهما، لدرجة كبيرة، أضفت على الحياة نكهة خاصة، وخلعت على الوجود طعما رائقا.
ما أجمل أن يكون لك صديق تحبه، ويحبك، تعتبره توأم روحك، وسنا قلبك، يتحدث إليك، فترى نفسك تورق في مرايا الحلم، كهذا القطار الذي يسير، في ذاكرتك، كما في محيطك السديمي، تود أن تقبض على هذه المشاهد المارة أمامك، والمقلوبة -أبدا – في رأسك، لكنها دوما تغادرك ، وتنفلت من قبضة الرؤيا، ومن كف البصر، كأنها دائمة التبدل، ومستمرة التغيير على مدى السكة، ومدى العمر المتبقي من خريطة النبض، وجغرفيات المدار.
ليس يدري الطفل كم مرة، أعاد إلى ذاكرته طيف هذا الصديق، الذي طواه القطار، ولفته السكة بين مسافات السنين الطويلة؟ وكم وقف طويلا أمام لغز الحياة المحير؟
لماذا تناكفه الحياة ويوجعه القدر كل هذا الوجع ؟ لماذا يرهقه الوجود، وينهكه الزمن كل هذا الإنهاك؟ ترميه في أنفاق الأسى، وتطوح به طوائح الزمن، وتلقيه في المهالك والتيه والأهوال؟
يذكر الطفل أنه في لحظة يجد نفسه وحيدا، حزينا، كأن الصديق لم يكن له وجود، ولم يكن له حضور، كأنه تلاشى في الضباب، واضمحل في الحلم، وتفتت في الأثير، أو ربما كان صدى لذاته، أو لعله كان ظله في مقصورة القطار الذي لا يزال يركبه، أيكون هو هذا الهدير الذي يسمعه، وهو ينطلق في سكة ذاكرته؟ أيكون هو هذا الرماد، الذي يتراءى له من وقت لآخر في فورة الغضب والسخط والتمرد، حين يلم به خطب، أو حين يسحبه الحزن إلى أنفاقه الدامسة؟ أيكون هو هذا الجمر، الذي يتبدى له في مسير العمر، كشوكة في قلب دام، أو كصبار يطفر في أرض خلاء، لا نهاية له، لا في الحفر، ولا في الولادة، ولا في خطى الأقدام التائهة في معابر الأيام.
تدور الزمن، كما في البداية، يكون الضوء ويكون السنا، لكنهما سرعان ما يؤولان إلى السديم والضباب. هل حقا كان هذا الصديق توأم روح الطفل؟ هل حقا كانا يمشيان من حي اسكرينيا إلى مدرسة سيدي بو أحمد ذهابا وإيابا؟ هل حقا كانا يضحكان ضحكتهما المرحة، الصافية التي كانت تخرج من الأعماق، فتملأ عليهما الدنيا؟ وتسبغ على أيامهما النعمة والنضارة و الرونق؟
يذكر الطفل، وهو راكب في القطار، الذي لا يعرف إلى أين سيسير ؟ و لا متى سيتوقف به؟ يتذكر أنه سمع أن صديقه هاجر هو وأسرته إلى هولندا بدون رجعة، نزل عليه الخبر كالصاعقة، وشعر بوجع يعتصر قلبه، وأحس بهم ينهك روحه، ويسحق وجدانه أيما سحق.
ها هو ذا قطار الطفولة البعيد/ القريب، يسير، وها هو ذا يركبه، بكل الجراح التي في روحه، بكل التشظي الذي ما انفك يحفر في أيامه أخاديد السياط، ويخدش تجاعيد وجهه الطفولي في المنعطفات السريعة، وفي الممرات التي تبدو من بعيد غبشا، كأن الدنيا قمشته بين قبضة الحديد، وبين كف النار.
يركبه، هذه المرة، في صمت واجم، وسكون عابس، كأنه يغالب هدير القطار الذي في رأسه، كأنه يشاهد صعقاته التي رمته في بحور التيه والمفازة، والضيم والمهاوي.
يفتح عينيه، يلتفت فيرى ذلك الطفل الذي كنته، فيهزني الحنين إلى تلك الأيام الخوالي، أغمض عيني قليلا، أغفو، أستعيد زمني الأول، أحاول أن أتذكر كل الوجوه التي رافقتني في الحياة، بعضهم يغيب في تخوم النسيان، البعض الآخر، يحضر بقوة، لكنه سرعان ما يتراءى لي- وأنا أركب القطار- كغبش في ذكرى بعيدة، أو يظهر كضوء خافت، يكاد لا يرى بين أطياف الغيوم الكثيفة في القلب، ذلك لأن القطار بعد بي عن «الطفل الذي كنته» الطفل الذي ظللت أرسم له آفاقا في الحلم، وأنحت له عوالم في الحياة.
كان البيت الذي تربى فيه، يوجد في حي هادئ، وقريب منه عرصة الحداد مسورة، توجد بها أشجار البرتقال، والخوخ والتفاح وأنواع أخرى من الفواكه الشهية، تسر الناظرين. كان الطفل هو وأصدقاؤه يتسلقون السور، بحذر وخوف شديدين، كان النزول إلى أرض العرصة محفوف بالمخاطر، لأن المرء لا يعرف المصائب التي ستلقاه في هذه البقعة المجهولة، كان أكثر ما يخيف الطفل هو نباح الكلاب

الكاتب : عبد العزيز أمزيان
بتاريخ : 29/04/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى