(1)
الإنسان غريب الأطوار حقا، عندما يكون في غرفة أو مكان صغير، يسرح عقله في عالم الخيال ويهيم فيه طولا وعرضا، لكن حينما أكتب مذكرات أسفاري المتنوعة إلى الجبال الشاهقة المشهورة والأنهار الممتدة في كل بقاع الأرض، كانت هناك دوما بعض النقاط المبهمة وغير الجلية، ثابتة أمام عيني، ربما كان رجلاً مسنًا قابلته في الطريق صدفة، أو عصفورا صغيرا وقف إلى جانبي ولم يبرح، وربما كومة من القش جعلتني أختلس قيلولة صغيرة. ربما لم ألتقِ بكل ذلك في جولاتي، ولكن دائما تكون هناك نقاط مضيئة بارقة من الذكريات تنبثق إلى عقلي أينما وطأت قدماي، مما يشكل بعض العقد في خيط الحياة المنساب. نعم، إذا افترضنا أن الحياة كالخيط المنساب، فيمكننا أن نعتبر الأشياء ذات القيمة تشكل عقدا أو نقاطا. لأتخلص من أطراف الخيوط الطويلة الزائدة، وأتذكر فقط تلك العقد المعدودة، فهي في الحقيقة غنية أيضا بما يكفي. لذلك أريد أن أكتب عن زهرة استثنائية في سلسلة مذكرات السفر الخاصة بي؛ وهي زهرة البرقوق (لاماي). مكانها ليس قصيا، فهي موجودة في مشفى بغربي شانغهاي. كانت هذه الزهرة بمثابة ضوء خافت يومض بقلبي طوال رحلتي البعيدة الطويلة. (2) الشخص ذو الخطوات المتينة الثابتة، قد تأتي عليه أوقات ويصاب بعلة. وأن يقطن مسافر في مشفى، ربما يكون هذا أكبر تناقض نفسي يتعرض له. يريد طاقة جسدية، ولكنه لا يجد، يتطلع إلى مساحة، ولكن لا تكون هناك مساحة، فينتظر وسط بحور القلق وقلة الحيلة، دون أن يعرف متى يمكنه أن ينتقل إلى المحطة التالية من الحياة. يبدو أن لكل مجتهد نصيبا، ولكن أحيانا يكون له عقاب أيضا. تكون خطاك نشيطة كالمعتاد، فتحملك إلى المجيء إلى هذا المشفى الصغير، لتبقى فيه مدة، يختلج في نفسك شعور بالوجل والاسترخاء. بغض النظر عن رغبتك في ذلك أم لا، وتعودك عليه أم لا. المشفى الذي بقيت فيه هذه المرة كان في الأصل دارا خاصة لرجل أعمال أجنبي ثري. في حديقة المشفى أشجار كثيرة، ولكن للأسف، جردها الشتاء من أوراقها. اعتادت عيناي على رؤية المناظر الخلابة؛ لذلك باتت متعطشة باحثة طوال الوقت عن اللون الأخضر بين صفوف الأشجار الناضبة. لم أر سوى تشابك وتداخل اللون البني الترابي، وتجول المرضى الذين يرتدون ملابس من نفس الطراز بشكل متكرر، فكنت أشعر بالضيق يجسم على قلبي كلما تطلعت إليهم. يتوقف المرضى لتجاذب أطراف الحديث من حين إلى أخر. لم يكن كلامهم يخلو من الحديث عن المرض. وبدافع من الأدب، لم يكونوا يجرؤون على تبادل أسئلة كثيرة. ولكن، كان هناك مريضان يتجاذبان أطراف الحديث بسرور وبصوت عال بمجرد أن تتاح لهم فرصة لذلك. تقول الممرضة: إنهما مصابان بمرض عضال، وأن تفاؤلهما يحظى باحترام الناس وتقديرهم. وكذلك، كان الجميع يعرف أن هذا أيضا نوع من الدعم النفسي والمعنوي القوي لهما. لكن، كان القليل من الناس يصغون إلى كلامهما الممزوج بالضحكات؛ لأنه ليس بوسع الجميع أن يظهروا ردود أفعال مطمئنة، أو يرسمون ابتسامات متكلفة. كانت الممرضة تصحبهما دائما للتمشي، وكان الجميع ينظر إلى هيئتهما من الخلف. كان كل المرضى يحبون النوم والاستيقاظ مبكرا، وعند بزوغ الفجر، تكتظ الحديقة بهم. كان الجميع يهرعون إلى استنشاق الهواء بعمق، وتحريك الأيادي والأرجل، خشية من أن يأتي ضوء النهار، فيروا بوضوح جلي تلك الأشجار القاحلة العارية والملامح الشاحبة المريضة. في هذا الوقت فقط، يكون كل شيء بين النوم واليقظة، والطقس بارد و منعش، فينشرح صدرك، وتختلس فرصة لرؤية صباح باكر وغائم. كانت الأيام تمر يوما بعد يوم على هذا النحو. ولكن، ذات صباح باكر، شعر الجميع فجأة أن الهواء مختلف، كأن هناك أمرا غير طبيعي، ذُعِرت ثم نظرت حولي، فأدركت أن الناس تجمهروا حول شيء، في زاوية ما في الحديقة. مشيت بخطى مسرعة، ومددت عنقي لأرى الأمر، فإذا بواحدة من زهور البرقوق التي تتفتح في الشتاء (لاماي) تطل من وسط الجموع الغفيرة. كان نور الشفق الخافت منعكسا على بتلة زهرة صفراء مشعة تفتحت توا. كان الذين يدنون منها يرددون اسمها على ألسنتهم، ولكن بمجرد أن يصلوا إلى جوارها لا يحركون ساكنا. جمال ونقاء الأريج الخفيف المنبعث منها، جعل الجميع ينجذب إليها. لا تشم شيئا إذا تعمدت أن تستنشق عطرها، لكن أنفك كله يعبق بهذا العطر عندما لا تستنشقه، وكأنه يسري وينتشر فجأة في روحك وجسدك. كانت الزهرة، مجرد زهرة تفتحت لتوها. ولكن وجودها هنا كان أشبه بقطيع من الجمال في صحراء، مثل كوخ في جبال مقفرة، كرؤية مطر بعد قحل طال، كصفاء السماء بعد انهمار المطر طويلا. كان الأصدقاء المرضى، يتأملونها قليلا، ويحنون أجسادهم ببطء، ثم يتركون أماكنهم للناس المتكدسين من خلفهم. أما أنا، فتجولت مرتين في الحديقة، ثم توقفت مرة أخرى هناك، وانتظرت بصبر خلف جموع الناس. تحول المشي في المشفى كله، إلى حلقات حول زهرة لاماي، وكأنها باتت هي المركز. (3) عدد من مرضى المشفى مصابون بأمراض عصبية. عالمهم صغير، ضعفاء بدنيا وعقليا، إذا أرادوا التفكير في أي شىء، لا ينتهون من التفكير فيه. سمعت شخصا يقول إن العديد من المرضى تولدت بداخلهم مشاعر عاطفية تجاه ممرضة لطيفة جميلة. هذا شيء لا يمكن لومهم عليه على أي حال، أو أخذه على محمل الجد، بل هو شكل طبيعي من أشكال الضعف النفسي. وعندما يحين وقت خروجهم من المشفى، تكون نفسيتهم قد تعافت، وصار كل شىء كغيمة عابرة. الآن كل مشاعر المرضى موجهة إلى زهرة لاماي، مصحوبة بافتتان جنوني. صديقان لي من المرضى الموجودين معي في نفس العنبر، كانا يقولان إنهما يشمان عطر الزهرة بمجرد أن يسيقظا مبكرا، لدرجة أن واحدا منهما قال إن عطر الزهرة يتسلل إلى أنفه فيجعله يستفيق، ولكن في الواقع كان عنبرنا بعيدا عن الزهرة بأربعين أو خمسين مترا على أقل تقدير. أعتقد أن زهرة لاماي هذه أصبحت هوس المرضى. أفسحت جميع الأشجار المتنوعة والأغصان المتداخلة العشوائية المكان لها، فإذا هي تقف بزهو وشموخ وسط المكان، مما يجعل الناس يرون بوضوح أوضاعها كلها. أغصانها اليافعة الملتوية داكنة الخضرة، ملتفة بسواد أشبه بتجاعيد الزمن. إذا نظرت إلى أغصانها الجافة، بدت وكأنها ذبلت منذ أمد بعيد، وكأن نموذجا من تاريخ حزين يمتد هنا فحسب. في الحقيقة، يصعب تصور أن تنبثق فجأة حيوات كثيرة نابضة بالحيوية، من وسط قمة هذه الأغصان. بتلات الزهرة لونها أصفر نقي، رقيقة جدا وكأنها ليس لها بنية أو تكوين. ظلال ألوانها المنعكسة، جميلة نضرة وشفافة كالبلور. كانت الحديقة بأسرها خالية من أي ألوان أخرى، وكأن سقوط الأوراق واصفرار الأغصان أحدث خريفا، وبرودة الطقس وتجمد الأرض جلب شتاء، فبات كلاهما تمهيدا لظهور زهرة لاماي. تهتز بتلات زهرة لاماي برقة وسط الرياح الباردة. هذا الاهتزاز بوسعه زلزلة كل السماوات الزرقاء الصافية. لم يعد يبغض المرضى الشتاء، وأمام زهرة لاماي، أدرك الجميع أن روعة الألوان وجمال عطرها، يصحبه ذلك البرد الصحو وحسب، وهذا ما خلّف المفهوم الجمالي للعبارة التالية: زهرة جميلة تصمد أمام البرد القارس. كل يوم تتفتح بضع زهور من لاماي. بات حساب عدد براعمها وأزهارها، حدثا جللا لكل العنابر. ولذلك، كان يحدث دائما جدل حول ذلك. وعندما كان كل فرد يتشبث برأيه، كانوا يذهبون معا إلى فروع الزهرة ويعدونها بدقة. أحيانا، كان يحدث هذا الأمر في جنح الليل، حتى أن المرضى كانوا يرتدون ملابسهم وينهضون من فراشهم، ليدفنوا رؤسهم وسط فروع الزهرة تحت ضوء القمر في ليل قارس البرودة. كانت زهور لاماي الموجودة تحت ضوء القمر مقدسة للغاية، يطوقها الهدوء. يلتقى لمعان بتلاتها مع نور القمر الساطع، ويمتزج أريج الزهرة الصافي مع رائحة الليل، فينفذ إلى صدر المرء. ذات يوم، استيقظت باكرا، كان الطقس باردا بشكل عجيب. دفعت النافذة لأنظر، فوجدت ندفات الثلج الكثيرة تتطاير، والحديقة كلها مكسوة باللون الأبيض الفضي. أصبحت زهور لاماي أكثر بروزا وإثارة للانتباه. مازالت منتصبة ممشوقة خلابة الهيئة، أضفى عليها العالم الأبيض بلمعانه الفضي طلة فريدة وأنيقة. بعض من المرضى الشباب أرادوا المخاطرة بالسير على الثلج مسرعي الخطى لرؤيتها، ولكن الممرضة منعتهم. قالت الممرضة بصوت خفيض، إن كلهم مرضى، كيف يمكنهم تحمل مثل هذه الرياح الباردة؟ كما أنهم لن يعودوا بسرعة! كان المرضى الذين يقفون أسفل ممر الإفريز بالطابق الأرضي، وفي شرفة الطابق الثاني، ينظرون إلى زهرة لاماي بمشاعر دافئة حنونة. قال البعض إن هذا الثلج الكبير قطعا سيقطع العديد من أوراق زهورها، ولكن هناك من اعترض على هذا الرأي، في حين أكد آخرون أن الثلج الكثيف يساعد على تفتح براعمها أكثر وبشكل أسرع. في النهاية أثر هذا الجدال في نفس الممرضة، فبادرت بالتطوع للمخاطرة وسط الثلج لتحصي عدد زهور لاماي. كانت هذه الممرضة شابة ممشوقة القوام، وبمجرد أن مضت قدما، ذابت ملابسها البيضاء وسط بياض الثلج الكثيف. تقدمت بخطى رشيقة حتى وصلت إلى زهرة لاماي. مسدت شعرها، وأخذت تحصي بدقة وهي تخفض وترفع رأسها. بالتأكيد هي تعلمت قدرا من الرقص، فشكل جسدها وهي تحصي عدد الأزهار كان يستعيد إلى ذاكرة الإنسان أسطورة "حورية سماوية تنثر الأزهار". في النهاية، عدلت جسدها، ونظرت صوب البناية الكبيرة وعلى شفتها ابتسامة خفيفة. اندفعت وسط الثلوج مُعلنة عن رقم، فهلل جميع المرضى الموجودين أعلى البناية وأسفلها. الرقم يدل على أن أزهار لاماي صمدت أمام ليلة ثلجية، بل على العكس ازداد عدد زهورها، ولم تذبل. في نهاية ذاك الشهر، طلب المشفى من المرضى اختيار الممرضة المثالية، فحصلت الممرضة التي خاطرت في الثلج وذهبت لتعد الزهور على الأصوات كلها. بعد بضعة أيام، انهمرت الأمطار فجأة. لا يكون المطر عادة بهذه الغزارة في شتاء شانغهاي. اجتمع المرضى كلهم تحت ممر الأفريز وأمام الشرفات. استوعب الجميع أن زهرتنا في خطر حقا هذه المرة. بضعة عيون ثاقبة النظر، ميزت تساقط بتلات الزهور من الأغضان. كانت زخات المطر تشتد كل فترة، وقد تطايرت بعض أوراق الأزهار في الممر. رفع المرضى رؤوسهم إلى السماء وأطلقوا تنهيدات بوجوه منزعجة. في ذلك الوقت، رن صوت عذب في الآذان قائلاً: "سأذهب لأنصب مظلة!" كان هذا صوت ممرضة أخرى، فالممرضة التي تحدت الثلج وخاطرت لتعد الأزهار لم تأت إلى العمل اليوم. على الرغم من أن هذه الممرضة كانت هيفاء، كانت تتمتع بقدر من الروح الطفولية. حملت في يديها مظلة حمراء حريرية، وأخذت تتجول بعينيها من حولها. نسى المرضى أن يعبروا عن شكرهم لها، فقد أخذوا يراقبونها في صمت، وكأنهم رأوا شهابًا. فجأة منعها واحد من المرضى، قائلا إن المظلة الحمراء مبهرة للنظر غير متناسقة أبدا مع لون زهرة لاماي. زمت الممرضة شفتيها ضاحكة، أدارت جسدها وعادت إلى المكتب، وأحضرت مظلة حريرية صفراء اللون. اعترض مريض في آخر لحظة، قائلا إن اللون الأصفر يمكنه أن يطغي على اللون الأصفر لأزهار لاماي. من حسن الطالع أن الممرضات يستخدمن مظلات متعددة الألوان، في النهاية وقع الاختيار على مظلة بنفسجية اللون. كانت الممرضة تنتعل حذاء أبيض واقيا من المطر، فتحت المظلة البنفسجية، ووصلت إلى زهرة لاماي، وأخذت حبلا وربطت المظلة فوق أغصانها. بعد أن انتهت من ربطها، ذهبت ممرضة أخرى تحمل مظلة لمعاونتها. عادت الفتاتان وكل منهما تمسك بذراع الأخرى. (4) جاء الربيع، وفي النهاية ذبلت أزهار لاماي. خرج المرضى من المشفى تباعا. كان كل منهم قبل أن يغادر، يذهب إلى زهرة لاماي يتأملها بعض الوقت. نبتت البراعم الخضراء للأشجار المختلفة، وبدأت الحشائش الخضراء النابتة في الأرض تتمايل، أخذت تُشرق وجوه ونظرات المرضى تدريجيا. لم يمر وقت طويل حتى تفتحت أزهار ندية كثيرة، وكذلك تخللتها الفراشات والنحل. إن أصعب فصل يمكن تحمله في عنابر المشفى هو الشتاء، ولكن في هذا الشتاء كان لدينا أزهار لاماي. في هذا الوقت ذبلت زهور لاماي واختبأت. شاخت وأصبحت مجعدة، وكأنها فرع يابس ناضب. تراهن بعض المرضى قائلين: "مهما حدث، سنأتي مرة أخرى، وندخل بلا استئذان لرؤية لاماي في شتاء هذا العام." قالت الممرضة: "لن تعودوا مرة ثانية، فنحن لا نتطلع إلى أن يزورنا الأصحاء بلا داع. فقد شفيتم، والأهم الآن أن تلحق خطاكم بالطريق. زهرة لاماي هذه تتفتح من أجل المرضى فقط." عندما انتهت الممرضة من كلامها، توردت وجنتاها. -- يو تشيو يو، كاتب صيني من مواليد مقاطعة
تشجيانغ عام 1946، يشغل حاليا منصب رئيس أكاديمية "تشيو يو" للفنون. مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر مواضيع ذات صلة ©China Today. All Rights Reserved.24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037 分享到
الإنسان غريب الأطوار حقا، عندما يكون في غرفة أو مكان صغير، يسرح عقله في عالم الخيال ويهيم فيه طولا وعرضا، لكن حينما أكتب مذكرات أسفاري المتنوعة إلى الجبال الشاهقة المشهورة والأنهار الممتدة في كل بقاع الأرض، كانت هناك دوما بعض النقاط المبهمة وغير الجلية، ثابتة أمام عيني، ربما كان رجلاً مسنًا قابلته في الطريق صدفة، أو عصفورا صغيرا وقف إلى جانبي ولم يبرح، وربما كومة من القش جعلتني أختلس قيلولة صغيرة. ربما لم ألتقِ بكل ذلك في جولاتي، ولكن دائما تكون هناك نقاط مضيئة بارقة من الذكريات تنبثق إلى عقلي أينما وطأت قدماي، مما يشكل بعض العقد في خيط الحياة المنساب. نعم، إذا افترضنا أن الحياة كالخيط المنساب، فيمكننا أن نعتبر الأشياء ذات القيمة تشكل عقدا أو نقاطا. لأتخلص من أطراف الخيوط الطويلة الزائدة، وأتذكر فقط تلك العقد المعدودة، فهي في الحقيقة غنية أيضا بما يكفي. لذلك أريد أن أكتب عن زهرة استثنائية في سلسلة مذكرات السفر الخاصة بي؛ وهي زهرة البرقوق (لاماي). مكانها ليس قصيا، فهي موجودة في مشفى بغربي شانغهاي. كانت هذه الزهرة بمثابة ضوء خافت يومض بقلبي طوال رحلتي البعيدة الطويلة. (2) الشخص ذو الخطوات المتينة الثابتة، قد تأتي عليه أوقات ويصاب بعلة. وأن يقطن مسافر في مشفى، ربما يكون هذا أكبر تناقض نفسي يتعرض له. يريد طاقة جسدية، ولكنه لا يجد، يتطلع إلى مساحة، ولكن لا تكون هناك مساحة، فينتظر وسط بحور القلق وقلة الحيلة، دون أن يعرف متى يمكنه أن ينتقل إلى المحطة التالية من الحياة. يبدو أن لكل مجتهد نصيبا، ولكن أحيانا يكون له عقاب أيضا. تكون خطاك نشيطة كالمعتاد، فتحملك إلى المجيء إلى هذا المشفى الصغير، لتبقى فيه مدة، يختلج في نفسك شعور بالوجل والاسترخاء. بغض النظر عن رغبتك في ذلك أم لا، وتعودك عليه أم لا. المشفى الذي بقيت فيه هذه المرة كان في الأصل دارا خاصة لرجل أعمال أجنبي ثري. في حديقة المشفى أشجار كثيرة، ولكن للأسف، جردها الشتاء من أوراقها. اعتادت عيناي على رؤية المناظر الخلابة؛ لذلك باتت متعطشة باحثة طوال الوقت عن اللون الأخضر بين صفوف الأشجار الناضبة. لم أر سوى تشابك وتداخل اللون البني الترابي، وتجول المرضى الذين يرتدون ملابس من نفس الطراز بشكل متكرر، فكنت أشعر بالضيق يجسم على قلبي كلما تطلعت إليهم. يتوقف المرضى لتجاذب أطراف الحديث من حين إلى أخر. لم يكن كلامهم يخلو من الحديث عن المرض. وبدافع من الأدب، لم يكونوا يجرؤون على تبادل أسئلة كثيرة. ولكن، كان هناك مريضان يتجاذبان أطراف الحديث بسرور وبصوت عال بمجرد أن تتاح لهم فرصة لذلك. تقول الممرضة: إنهما مصابان بمرض عضال، وأن تفاؤلهما يحظى باحترام الناس وتقديرهم. وكذلك، كان الجميع يعرف أن هذا أيضا نوع من الدعم النفسي والمعنوي القوي لهما. لكن، كان القليل من الناس يصغون إلى كلامهما الممزوج بالضحكات؛ لأنه ليس بوسع الجميع أن يظهروا ردود أفعال مطمئنة، أو يرسمون ابتسامات متكلفة. كانت الممرضة تصحبهما دائما للتمشي، وكان الجميع ينظر إلى هيئتهما من الخلف. كان كل المرضى يحبون النوم والاستيقاظ مبكرا، وعند بزوغ الفجر، تكتظ الحديقة بهم. كان الجميع يهرعون إلى استنشاق الهواء بعمق، وتحريك الأيادي والأرجل، خشية من أن يأتي ضوء النهار، فيروا بوضوح جلي تلك الأشجار القاحلة العارية والملامح الشاحبة المريضة. في هذا الوقت فقط، يكون كل شيء بين النوم واليقظة، والطقس بارد و منعش، فينشرح صدرك، وتختلس فرصة لرؤية صباح باكر وغائم. كانت الأيام تمر يوما بعد يوم على هذا النحو. ولكن، ذات صباح باكر، شعر الجميع فجأة أن الهواء مختلف، كأن هناك أمرا غير طبيعي، ذُعِرت ثم نظرت حولي، فأدركت أن الناس تجمهروا حول شيء، في زاوية ما في الحديقة. مشيت بخطى مسرعة، ومددت عنقي لأرى الأمر، فإذا بواحدة من زهور البرقوق التي تتفتح في الشتاء (لاماي) تطل من وسط الجموع الغفيرة. كان نور الشفق الخافت منعكسا على بتلة زهرة صفراء مشعة تفتحت توا. كان الذين يدنون منها يرددون اسمها على ألسنتهم، ولكن بمجرد أن يصلوا إلى جوارها لا يحركون ساكنا. جمال ونقاء الأريج الخفيف المنبعث منها، جعل الجميع ينجذب إليها. لا تشم شيئا إذا تعمدت أن تستنشق عطرها، لكن أنفك كله يعبق بهذا العطر عندما لا تستنشقه، وكأنه يسري وينتشر فجأة في روحك وجسدك. كانت الزهرة، مجرد زهرة تفتحت لتوها. ولكن وجودها هنا كان أشبه بقطيع من الجمال في صحراء، مثل كوخ في جبال مقفرة، كرؤية مطر بعد قحل طال، كصفاء السماء بعد انهمار المطر طويلا. كان الأصدقاء المرضى، يتأملونها قليلا، ويحنون أجسادهم ببطء، ثم يتركون أماكنهم للناس المتكدسين من خلفهم. أما أنا، فتجولت مرتين في الحديقة، ثم توقفت مرة أخرى هناك، وانتظرت بصبر خلف جموع الناس. تحول المشي في المشفى كله، إلى حلقات حول زهرة لاماي، وكأنها باتت هي المركز. (3) عدد من مرضى المشفى مصابون بأمراض عصبية. عالمهم صغير، ضعفاء بدنيا وعقليا، إذا أرادوا التفكير في أي شىء، لا ينتهون من التفكير فيه. سمعت شخصا يقول إن العديد من المرضى تولدت بداخلهم مشاعر عاطفية تجاه ممرضة لطيفة جميلة. هذا شيء لا يمكن لومهم عليه على أي حال، أو أخذه على محمل الجد، بل هو شكل طبيعي من أشكال الضعف النفسي. وعندما يحين وقت خروجهم من المشفى، تكون نفسيتهم قد تعافت، وصار كل شىء كغيمة عابرة. الآن كل مشاعر المرضى موجهة إلى زهرة لاماي، مصحوبة بافتتان جنوني. صديقان لي من المرضى الموجودين معي في نفس العنبر، كانا يقولان إنهما يشمان عطر الزهرة بمجرد أن يسيقظا مبكرا، لدرجة أن واحدا منهما قال إن عطر الزهرة يتسلل إلى أنفه فيجعله يستفيق، ولكن في الواقع كان عنبرنا بعيدا عن الزهرة بأربعين أو خمسين مترا على أقل تقدير. أعتقد أن زهرة لاماي هذه أصبحت هوس المرضى. أفسحت جميع الأشجار المتنوعة والأغصان المتداخلة العشوائية المكان لها، فإذا هي تقف بزهو وشموخ وسط المكان، مما يجعل الناس يرون بوضوح أوضاعها كلها. أغصانها اليافعة الملتوية داكنة الخضرة، ملتفة بسواد أشبه بتجاعيد الزمن. إذا نظرت إلى أغصانها الجافة، بدت وكأنها ذبلت منذ أمد بعيد، وكأن نموذجا من تاريخ حزين يمتد هنا فحسب. في الحقيقة، يصعب تصور أن تنبثق فجأة حيوات كثيرة نابضة بالحيوية، من وسط قمة هذه الأغصان. بتلات الزهرة لونها أصفر نقي، رقيقة جدا وكأنها ليس لها بنية أو تكوين. ظلال ألوانها المنعكسة، جميلة نضرة وشفافة كالبلور. كانت الحديقة بأسرها خالية من أي ألوان أخرى، وكأن سقوط الأوراق واصفرار الأغصان أحدث خريفا، وبرودة الطقس وتجمد الأرض جلب شتاء، فبات كلاهما تمهيدا لظهور زهرة لاماي. تهتز بتلات زهرة لاماي برقة وسط الرياح الباردة. هذا الاهتزاز بوسعه زلزلة كل السماوات الزرقاء الصافية. لم يعد يبغض المرضى الشتاء، وأمام زهرة لاماي، أدرك الجميع أن روعة الألوان وجمال عطرها، يصحبه ذلك البرد الصحو وحسب، وهذا ما خلّف المفهوم الجمالي للعبارة التالية: زهرة جميلة تصمد أمام البرد القارس. كل يوم تتفتح بضع زهور من لاماي. بات حساب عدد براعمها وأزهارها، حدثا جللا لكل العنابر. ولذلك، كان يحدث دائما جدل حول ذلك. وعندما كان كل فرد يتشبث برأيه، كانوا يذهبون معا إلى فروع الزهرة ويعدونها بدقة. أحيانا، كان يحدث هذا الأمر في جنح الليل، حتى أن المرضى كانوا يرتدون ملابسهم وينهضون من فراشهم، ليدفنوا رؤسهم وسط فروع الزهرة تحت ضوء القمر في ليل قارس البرودة. كانت زهور لاماي الموجودة تحت ضوء القمر مقدسة للغاية، يطوقها الهدوء. يلتقى لمعان بتلاتها مع نور القمر الساطع، ويمتزج أريج الزهرة الصافي مع رائحة الليل، فينفذ إلى صدر المرء. ذات يوم، استيقظت باكرا، كان الطقس باردا بشكل عجيب. دفعت النافذة لأنظر، فوجدت ندفات الثلج الكثيرة تتطاير، والحديقة كلها مكسوة باللون الأبيض الفضي. أصبحت زهور لاماي أكثر بروزا وإثارة للانتباه. مازالت منتصبة ممشوقة خلابة الهيئة، أضفى عليها العالم الأبيض بلمعانه الفضي طلة فريدة وأنيقة. بعض من المرضى الشباب أرادوا المخاطرة بالسير على الثلج مسرعي الخطى لرؤيتها، ولكن الممرضة منعتهم. قالت الممرضة بصوت خفيض، إن كلهم مرضى، كيف يمكنهم تحمل مثل هذه الرياح الباردة؟ كما أنهم لن يعودوا بسرعة! كان المرضى الذين يقفون أسفل ممر الإفريز بالطابق الأرضي، وفي شرفة الطابق الثاني، ينظرون إلى زهرة لاماي بمشاعر دافئة حنونة. قال البعض إن هذا الثلج الكبير قطعا سيقطع العديد من أوراق زهورها، ولكن هناك من اعترض على هذا الرأي، في حين أكد آخرون أن الثلج الكثيف يساعد على تفتح براعمها أكثر وبشكل أسرع. في النهاية أثر هذا الجدال في نفس الممرضة، فبادرت بالتطوع للمخاطرة وسط الثلج لتحصي عدد زهور لاماي. كانت هذه الممرضة شابة ممشوقة القوام، وبمجرد أن مضت قدما، ذابت ملابسها البيضاء وسط بياض الثلج الكثيف. تقدمت بخطى رشيقة حتى وصلت إلى زهرة لاماي. مسدت شعرها، وأخذت تحصي بدقة وهي تخفض وترفع رأسها. بالتأكيد هي تعلمت قدرا من الرقص، فشكل جسدها وهي تحصي عدد الأزهار كان يستعيد إلى ذاكرة الإنسان أسطورة "حورية سماوية تنثر الأزهار". في النهاية، عدلت جسدها، ونظرت صوب البناية الكبيرة وعلى شفتها ابتسامة خفيفة. اندفعت وسط الثلوج مُعلنة عن رقم، فهلل جميع المرضى الموجودين أعلى البناية وأسفلها. الرقم يدل على أن أزهار لاماي صمدت أمام ليلة ثلجية، بل على العكس ازداد عدد زهورها، ولم تذبل. في نهاية ذاك الشهر، طلب المشفى من المرضى اختيار الممرضة المثالية، فحصلت الممرضة التي خاطرت في الثلج وذهبت لتعد الزهور على الأصوات كلها. بعد بضعة أيام، انهمرت الأمطار فجأة. لا يكون المطر عادة بهذه الغزارة في شتاء شانغهاي. اجتمع المرضى كلهم تحت ممر الأفريز وأمام الشرفات. استوعب الجميع أن زهرتنا في خطر حقا هذه المرة. بضعة عيون ثاقبة النظر، ميزت تساقط بتلات الزهور من الأغضان. كانت زخات المطر تشتد كل فترة، وقد تطايرت بعض أوراق الأزهار في الممر. رفع المرضى رؤوسهم إلى السماء وأطلقوا تنهيدات بوجوه منزعجة. في ذلك الوقت، رن صوت عذب في الآذان قائلاً: "سأذهب لأنصب مظلة!" كان هذا صوت ممرضة أخرى، فالممرضة التي تحدت الثلج وخاطرت لتعد الأزهار لم تأت إلى العمل اليوم. على الرغم من أن هذه الممرضة كانت هيفاء، كانت تتمتع بقدر من الروح الطفولية. حملت في يديها مظلة حمراء حريرية، وأخذت تتجول بعينيها من حولها. نسى المرضى أن يعبروا عن شكرهم لها، فقد أخذوا يراقبونها في صمت، وكأنهم رأوا شهابًا. فجأة منعها واحد من المرضى، قائلا إن المظلة الحمراء مبهرة للنظر غير متناسقة أبدا مع لون زهرة لاماي. زمت الممرضة شفتيها ضاحكة، أدارت جسدها وعادت إلى المكتب، وأحضرت مظلة حريرية صفراء اللون. اعترض مريض في آخر لحظة، قائلا إن اللون الأصفر يمكنه أن يطغي على اللون الأصفر لأزهار لاماي. من حسن الطالع أن الممرضات يستخدمن مظلات متعددة الألوان، في النهاية وقع الاختيار على مظلة بنفسجية اللون. كانت الممرضة تنتعل حذاء أبيض واقيا من المطر، فتحت المظلة البنفسجية، ووصلت إلى زهرة لاماي، وأخذت حبلا وربطت المظلة فوق أغصانها. بعد أن انتهت من ربطها، ذهبت ممرضة أخرى تحمل مظلة لمعاونتها. عادت الفتاتان وكل منهما تمسك بذراع الأخرى. (4) جاء الربيع، وفي النهاية ذبلت أزهار لاماي. خرج المرضى من المشفى تباعا. كان كل منهم قبل أن يغادر، يذهب إلى زهرة لاماي يتأملها بعض الوقت. نبتت البراعم الخضراء للأشجار المختلفة، وبدأت الحشائش الخضراء النابتة في الأرض تتمايل، أخذت تُشرق وجوه ونظرات المرضى تدريجيا. لم يمر وقت طويل حتى تفتحت أزهار ندية كثيرة، وكذلك تخللتها الفراشات والنحل. إن أصعب فصل يمكن تحمله في عنابر المشفى هو الشتاء، ولكن في هذا الشتاء كان لدينا أزهار لاماي. في هذا الوقت ذبلت زهور لاماي واختبأت. شاخت وأصبحت مجعدة، وكأنها فرع يابس ناضب. تراهن بعض المرضى قائلين: "مهما حدث، سنأتي مرة أخرى، وندخل بلا استئذان لرؤية لاماي في شتاء هذا العام." قالت الممرضة: "لن تعودوا مرة ثانية، فنحن لا نتطلع إلى أن يزورنا الأصحاء بلا داع. فقد شفيتم، والأهم الآن أن تلحق خطاكم بالطريق. زهرة لاماي هذه تتفتح من أجل المرضى فقط." عندما انتهت الممرضة من كلامها، توردت وجنتاها. -- يو تشيو يو، كاتب صيني من مواليد مقاطعة
تشجيانغ عام 1946، يشغل حاليا منصب رئيس أكاديمية "تشيو يو" للفنون. مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر مواضيع ذات صلة ©China Today. All Rights Reserved.24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037 分享到