د. عبدالجبار العلمي - رواية "البَرْزخ" للروائي المغربي عمر والقاضي.. (العنوان وإشكالية التجنيس)

رواية " البرزخ " هي أول رواية قرأتُها للقاص الروائي عُمَر ولْقاضي ، والكاتبُ ليس غريباً عن عالم الكتابة، فقد اكتوى بنارها ، وعانى عذاباتها منذ أواخر الستينيات حيث مارس كتابة القصة القصيرة منذ ذلك الزمن البعيد. وكان ينشر قصصه آنذاك في جريدة "العَلَم" في صفحة "أصوات" التي كان يشرف عليها ثلة من خيرة أدبائنا( ). ، وقد أصدر بعدها مجموعة من الأعمال الروائية نذكر منها: " الطائر في العنق " ـ "رائحة الزمن المقيت " ـ الجمرة الصدئة " ( سيرة روائية ) ـ " سرير بروكرست ". وسنكتفي بمقاربة العنصرين التاليين مراعاة لحيز النشر، على أن ندرس بقية مكونات الخطاب الروائي لهذه الرواية في مقالة أخرى.
1 ـ دلالة العنوان :
أول ما يثير انتباه القارئ قبل أن يقتحم العالم المسرود الذي يقع بين دفتي الكتاب هو العنوان : " البرزخ " بالإضافة إلى عبارة "نص روائي" المثبتة تحت هذا العنوان . سيتم الاهتمام بهذين العنصرين الواقعين في فضاء الغلاف، عاملين على إقصاء العناصر الأخرى المؤثثة لهذا الفضاء كاللوحة التشكيلية بواجهة الغلاف والعبارات والأقوال الصادرة عن بعض الأدباء والنقاد المغاربة الواردة بظهره .
في لسان العرب لابن منظور ، مادة "برزخ" ، نقرأ التعاريف الآتية للفظ "البرزخ" : " ما بين كل شيئين " - "الحاجز بين الشيئين "- البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة قبل الحَشْر مِنْ وقتِ الموتِ إلى البعث ، فمن مات ، فقد دخل البرزخ ؛ وفي حديث المبعث عن أبي سعيد : في برزخ ما بين الدنيا والآخرة.
إننا إذن بإزاء شيء ما واقع بين شيئين ، شيء يتسم بالهول وبأمور لا قبل للمرء بها ، إنه شيء يقع قبل الحشر ، ما بين الدنيا والآخرة . على مستوى الغلاف نفسه ، نجد لفظ "البرزخ" مكتوباً بلون أحمر ، لون النار ، ونلاحظ أن الأحرف والنقط قد اندلعت منها ألسنة النار من مختلف الجوانب ( أعلى ، أسفل ، يمين ، شمال ) . يشير هذا إلى جو العذاب والمعاناة الذي نحن مقبلون على دخوله . كما نجد أن لفظ العنوان واقع بين شيئين هما : عبارة : ( نص روائي) في الأسفل واسم المؤلف في الأعلى ( عُمر والقاضي ). إن العِنوان نفسَه " برزخ " تجدر الإشارة إلى أن هناك قصدية في اختيار هذا العنوان " فاختيار العناوين عملية لا تخلو من قصدية كيفما كان الوضع الأجناسي للنص ، إنها قصدية تنفي معيار الاعتباطية في اختيار التسمية ( ) عبارة ( نص روائي ) هي الأخرى التي نجدها تحت العنوان ، لم يثبتها الكاتب بصورة اعتباطية كذلك ، بل تم إثباتها على الغلاف قصداً ، ذلك أنه يريد أن يبلغنا أن ما سنقرؤه هو رواية متخيلة وليس سيرة ذاتية . إنها وسيلة فنية أراد بها الكاتب إقناعنا بأن المحكي هو محكي متخيل. وأن السارد - المشارك في الحدث ، ليس هو الكاتب نفسه إن المؤلف بهذه الوسيلة يعقد مع القارئ ميثاقاً روائياً ( حيث يشار إلى الطبيعة "التخييلية" للكتاب على صفحة الغلاف ( ) وليس ميثاقاً سيرياً ، فرغم أن المتن يمتلئُ بالشواهد الدالة على أن ما يروى هو سيرة ذاتية ، فإن عبارة الغلاف تجعل المرء في حالة من الحيرة والتردد بين أن يُصَدِّق ما تَقُوله الشَّواهد ، وما تقولُه العبارة على الغلاف، ألا تدفعُ هذه العبارة القارئَ إلى الوقوع في متاهات من الضلال الفني الجميل قبل أن يُمسكَ بالسِّر ويدركَ حقيقة الأمر ؟ فإلى أي من الجنسين ينتمي نص "البرزخ" ؟ إلى السيرة الذاتية أم إلى الرواية ؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال المحور التالي:
2 ـ إشكالية التجنيس:
في الحقيقة لا يستطيع المرء إلا أن يبقى محترزاً حريصاً على ألا يفوه بالقول الفصل إزاء هذه المسألة، إلا بعد الوقوف على بعض التمييزات الدقيقة التي تميز بين السيرة الذاتية والرواية ، " إننا لن نتهم الأدباء بأنهم يعرضون علينا وقائع حياتهم تلك التي نعرفها عن طريق الاتصال الشخصي أو السماع ، ولن نقول بكل بساطة إن بومهدي في رواية " أرصفة وجدران " هو زفزاف ، وأن عبد الكريم غلاب في " سبعة أبواب " الذي عاش مرحلة الاستعمار في الرواية أو أن عبد المجيد بن جلون هو نفسه ذلك "الطفل" الذي صوره في مِلفه . إن مثل هذه الأحكام تبدو اعتباطية ولا معنى لها بالنظر إلى ما وصل إليه الحديث عن طبيعة علاقة المبدع بسيرته باعتبارها إبداعا أدبيا( ).
صحيح أن هناك شواهد كثيرة مستقاة من حياة المؤلف وتاريخ شخصيته ، فلقد عاش طفولته وصباه في مدينة الناظور ، وعاش فترة من شبابه في مدينة فاس ، يطلب العلم في كلية آدابها العتيدة أواخر الستينات ، وهو الآن يقيم بمدينة الدار البيضاء . وهناك أيضا إشارات إلى عمله في حقل التربية والتعليم ( الفصل 11 من ص : 10 - 12 ) إلى غير ذلك من الشواهد ، إلا أن كل ذلك لا يسمح لنا بالحسم بأن هذا العمل ينتمي إلى السيرة الذاتية ، وذلك لعدة اعتبارات منها :
أ - أن السيرة الذاتية تفترض" أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية ( . ) كما يؤكد ذلك فيليب لوجون - فالسيرة الذاتية كما يعرفها هذا الأخير هي : " حكى استعدادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة ( )
ب ـ ليس هناك عقد أو ميثاق أوتوبيوغرافي سبق للكاتب أن أبرمه مع القارئ يشير أن هذا العمل هو سيرة ذاتية ، بل إن العقد الذي يريد أن يبرمه هو عقد أو ميثاق روائي حيث أثبت على الغلاف عبارة "نص روائي" كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفا.
إذن ، يجب ألا نعمد إلى تأطير هذا النص ضمن السيرة الذاتية على اعتبار أنه يحتوي على كثير من الشواهد الدالة على حياة الكاتب ، فما لم يكن هناك ميثاق أوتوبيوغرافي وتطابقُ بين المؤلف والراوي والشخصية ، فليس هناك سيرة ذاتية.
يرى حسن بحراوي أن بعض النقاد المغاربة البارزين وقعوا في مغالطة حينما صنفوا بعض الأعمال الروائية المغربية ضمن السيرة الذاتية "اعتمادا على عناصر بيبليوغرافية استقوها من معرفتهم الشخصية أو الاجتماعية بالمؤلفين "( )
ولقد أرجع الباحث سبب حصول هذا الالتباس لهؤلاء النقاد بين السيرة الذاتية والرواية إلى أن "التاريخ الذي كتب فيه معظمهم عن تلك الروايات لم يكن قد شهد بعد بما فيه الكفاية شيوع هذه التمييزات النقدية الدقيقة في النقد العربي الحديث"
يبقى الاحتكام إذن في تصنيف "البرزخ" إلى الميثاق الذي أبرمه معنا المؤلف والمتمثل في عبارة "نص روائي".
وعلى هذا ، يمكن القول إن نص "البرزخ" من النصوص التي "يمكن تصنيفها داخل "السيرة الروائية " أي تلك النصوص التخييلية التي يرى فيها القارئ تطابقا بين المؤلف والبطل اعتمادا على شبه يعتقد بصحته ، وذلك بالرغم من أن المؤلف ينكر هذا التطابق أو على الأقل لا يؤكده".( )
الهوامش :
1ـ من المفيد الإشارة هنا إلى أن من بين هذه الثلة الخيرة من أدبائنا المرحوم مصطفى الصباغ والدكتور محمد السرغيني أطال الله عمره، وقد نشر في هذه الصفحة - المدرسة - أسماء كثيرة أضحى أصحابها الآن أدباء أو شعراء أو نقادا بارزين أذكر منهم على سبيل المثال : إدريس الناقوري - أحمد المديني محمد الأشعري - نجيب العوفي - إبراهيم الخطيب - أحمد بنميمون - محمد الشيخي - أحمد زيادي وغيرهم ...
2 ـ عبد الفتاح الحجمري ، عتبات النص : البنية والدلالة ، ط 1 ، الدار البيضاء ، منشورات الرابطة ، 1996 ، ص : 19
3 ـ فيليب لوجون ، السيرة الذاتية ، الميثاق والتاريخ الأدبي ( ترجمة وتقديم : عمر حلي ) ، ط 1 ، المركز الثقافي العربي ، الدارالبيضاء ، 1994 ، ص : 44.
حميد الحمداني ، دجنبر 4 ـ السيرة الذاتية وعلاقتها بالرواية ، السيرة الروائية المغربية كنموذج ، مجلة آفاق ، 1984 ، ص : 35
. ـ فيليب لوجون ، م . م . س . ص : 245
. نفس المرجع السابق ، ص : 22 6 ـ
7 ـ حسن بحراوي ، أنساق الميثاق الأطوبيوغرافي ، مجلة آفاق ، عدد : 3ـ4 ، دجنبر 1984 ، ص : 44 .
8 ـ المرجع السابق ، ص : 44
ـ المرجع السابق ، ص : 43 ـ 44



1651598405551.png

عدد يوم السبت 30أبريل 2022 في جريدة " الشمال " الغراء .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى