سعيد العزب - قراءة لقصة 'الهدهد ناصحا'

المتابع لكتابات الدكتور سيد شعبان الإبداعية يلحظ فورا وبغير عناء لغة أصيلة ، وعبارات متينة ، ومفردات عجيبة فى مقالاته وفى قصصه القصيرة على حد سواء ، وقد اختط أديبنا لنفسه فى كتابة القصة القصيرة خطا سرديا متفردا لم يأت من فراغ إنما هو نتاج موهبة فطرية تعمقت وتأصلت بالدراسة المتخصصة والقراءة الواعية والممارسة الدؤوبة ، وعلى القارئ العادى - مثلى - أن يحذر الاقتراب من كتابات أديبنا القصصية بالتحليل أو التعليق إذا لم يكن خالى الذهن من مشاغله حين قراءته وإلا أوقع نفسه فى شراك مراوغاته ، على كل حال فقد وجدت بين يدى نصا يختلف قليلا فى سياقه السردى المتفرد عما قرأت لأديبنا المتميز ، النص الذى بين أيدينا يحمل عنوان ( الهدهد ناصحا ) ويبدو وجه الاختلاف عن أغلب النصوص التى قرأتها لأديبنا كون النص يمضى فى خط درامى واحد ويتمحور حول فكرة واحدة فلا خطوط درامية متشابكة ولا تعدد للأفكار فى ذات النص ، الهدهد كما فى سياق النص هو ذات الهدهد الذى نعرف حكايته كما ورد ذكرها بالقرٱن الكريم مع نبى الله سليمان ، ولعل استدعاء هذا الهدهد بالذات لم يكن ممكنا إلا من خلال رؤيا لنائم يقصها الراوى النائم حين يصحو ليحمل دلالة ورسالة ، تتوالى الإشارات فى النص ما بين غوص فى الماضى البعيد حيث بلاط بلقيس ملكة سبأ وعرشها العظيم ومملكتها وجندها إلى رؤية غائمة لحاضر فيه نهر يوشك أن يبتلع الحوت ماءه وتختفى أسماكه ولا يجد الناس غذاءهم من نهرهم ولن يجدوا قمحا ( بعد ان أحكم الروس الخناق على سنبلاته ) فى إشارة حديثة للغزو الروسى لأوكرانيا وهنا يحمل الهدهد فى الرؤيا رسالة للراوى النائم حين يصحو أن يبلغ الملكة بأمر النهر والحوت ويبلغها أيضا أن هناك فيلا ضخما يخطط لهدم البيت لتتدبر للأمر ( الحوت ناصحا ) ، ويصحو صاحبنا فزعا فيفتح النافذة ليتفاجأ بهدهد يشبه ما أريه فى نومه ( يضرب بمنقاره تحت شجرة التوت العجوز ، بالقرب منه تتراقص حية فتحت فمها حتى ابتلعت القمر الذى لم يعد بازغا فوق تلة جادو ! ) ، من العرض السابق نكتشف براعة الكاتب فى اختيار الهدهد ودوره كمخبر وناصح كما ورد بالقرٱن الكريم ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) إلى ٱخر الٱيات والربط بين الرؤيا المنامية وبين الواقع فى اليقظة وتوظيف الحدث فى الماضى البعيد لإبراز الفكرة التى توثق الحدث الحاضر فى إشارات بعضها رمزى والبعض الٱخر واضح جلى ، هذا بعض ما تيسر لى من خلال رؤيتى وقراءتى الخاصة ، تحياتى لأديبنا المبدع الدكتور د.سيد شعبان .


***

* النص:

الهدهد ناصحا!

أخذتني سنة من النوم؛ هذا أمر معتاد، إنني مصاب بهلاوس تصيبني كل آونة.
علي أن أعاود طبيب الوحدة الصحية ذات المبنى العتيق، إنه ينصحني كثيرا بأن آوي إلى فراشي مبكرا، يقرأ في كتاب أبو قراط الحكيم، ومن ثم ينصرف عني!
يبدو أن الزمن قد توقف فقد سافرت بعيدا حيث بلاط بلقيس؛ يصعب عليكم تصديق ذلك؛ لا أدري ما الذي جعلني أقص ذلك الحلم عليكم؟
حاولت تكتمه، لكنني عجزت!
لم أكن أنتعل حذائي؛ يحدث هذا كثيرا حين أكون نائما؛ المرة الوحيدة التي تحسسته كانت منذ أيام، فبرودة ليل الشتاء أنستني أن أقوم بخلعه؛ كم كان سيئا أن أنام على هذي الحال!
ليلة أمس زراني هدهد لم أشاهد من قبل له مثيلا؛ لقد كان جميلا عذب الصوت، أخذ ينقر في رأسي، أحصيت عدد ما فعل فكان سبعة، لكم أن تتخيلوا أن الهدهد عند كل نقرة يهمس في أذني؛ في المرة الأولى أخبرني بأن حوتا عملاقا سيشرب ماء النهر وأن الأسماك ستختفي ولن يجد الناس ماء يشربونه ناهيك أن يغتسلوا به، وأنهم بطبيعة الحال لن يتوفر لهم طعاما منه.
بدأت الظنون والهواجس تحيط بي؛ كيف يأتى حوت كبير ويشرب ماء النهر؟
تذكرت أن الشائعات تسري حين توظفها جهات عليا؛ لكن الهدهد عالجني بنقرة ثانية ومن ثم همس في أذني اليسرى:
سيكون فيل ضخم يضرب البيت، انتابتني رعدة،
خيم على ذهني سؤال:
أو جاء أبرهة الحبشي مرة ثانية؟
لكن هاتفي يخبرني أننا الآن نقترب من منتصف الألف الثانية لهجرة النبي!
لم يكتف الهدهد بهذا النبأ؛ أخذ يلطم خدي بجناحيه.
أوشكت أن أصحو؛ ثمة خدر يسري في جسدي؛ فتلك الليلة لم أتناول الخبز، لقد غلا ثمنه مجددا؛ فالروس أحكموا الخناق على سنبلات القمح، صارت البحار تسكنها الجنيات!
لم أشأ أن أترك حصر نقراته في وجهي؛ لكنه أحدث صخبا؛ أمسك بطرف عباءة جدي الصوفية التي نسجت من صوف أغنامنا الرحمانية، أدخلني فيها ثم ضرب بجناحيه وطار بي، شاهدت خياما وأغناما وإبلا تسير في قطار أدركت أن تلك رحلة الشتاء، رجلا يكاد وجهه يحمر لهبا!
وجدتني أمام الملكة في بلاد سبأ؛ لها جند كثيف؛ تلمع حرابهم ويخفون في ثيابهم كتابا مسطرة به كلمات غريبة، صور بأشكال عجيبة!
قال لي كلاما لم أفهم منه جملة واحدة؛ غير أنه أشار علي بأن أخبر الملكة أن النهر في النزع الأخير، حاولت أن أعرف منه أي الأنهار، هزأ بي، نطقت يمامة كانت صامتة:
كل أنهار بلاد الملح!
كنت قد سمعت من جدتي الحضراء مثل ذلك
ِتذكرت أن الطيور لها لسان، ترى من بعد نبي الله سليمان يفهم منطق الطير؟
حين تختفي حبات القمح ويندر السمك فالحوت الكبير لن يدع ماء يجري.
قمت من نومي فزعا، أسرعت إلى النافذة، إذا بهدهد يشبه الذي أريته في نومي يضرب بمنقاره تحت شجرة التوت العجوز!
بالقرب منه تتراقص حية فتحت فمها حتى ابتلعت القمر الذي لم يعدا بازغا فوق تلة جادو!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى