عمر سيدي محمد - يوميات فتى من صنهاجة جنوب موريتانيا.. (الحلقة الثانية والعشرون) شهر رمضان في زمن الفِرْگَانْ

هناك في غابات "آفطوط لِعصابة" في أوديته بعيدا عن صخب المدنيّة المعاصرة، هناك في الزمن الأوّل حيث تمرّ على النّاس السنة والسنتان دون أن يسمعوا صوت هدير محرك سيّارة، ولكن استعصت عليهم رحلة طائرة الاثنين التي كانت تنطلق من نواكشوط إلى كيهيدي ثمّ إلى كيفة، تَمُرُّ فوق الفرگان في منطقة "گَلْبْ الْمَعْدَنْ وِالتُّومْرِنْ وِامَّرْدَة" في رحلتها إلى مدينة كِيفَة؛ ويكون الأطفال على موعد معها بالأماني والاستجداءات قائلين "الطّيّارْ هَاهْ أعْطِينَا تِنْبِسْكِيتْ واللّ شِي امْنِ الكَرْمُوصْ"
في هذه الأعماق البعيدة التي من دعاء بعض أهلها "يَارَبِّ لا اتْحَوَّجْنَا لِامْگِيسْتْ الدّشْرَة" من غابات السافانا تلك أريد أن أنقل لكم بعض ماكان يجري في شهر رمضان من أوّل ليلة فيه حتى نهاية أيّام عيد الفطر المبارك.
رمضان نُسمّيه "أَرَمَضَانْ"
والظاهر أن الناس في زمن بعيد لم أشهده كانوا يُسمّون هذا الشهر "رَمْظَانْ" بالحسّانيّة ولكنها من الكلمات الحسانية التي اندثرت بسرعة مثل كلمة "اِلْقَاظِي" وذلك بسبب دخول دواوين المخزن والحكومة على تعاملات الناس اليومية، ولكن الاسم بقي محفورًا في الذاكرة الجمعية ويحمله أشخاص كثيرون في كل البلاد الناطقة بالحسّانية.
1- تَحَرِّي رؤية هلال شهْرِ رمضان يوم التاسع والعشرين من شعبان.
هي ليلة "اِلتّْرَاعِي" براء مغلظة، يخرج الناس جميعا لحظة الغروب ينظرون ناحية الغرب (گِبْلَة عندهم) مُهْطِعِينَ شاخصين إلى السماء إلى مظانّ مكان ظهور الهلال مُتَمَنِّينَ أن تكون فتحته ناحية اليمين ...
هو موقف يشارك فيه كل الناس مع الإصغاء إلى بعض الأشخاص المشهورين في لفريگ بخبرتهم في رؤيته "تِنْتَاگْ الشّْهَرْ" وأول كلمة تسمعها "ذَوْكُوَالْكمْ الشّْهَرْ" وتسمع بعض المشاغبين من المراهقين يُقَطِّعُهَا يغير المعنى إلى كلمات ساخرة يُضحك بها أصحابه وإذا فطن له أحد الرجال يقول له: أَتْفُو اِسْكِتْ ياالمنسوخ....
وإذا تأكّدوا من رؤية الهلال أطْلَقُوا البارودَ في السّماء ابتهاجًا به وإعلامًا للذي لم يَرَهْ وقد تسمع الزغاريد تتعالى.
ولكنهم قد لايرونه ويُتِمّون عدة شعبان ثلاثين وقد يأتي الخبر عبر الأثير ويسمعونه في الرّاديو الذي لايخلو منه لفريگ والغرض الأساسي منه هو الاستماع إلى "أَژَوَان" بالإضافة إلى برنامج شعبي تُذاع فيه البلاغات وقد كان من أكثر البرامج متابعة من طرف أهل البادية رغم أنه كان يُذَاعُ متأخرًا بالنسبة لهم عند التاسعة وعشر دقائق عِشَاءً.
ويبدأ نقاش حَامٍ بينهم لماذا لانصوم على إخبار الراديو فيقول أحد الشّوابين هل تريدون أن نصوم على إخبار الحديد لنا ؟ فيرد عليه آخر من الكهول الذين سافروا وجابوا البلاد ووصلوا إلى دكار يبيع الكباش ويجلب معه "الخنط وأتاي"وله صلة بالعالَم الخارجي وقد شاهد بعينيه "گَارْبِ المَ ؤ گَارْب السّبتة" أي السفينة والقطار ، يقول لماذا نصدق الحديد في البلاغات فقط ونتلقى بالجمال المسافرين ونبحث عن الذي أُرسل إلينا من متاع حسب البلاغ.
يقول ثالث: الرَّچُّو ألّا كِيفِتْ لِگْزَانَة، ماصدّقناها ؤ لا كذّبناها...
وفي النهاية تنتصر الرؤية بالعين المجردة ولتذهب أخبار الرّاديو مع السّيْلِِ إن لم تكن بلاغًا شعبيّا.
2- السَّحور ونسمّيه في منطقتنا "الصّْحُورْ"
عند ثبوت رؤية الهلال يبدأ الإعداد للسَّحور وأهم شيء يجب تأمينه هو أَتَايْ (الشاي) أوّلا وقبل كل شيء آخر، والتفكير ثانيا في مصدر للحليب وقت السحور وغالبا يكون تأمينه سهلا، وثالثهما هو مايمكن تناوله من طعام، وقليلون يأكلون وقت السَّحَرِ وغالب طعامهم في هذا الوقت هو "بَاسِي" أشهر وجبة للعشاء لمن يتعشى وللصَّبُوح لمن أراد، وباسي هو كسكس الرقيق.
تدبّ في جنبات لفريگ حركة غير معهودة في هذا الوقت ويتحرّك صنف من الناس هم طُفَيْلِيُّو أتاي ونسميهم السّكَّاكة واحدهم سَكَّاكْ فهم يشهدون أتاي السحور حتى ولو كانوا من أصحاب الأعذار الذين لايصومون. ولكن مجلس أتاي في هذا الوقت مختلف عن مجلس أتاي العصر المعروف بالذهبي والذي يبرع فيه السكّاك في الإتيان بالقصص والحكايات لإثراء المجلس، ولكن ههنا وقت ذِكْرٍ واستغفارٍ ودعاء وتلاوة للقرآن.
في صحراء الملثمين للناس عادات في الأذان من سدس الليل الأخير كلما وصل شخص للمُصَلَّى (لِمْسِيدْ) يُؤذّن ثم يصلي ماشاء الله له. وأما أذان دخول الفجر فإنهم يُدخلون فيه (الصلاة خير من النوم) وقد يضيفون (أصبح ولله الحمد). هذا في فرگان الزّوايا الذين لايمكنك أن تستيقظ في وقت من ليل إلا وسمعت تاليا يتلو القرآن، وكانوا يتناوبون على قيام الليل حيث يلزم أن يكون فيهم مستيقظ يتلو أو يصلي في غير رمضان ومن باب أحرى في رمضان.
3- نهار رمضان يختلف باختلاف الفصول وأشدّ أيّامه ماكان مُوافقا لشهر مَيَّهْ (مايو) حيث الرياح الجافّة والحارّة (ئِرِيفِي) وأصعب وقت آخر هو ماوافق شهر أكتوبر في الزّمن الأول حيث تهب رياح موسمية أخرى جافة وحارة جدا نسمّيها "تَوْچِّي" أو رياح "صَدّْ الْمَا"
وأسهل الصيام ماكان في أول الشتاء.
وفي المُجْمَل قد كانت الثقافة العامة هي التساهل في العزم على الصوم والفقهاء ليسوا متشددين في ذلك ولا الأطباء التقليديون وبالتالي كان الذين يصومون رمضان قليلين ومعظمهم من الشباب القوي والميسور الحال وبعد ذلك النساء فوق الأربعين فإنهن صوّامات. ولم يكن الصائم ينكر على المفطر إن كان له عذر ولم يكن المفطر يستتر بفطره بل علَّمتنا البادية التعايش ومن لم يستطع فما عليه إلا أن يحُلّ حبال خيمته ويرحل إلى حيث يطيب له العيش.
ومن صام الشهر كله قالوا "عَوّْجْ الشّْهَرْ"
ويُقسّم الناسُ رمضان إلى ثلاث قوائم كل قائمة تمثل عشرة أيام، يقولون "گَايْمِتْ الخيل" ثم "گَايْمِتْ الْبِلّْ" ثم "گَايْمِتْ لِحْمِيرْ" وهم يقصدون قائمة الخيل الأسرع حيث تمضي الأيام العشرة الأولى بسرعة ثم تليها قائمة الإبل وآخرها قائمة الحمير والتي تمر ببطء.
4- الفطور لحظة غروب الشمس من أعظم ما ينتظره الصائم صابرا محتسبًا.
الشّراب في هذه الصحراء من أعظم مايُقدّم لأي إنسان حتى أصبحت عندنا ثقافة "حَنِيكْ تِشْربْ" كلمة على كل لسان وأحرى الصائم وأفضل شراب بلامنازع هو "الزريگ المُحَلِّي" وهو اللبن الرائب شُنّ عليه ماء بارد من القربة وأضيف عليه السّكٌر. ولكنه ليس هو أول شيء يتناوله الصائم بل لابد من كُرَيَّاتٍ صغيرة من الزّبدة مع السكر قبل الشّراب أو كُرَيَّات من التمر مع الزبدة، حيث تقتضي الثقافة أن التّمرة قبل تناولها ينبغي نزع نواتها "تُفَصَّصْ".
ثم يتناول من الزّريگ قدرا لابأس به ولكن على دفعات بهدوء ورزانة.
والعطش له درجات منها تصاعديًا عطشان، غَرْگَانْ، هَلْكَانْ، فَايِتْ، امْكَرْظَمْ...الخ
وأكثر ما تختص به الأيام الأولى هو صداع أتاي الذي يسمونه آدْوَاخْ وبالتالي قد يرتشف الصائم كأسَ شاي في الدقائق الأولى بعد غروب الشمس وبعد الزبدة وشيء من الزريگ.
5- صلاة التراويح في الفرگان لها طعم خاص جدا إذ أنها هي أكبر تجمع لصلاةٍ بعد صلاة العيدين وذلك لأن صلاة الجمعة مفقودة في تلك البوادي حيث الخيام والخيام فقط والناس على مذهب الإمام مالك رحمه الله.
صلاة التراويح هي أول مظهر من مظاهر الشّهْرِ الكريم بعد ثبوت الرؤية، وهي صنفان أحدهما بعد صلاة العشاء مباشرة ويشترك فيها النساء والصبيان ويقرأ الإمام فيها بحزبين وثُمُنَيْنِ ويصلي ثماني ركعات. يُقرأ القرآنُ في التراويح غالبا برواية قالون عن نافع رغم أن الرواية الأكثر شهرة عندهم هي رواية ورش عن نافع، والسبب راجع لخفة المُدُودِ عند قالون، ويقرأون بِحدْرٍ شديد وبعضهم يصل حدّ الهذومة من سرعة القراءة. وأما الصنف الآخر فيصليها في الثلث الأخير من الليل وقبل السحور.
وآخر ليلة تُصَلَّى فيها التراويح هي ليلة سبع وعشرين وهي ليلة مُخيفةٌ عند الأطفال وينسجون حولها كثيرا من الحكايات الوهمية المُخيفة حيث يعتقدون أن مرَدَة الشياطين الذين صُفّدوا أوّل رمضان يُطلقون فيها.
فيها يتِمّ ختم القرآن ويؤتى بماء الختمة به حزمة من أعواد رقيقة طويلة تغمس فيه ويُرشّ به الكبار والصغار والنَّعَم والخيل. وتمتاز هذه الليلة غالبا بوصول كل غائب عن أهله من الرجال أصحاب الخيام حيث يلزمه أن يدرك العيد عند أهله.
6- العَشَاءُ (لِعْشَ) وجبة لم يكن أهل لفريگ يعرفونها إلا في رمضان في المنطقة التي وُلدتّ فيها وهي من كسكس المبروم (لِغْلِيظْ) وغالب الإدام من القديد وقد يكون لحمًا طريًا ومن لم يجد واحدًا منهما فإن إدامه آدْلَگَانْ (الفاصوليا) ومن لم يجد ففي الملح والحليب إدامه.
والعشاء هو الوجبة الأساسية ولكنه لا يُتناول إلا بعد صلاة العشاء، أي أن التركيز عند الإفطار وبعده على السوائل ومنها الشاي طبعا، ولكنهم لايشربون الماء صرفا إلا إذا لم يجدوا حليبا أو شيئا آخر مما يصلح للنقع.
6- عيد الفطر
في اليوم التاسع والعشرين تأتي ليلة "التّراعي" لشهر ذي القعدة الذي نسمّيه "الفَطْرْ الاَوّلْ" والثبوت بالرؤية المجردة فقط وإن ثبت أعادوا نفس الابتهاج برؤية هلال رمضان.
يوم العيد يوم بهيج، يلبس الناس فيه الجديد وكان معظم لباس النساء "النِّيلَة" علامة "النّميرات" وعلامة "التّاجْ" وأما معظم الرجال فيلبسون الدراعة الزرقاء من "الشِّگّة" وحولي أسود من "أحمدَ الحمْدِي"
يخرجون ضحى إلى ظاهر لفريگ يؤدون الصلاة ثم يرجعون ومن باب التوسعة يذبح كل من استطاع منهم شاة ويبدأ تجهيز ولائم كسكس وتنبعث رائحة الدهن الحر ويتبادل الناس الولائم حسب عادات يعرفونها جيدا.
وبعد صلاة العصر تخرج الفتيات (الطّافلات) ويسمح لهن في ذلك اليوم بضرب آلة الموسيقي الوحيدة في افريگ الزوايا وهي الدّاغِمّة ولها صوت جميل هادئ عميق ولكنه ليس مُثيرا ولعلّ ذلك سرّ التغاضي عنها، ومع كل واحدة منهن أحد إخوتها الصغار وتسمّى هذه الخرجة بالجيل (اِلجِّيلْ) ويسمح لهن بالغناء كذلك وقد يجتمع إليهن بعض الشباب ممن هم في عمر متقارب ويسمّون العصر على غرار الجيل. ينفض الحفل قبل غروب الشمس حيث ترجع كل واحدة منهن قبل الليل. قد يدوم ذلك أيام العيد الثلاثة.
الدَّاغِمّة: هي آلة موسيقية إيقاعية وهي عبارة عن كوز طويل مُجوف ومفتوح الطرفين ويضرب باليد من جانب ويُتحكم في الجانب الآخر لتغيير نبرته الهادئة...
وهي آلة غير مشهورة وتستخدمها البنات في خرجة "الجِّيلْ" عصرا أيام الأعياد. ولعلّ اسمها مُشتق من صوتها الذي يشبه صوت من يتكلم من ناحية أنفه مُدْغِماً بعض الحروف في بعض.







[HEADING=3]1 commentaire[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى