عبد الملك مرتاض - السبْع المعلّقات [مقاربة سيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - دراسة- (8)

ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد

لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها.

وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج...

فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال...

ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها:

*عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ.

إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان..

إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات:

صادَفْنَ منها غِرَّةً فأَصَبْنَها = إِنْ المَنَايَا لا تَطيش سِهَامُها

لقد ظلّت البقرة الأمّ تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صُعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشُّجيراتِ التي تَكْفُرُها وتُخْفْيها عن أعين الصيّادين القرِمين: ظلّت تنتظر ابنها لعله أن يَؤُوبَ، وتَرْقُبُ صغيرها عساه أن يعود: طَوالَ ليالٍ سَبْعٍ، بأَيّامها:

عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ = سَبْعاً تُؤَاماً كامِلا أَيَّامُها

ظلت البقرة الوحشية بغدران صُعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسّس، وتتمسك بالأمل الخُلَّب، والرجاء الكُذَّبِ، لعل جُؤْذَرها أنْ يعودَ؛ ولكنْ أنَّى له ذلك وقد هَلَكَ برمية صياد؟...

ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تَأْتَوِي إلى تلك الشُّجيرات التي كانت تتوقّى بها من المطر الهاطل، والوكف الهاتن: لعلّ صغيرها أن يعود...

البقرة عالِهَةٌ حَيْرَى... ولَبَنُها يتغازَرُ في ضَرْعِها... لقد أَلِفَتْ أن تستقبل الجُؤْذَرَ وهو يرضع من لبنها... فأيْنَ صغيرُها إذن ذاك الوديعُ البريءُ الذي كان يعتقد، أو كانت أمّه تعتقد، بغزيرتها الفطريّة أنّ الله وهَبَه الحياةَ ليحيا، لا ليحيا لكي يَخْتَطِفَ منه ذلك الصيّاد القاسي ما وهبه الله من حياة...؟

إنّ لبيداً لا يصوّر، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يودّ، أو يودّ نصّه(إذا أوّلناه بحسب مقتضيات مَقْصِدِيَّةِ النص، لا بحسب مقتضيات مقصِديَّةِ الناصِّ): تصوير المآسي التي تقع، حَوَالها، في ذلك الحيز العاري المَخُوفِ، في صراع أبديٍّ بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء.

كان الصراع حَوَالَ غُدْران صُعائد: صراعاً وجوديّاً... فلم يعد الماء سبباً من أسباب الحياة، ولا عنصراً من عناصر الخِصْب والرخاء؛ ولكنّه اغتدى سبباً من أسباب الموت والفناء.... البقرة الوحشيّة الثكلى تُيَمِّمُ الغديرَ لأَنْ تَشَرَب مع إِشراقة شمس الصباح، وبعد ليلة نديّة ممطرة؛ فكانت ترى قوائمها تسيخ في الرِّمال والثَّرى... وتيمّمه أيضاً من أجل البحث الغريزيّ عن صغيرها المفقود... فيصادفها جمع من الصيّادين القرِمين إلى لَحْمِها؛ فيشدّون عليها بكِلابهم ويحاولون رَشْقَها بسهامهم؛ ولكنها تَشُدُّ هي، بدافع الدفاع عن الوجود المشروع، على الكلاب الملاحقة لها؛ فتقتل منها سُخَامَاً وَكَسَابِ؛ ثم تطلق، من بعد ذلك، قوائمَها للريح حتى لا تُصيبَها سهامَ الصيّادين المرسَلة عليها من كلّ اتجاه... إنها محنة وجوديّة رهيبة تمرّ بها هذه البقرة المسكينة التي لا يرحمها على الأرض أحد من البشر... فهي لم تفقد جُؤْذُرُّها فحَسْب، ولكنها، الآن توشك أن تفقد نفسَها أيضاً... فهبوطُها تلقاءَ غدران صُعائد، الحيزِ المائيّ الجميل، بحثاً عن صغيرها الضائع كاد يأتي عليها، فيلحقها بولدها المُتَقَصِّدِ.

يا لها مأساةً تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!..

الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ إذْ لا الصّيادون الذين كانوا يكْمُنون قريباً منه لهذه البقرة الوحشية لاصطيادها حقّقوا ما كانوا يريدون إليه، حقاً؛ حيث على مدى سبعة أيّام من الانتظار والترقّب لم يستطيعوا الظَفر إلاّ بذلك الجُؤذَرِ الغضّ الذي لا يسمن ولا يغني؛ ولا البقرة الوحشيّة استطاعت أن تحتفظ بجؤذرها الفتيّ، وترتع معه، وتشبعه من لبنها الدافئ، وحنانها الغامر...

خسر الإنسان، لدى نهاية الأمر، والحيوان أُلْمَعَا، أمام هذه الطبيعة المتجسّدة في غدران صُعائد... فكأنها غدرانُ شؤمٍ ونكَدٍ، لا غدرانُ خير ورغَدٍ.

والرياح لدى لبيد كأنها ريح. والأمطار لديه كأنها مطر؛ وكأنّ الطبيعة حين تضطرب وتنشز إنما تُبْدِي عن غضَبِها وعُبوسها: فتربدّ سماؤُها، ويتغازر ماؤُها، وتسيل وديانها، وتدوّي بالرعد فِجاجُها؛ فيتضافر ما هو فوق، مع ما هو تحت: ليجعلا مِمَّنْ، ومِمَّا، يعيش على هذه الأرض مُعَنّىً معذّباً، وخائفاً مترقّباً:

باتتْ وأسبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ = يَروي الخمائلَ، دائِماً تَسْجَامُها
يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ = في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها

الليل، الظلمات، الحَيا المتواتر، والقَطْرُ المُتهاتن: لا النجوم تُرَى فتُضيء بعض هذه الأصقاع من الأرض؛ ولا السماء تُقْلِعُ فيتاح للأحياء أن يَأْمَنُوا على أنفسهم غضبة هذه الطبيعة الهوجاء. فالبقرة لم تُصّبْ بفقدان جُؤْذُرِها فَقَطْ، ولكنها أصيبت، في ليلها ذلك البهيم، ببَلِيَّةٍ ممطرة باتت تُلِحُّ عليها بدِيمَتها السُّجُومِ.

وما عُفْرُ اللَّيالي، كالدَّآدِي! ليلةٌ دَأْدَاءُ كَفَرَ الغَمَامُ نُجومَ‍ها، وَغَطَّى السحابُ قمرَها وأَدَيمَها، وتناوحت رياحُها: فلم يعد أحدٌ يرى فيها شيئاً: إن مَدَّ يده انقطعتْ، وإن حرّك رجلَه تعثَّرَتْ. ليلُةٌ لا تَسْمَعُ فيها إلاّ تناوُح الرياح، وتصايُحَ الحيوانات، وتباكِيَ الأطفال...

وكلُّ هذه الأهوالِ التي هالَتْ الأرضَ في هذه الليلةِ الدَّأْدَاءِ إنما كان أسبابُها آتِيَةً من هذا الواكِفِ السُّجُوِم، وهذا المطر الهَتُونِ الذي يَفْتَأُ يَسْجُمُ ويدوم.

فعــــل الـمــــاء

وكأنَّ للماء عقدةً مع المعلّقاتيّ لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته يُنحِي باللوائم، من طرْف خفيّ، على جبروت الماء وما تسبّبه من مآسٍ وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلّطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عَهِدَها الشاعر حين غادرها... لكنّ السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحَمْها، فأمست أثراً بعد عين، ولم تُبْقِ منها السيولُ إلاّ آثاراً تُحْزِنُ أكثرَ مما تُفْرِح، وتشقي أكثر مما تُسْعِد...

إنّ الماء هنا أيضاً لا يكون مَظِنَّةً للسعادة والرَّخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مَظِّنةَ شقاءٍ وقساوة وجحيم.

بيد أنّ هذا الماء بأشكاله المختلفة: من غُدران، وأنهار، وأمطار، وسيول، وعيون، لا يلبث أن يثوب إلى جِبِلَّتِهِ الأولى التي يُسِّرَتْ له؛ وهو إخصاب الأرض وتخْضِيرُها، وإِنبات النباتات والتمكين لها في النَّماء. ويمْثُل ذلك خصوصاً في وصف الرسوم والديار، وما آلَ إليه أمرُها بعد أن تَحَمَّل عنها قطينُها:

رُزقَتْ مرابيعَ النُّجوم وصابَها = ودْقُ الرواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها
مِنْ كلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ = وَعِشيَّةٍ مُتَجاوبٍ إرزامُها
فَعَلاَ فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ = بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها
والعِينُ ساكنةٌ على أَطْلائِها = عوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بهامُها
وجلاَ السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها = زُبُرٌ تُجِدُّ مُتبونَها أَقْلاَمُها

إنّ هذه الطبيعة المتجسدة في هذه اللوحة الحيزية الخصيبة العجيبة، والمترسمة عبر هذه الأبيات الخمسة لَهِيَ ذاتُ طبيعة عذريّة، كريمة، سعيدة، سخيّة، غنيّة، معطاء. فهذه الديار، أو قل: هذه الآثار الباقية من الديار، ألحّت عليها الأمطار حتّى أصبحت سيولاً تجرفها، وصابَها ودْقُ الرواعد بما هي أمطار غزيرة حتى لم تَتَّرِكْ حجراً، ولا شجراً، ولا غُثاءً، إلاّ اجتثّتْه اجتثاثاً، واقتلعته اقتلاعاً؛ فتخدّد وَجْهُ الأرض، وارتسمت على سطحه ارتسامات كأَنَّها خطوط الكتابة حين تخطّ على صفحة القرطاس.

وماذا عن النهر؟ وماذا عن هذا الأَيْهَقَان المُخضِّر، المُمَرِع الناضِر؟ ثم ماذا عن هذه الظباء المتواثبة وِبَهامِها الرَّاتعة؟ ثمّ ماذا عن هذه العِينِ-هذه الأبقار الوحشّية الواسعات العيون- وهي ساكنة في هذا الوادِ المُمْرِعِ: على أطلائها؟ ثمّ ماذا عن هذه الطبيعة العذريّة الساحرة؟ ثمّ ماذا عن هذه الأمْواهِ الزرقاء، المتغازرة الجارية؟ وكيف سكنت الأبقار وهي تُرْضِعُ أطلاءها؟ وكيف مرحت الظباء وهي تتواثب مع بهامها؟

كأنّ عبقريّة الحياة، بكل ما فيها من نضارة وبهاء، ووداعة وسخاء، لم تتجَلَّ إلاّ في هذا الوادِي الخصيب، ولم تَمْثُلُ إلاّ في هذا الربيع الرطيب؟

الرعود تُدوّي فيتجاوب دَوِيُّها عبْر مَهاوِي الأودية، وخلال الفجاج السحيقة؛ فالأصوات تنحدر من نحو العلاء إلى نحو أعماق الفجاج التي تشبه المهاويَ اللاّمتناهِيَةَ لِعمقها، وَبُعْدِ قَعْرِها. وإنها لَعَشَايَاً عجيبةٌ تلك التي تُرزِمُ فِجَاجُها وَتِلاعُها، وَتَصْدَى جبالُها وسفوحُها. وإنها لعَشَايَا رطيبةٌ هذه التي يدجن سَحابُها، وتغدق سارِيتُها، فتَسْقِي الأرض، وتُسِيلُ الوديان، وتُحْيي الموات، وتُنبت النبات...

إن الماء يعود، هنا، إلى طبيعته الأولى. إنه يتّخذ له وظيفة طقوسيّة بحيث تتجاوب السماء مع الأرض، ويتضافر الأسفل والأعلى، وتتهيّأ كلّ الكائنات الحيّة لاستقبال هذا الماء، هذا المطر، هذا الحيا: بما هو له أهل من العناية والاحتفاء والاحتفال: والإنسان في كلّ ذلك يستوي مع النبات والحيوان. بل رُبَّتَمَا ألفينا هذا الدأْبَ يتجلَّى في سلوك الحيوانات أكثر ممّا يبدو في سلوك الإنسان الذي يعنيه على كلّ حال، كثيراً، أمرُ هذا المطر الذي بفضله يتغافص نبْتُ النبات، وتربُو فروعُ الأيقهانِ، وتُخْصِبُ الجَلْهَتَانِ، وتتناسل الأبقار فتتكاثر حتّى يكتظّ بها الوادي، وتتلافح الظباء فتتعدّد حتى تحتلف بها السفح: فيَيْسُرُ على الإنسان اصطيادُها إن شاء، ويتمتع بالنظر إليها إن شاء، وَيَعُبُّ، في ماء المطر إن شاء...

فالماء هنا هو الحياة نفسها.

فما كان للإنسان ليكون لولا هذا الماءُ الذي بفضله كان له كلُّ شيءٍ على الأرض ممّا يشتهي أكلَه أو شربَه، أو لمْسَه أو شَمَّه...

وإذن، فغدران صُعائد الشقيّة المُشقية مَعاً ليستْ إلاّ أمراً عارضاً، وشأناً عابِراً، لتلك البقرة الوحشية التي اصْطِيدَ طَلْؤُها فأمستْ ثَكْلَى: تبغم وتخور، وتضطرب من حولها وتدور، لعلّها أن تقع على جُؤْذُرِها المفقود، ولكن سُدىً!.. الأبقار هنا ساكنات على أطلائها تُرْضِعُها من ألبانها، بعد أن كانت اُرْتَعَتْ وَرَتَعَتْ، وشرِبَتْ فَرَوِيَتْ. وإنما يدلّ سكونُها على أمريْن اثنين:

أولهما: إن كثرة الكلأ جعلتْها تَشْبَعُ من الارتعاء من أوّل مَرْتَعٍ. فقد أغنتْها الأكلاءُ والأعلاف والأعشاب عن أن تركُضَ وراء العُشَيْبَاتِ الشاحبة الذابلة المتباعدة المواقِعِ: تقْضِمُها وَتخْضِمُها.

وآخرهما: إنّ سكون هذه العِينِ قد يعود إلى أنها كانت آمنةً على نفسها من الصيادين الذين هم أيضاَ، لِمَا كان أصابهم من خِصْبٍ، صابَهُمْ من جَدىً، أمْسَوْا في غنىً، ولو على هونٍ ما، عن اصطياد هذه الأبقار والتماسِها تحت كلّ صقع. أو لتكاثر هذه الأبقار، في ذلك الموسم الخصيب، أَمِنَتْ على نفسها، في هذا الوادي الذي يبدو أنه كان منقطعاً عن العمران، بعيداً عن السكّان. إنّ الحيز، هنا، بديع، لأنه مُمرع خصيب، وجميل، لأنه مُخْضَوْضِرٌ قشيب؛ ونضير، لأنه يقوم أساساً على غزارة الماء، الهاطل من السماء....

ويغيب الصيّادون، هنا، عن هذا المشهد العجيب، كما يغيب عنه الرِعاءُ: فأيْنَ سهام الصيّادين المترصّدة؟ وأين المرتادون ليجلُبوا على هذا الوادي بشائِهِمْ ونَعامهم فيغضّ بهم وبها، ويصطخب بأصواتهم وصيحاتهم؛ فيمسي هذا الحيز مضطرباً بالحركة، مصطِخباً بالأصوات...؟

*****

ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة

لم يَكُ عنترة بِدْعاً من المعلَّقاتييّن الآخرين في معلقته التي ورد فيها ذكر العيون، والسَّحّ، والتسكاب، والقرارة، وماء الدحرضين، والروضة الأنف، والغيث، والنبت، وحياض الديلم، كما ورد فيها ذكر الشراب-الذي هو سائل- مراراً...

غير أنّ الماء في معلّقة عنترة لا ينهض على وجوديّة عارمة، كما لاحظنا ذلك في معلّقة لبيد العجيبة، وخصوصاً حين يربط وجود غديرٍ صُعائد بحياة البقرة التي هي إن ظلّت بعيدةًعن الغدير أوشكت أن تهلك ظَمَأً، وتمعن يأساً من العثور على طَلْئِها، وإن هي هبطت إلى الغدير فإنها توشك أن تتعرَضَ لِخَطَر الموت، ولسِهام الصّ‍يادين المترصّدة، ولمطاردة الكلاب المتحرّشة، ولكلّ الطوائل والمحن... فما عسى كانت أن تصنع وقد بُليَتْ بأمريّن اثنين كلاهما مُرٌّ وضُرٌّ: الثكل، والوقوع تحت طلب الصيادين الجشعِين...

صورةُ الماء، وطقوسُ السوائل في معلّقة عنترة أبسط من ذلك كثيراً... إنها لا تحمل فلسفة الصراع من أجل البقاء، ولا المناضلة من أجل الحياة، إلاّ في صورة تنشأ، أصلاً، عن هَطْلِ المطر، وتَغازُرِ الماء، واندلاع الربيع، وفيض الخصب. وهي صورة الذباب التي كان أبو عثمان الجاحظ أُعْجِبَ بها إعجاباً شديداً، والتي يجسدها قوله في وصف الروضة الأُنفِ التي يجتابها الذباب، وتكثر من حولها الحشرات:

أو روضةً أُنفاً تَضَمَّنَ نبْتُها = غيثٌ قليلُ الدِمْنِ ليْس بمُعْلِمِ
جادَتْ عليها كُلُّ عين ثَرَّةٍ (31) = فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِرْهَمِ
فترى الذُّبابَ بها يُغنّي وحّدَه = هَزَجاً كفعل الشّارِب المترنِّمِ
غرِداً يَحُكُّ ذراعَه بذراعه = فِعْلَ المُكِبّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ (32).

إنها ملحمة الماء والخصب في هذه اللوحة الحيزيّة البديعةِ الجمالِ، والتي تتغافص فيها السمات اللفظيّة المائيّة، والسمات التي لها صلة بجمال الماء؛ فَيَقُصُّ بعضها بعْضِاًً، وذلك مثل: الروضة الأُنفُ، والنبْت، والغيث، والدمن، والربيع، والجود، والبكر الحرّة(السحابة الممطرة)، وقرارة الماء، والسَّحّ، والتسَّكاب، وجَرَيان الماء الذي لا يتصرّم سيلانُه...

وإذا كانت أمواهُ النهر وضفَّتيْه الخصيبتَيْن ذُكِرَتْ لدى لبيد في معرض الأمْن الذي استتبّ في ذلك الوادي حتى أمِنَتْ فيه الأبقارُ الوحشيّة على نفسها وعلى أطلائها من غائلة الصيادين؛ كما كانت أمنتْ معها الظباء وبهامُها؛ فإنّ الخصب هنا -الروضة الأنف وما كان له صلة بها- ذُكِرَ عَرَضاً من أجل تشبيه ثَغْرِ الحبيبة عبلة وُوضوح غروبها، وطِيبُ مُقَبَّلِها أوّلاً، ثم من أجل وصف ربوعها الدراسة، وديارها البالية: فذكر مع ذلك، أثناء ذلك، هذا الذباب السعيد الذي خلا بهذه الروضة الأنف، إذا حقّ للحيوان أن يسعد: وذلك بفضل ما وقع له من هذا الخصب الخصيب، وهذا الجو الرطيب، وهذا الكَلأ المتكاثر، وهذا النبت المتغافص، فصار من فرْط سعادته ورِضاه، غِرداً هِزجَاً، ومتغنيّاً مترنّماً، يحك الذراع بالذراع، كفعل المكبّ الأجذم حين يقدح بعودين اثنين.

أخيراً: وقد كان الجاحظ أعجب، بهذه الصورة الغجريّة العذريّة، إعجاباً شديداً فلاحظ أن عنترة لم يُسْبَقْ إليها في الشعر العربيّ، ولم يلاحقه فيها أحد من الشعراء مخافَة أن يقصروا عما بلغه هو فيها من الجودة وحسن التصوير؛ فزعم أنْ لوْ "أنَّ امرأَ القيس عَرَضَ في هذا المعنى لعنترة لافتضح" (33)، وأنّ الشعراء كانوا يقلّدون كلّ "تشبيه مصيب تامّ"(34) سبق إليه شاعر منهم" إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فإنه وصفه فأجاد صفته، فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم"(35).

ونحن قد كنّا رددنا على أبي عثمان، في غير هذا المقام، حيث إننا لا نشاطره الرأي، وأنّ الشعراء لم يتحاموا هذه الصورة بمقدار ما تجانَفوا عنها لقذارتها وَبَشَاعَتِها. فلو كانت هذه الصورة تتعلّق بثغِر امرأة جميلٍ، أو بشذى وردةٍ عبق، أو بقدِّ حسناءَ ممشوقٍ- كاتفاقهم في وصف المرأة بالكشح اللطيف (امرؤ القيس)، أو الأهضم (عنترة)، أو كشح جنوبيّ (عمرو بن كلثوم)... أو بعيني الحبيبة السوداويْن المشبّهتين غالباً بعيون ظباء وجرة (امرؤ القيس- لبيد)، وببقر وَحْشِ تُوضِحَ.... لكانت الشعراء تَسَابَقَتْ إليها، وتهافتَتْ عليها، وَكَلِفَتْ بها كلفاً شديداً؛ ولكانت، إذن، جَرْت في أشعارها، ولتكاثرت حتماً في آثارها... أمّا والأمر منصرف إلى الذباب الساقط، وهيئته المستبشعة، وقذارته المستسمجة، وإلى طنينه المزعج، وغنائه المضجر، ولسعاته المؤذية، وتكالبه على الناس لَيَعَضَّ جلودهم، ولِيَسَّاقَطَ على شرابهم فيتحاموه، وليحطّ على طعامهم فيعافوه... حتى إنه ورد في الأثر الشريف بأنّ "الذباب في النار" (36). وقد كانت العرب تكنوا الرجلَ الأبخر: "أبا ذباب" (37).

أفيعقل مع كلّ ما ذكرنا، أن تتهافت الشعراء على صورة الذباب القذرة المتوحّشة لتلهج بها بدل المناظر الجميلة، والمشاهد العجيبة، والأصوات الرنينة، والحركات الرشيقة التي تأتيها الحَشَراتُ الأخراة الجميلة والنافعة كالنحل والفراش...؟

وأياً كان الشأن، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ المطر هو الذي كان علّة في إخصاب حيز الروضة الأنف التي تكاثرت حشراتها، وتكالب ذبابها؛ فكانت تنتقّل من نبتة إلى نبتة، ومن عشبة إلى عشبة أخراة: التماساً للغذاء، وطلباً للحركة، ورغبة في التسافد...

والذي نلاحظ أنّ الماء كأنه أشدّ ارتباطاً بالحيوان منه بالإنسان، إلاّ ما كان من غدير دارة جلجل (الحيز المائي الذي صوّره امرؤ القيس الفتى المتأنِق الذي لم يبرح يطوّف في بلاد العرب، إلى أن انتهى به التطواف إلى الشام، ثم إلى بلاد الروم، ثم إلى قصر القيصر...) وإلاّ فإننا كنّا ألفينا لبيدا يتحدث عن البقر العِيَنِ وهنّ ساكناتٌ على أطلائِها، على جَلْهَتَي الوادي، دون ذكر للإنسان الذي كان هو الأَوْلَى بالإحساس بالخصب، والأجدر بالحرص على تَسجام الغَيث.

كما نلفي الشَّأْنَ نفسَه لدى عنترة في وصف الحديقة الغنّاء التي ربط كلّ ما فيها من نبات وزهور وأعشاب وأكلاء بهذا الذباب التي تحوم خِلالَها بدون توقّف ولا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ.

فالماء، إذن، في التمثّل البدائي أنه كان للحيوان والنبات، ثم الإنسان الذي يتسقّط مساقطه، ويرتدي مراعَيه حين يجودها فتربو وتنمو. وكأنّ الإنسان مجرّد شريك للحيوان الذي هو هنا ذو حقوق متساوية معه، فيه.

*****

رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة

لم تَخْلُ أيُّ معلقّةٍ من ذِكْرِ الماء، والتعامل مع المطر، وربطه بالحياة البدويّة الصحراوية بكلّ ما فيها من شَظِف العيش، وشقاوة السعْي، وشحّ الطبيعة وقساوتها. ولعلّ زهير بن أبي سلمى أن يأتي، بعد لبيد، وامرئ القيس، وعنترة، في المرتبة الرابعة من حيث الإيلاعُ بذكر الماء، ومن حيث القدرةُ على توظيفه في معلّقته، ومن حيث، خصوصاً، ربُطُه بالحياة والأحياء، وذلك حين يقول:

بها الْعِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً = وأطلاؤُها ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ (....)
وفيهنّ ملهَّىً لِلَّطِيفِ ومنظَرٌ = أنيقٌ لِعَيْنِ الناظِر المتَوسِّمِ

وقوله أيضاً:

* فهنّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ*
*فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقْاً جِمَامُهُ*

ولكننا نلاحظ أن زهيراً يتناصّ في هذه اللقطة الشعرية مع عنترة في الأبيات التي قدمناها منذ قليل، ومع لبيد قوله:

فعلا فروع الأيهقان وأطفلَتْ = بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها ونَعامُها( ...)
*والعِينُ ساكِنَةٌ على أَطْلائِها* = وربما مع قول امرئ القيس أيضاً:
تَرَى بَعَرَ الأرآم في عَرصاتِها = وقيعانِها: كأنه حبُّ فُلْفُلِ

فكلُّ هذه الصوِر يَتَقَارَبث ويتشابه، وَيَنْسُجُ بعْضُها على بعضها الآخر. فهناك: العِينُ، والأطلاء، والأرآم المتلاعبة، لدى زهير، حتّى كأنّ الصورتيْن في المعلّقتين هما صورة واحدة. وهناك منظر أنيق لعَيْن الناظر المتوسّم، لدى زهير أيضاً. بينما هناك لَعِبَ الربيعُ بربْعِها المتوسمّ، لدى عنترة. على حين أنّ امرأ القيس لم يذكر إلاّ بعر الأرآم في العرصات، فذكر السمة الحاضرة (البعر) الدالّة على السمة الغائبة (الأرآم)؛ فكلامه يجري مجرىً سيماءَوِياً قائِماً على اصطناع القرينة من باب: لا دُخانَ بلا نار. وعلى أنه يمكن أن يُقْرَأَ على أنّه سمة مُماثِليَّةٌ(إقونيّة)، إذا راعينا أنّ مثل هذا البَعَر الأسود المتساقط في العَرَصات لا يدل لدى العارفين، على إبل، ولا على شاة، ولا على بقر، ولا على ظباء. وإذ اختصَّتْ هذه السمةُ الحاضرة بالسمة الغائبة التي لا يمكن أن تخرج عن جنس الظباء البيض، فقد اغتدى هذا الكلامُ وارِداً مَوْرِدَ ما نطلق عليه نحن في مصطلحاتنا "المماثل" (أي"الإقونة"، بالمصطلح الأجنبيّ).

وصورة الحيوانات في معلّقة زهير، صورة تقوم على الماء والخصب:

*رَعَوْا ظِمْأَهُمْ
* بها العِينُ والأرآمُ يمشين خِلْفَةً = وأطلاؤُها ينهضْ من كلّ مَجْثَمِ

إذ لولا الغيث النازل، والمطر الهاطل؛ لما وقع هذا الرعْيُ لهذا الكلأ المُخْضَوْضِرِ، ولما تواجدت هذه الأبقار الوحشية، وهذه الظباء الجميلة: المُطْفِلَة. فولا الإمراعُ لَما حدث تلاقح هذه الحيوانات وتسافُدُها، ولما أطفلت، إذن، ما أَطْفَلَتْ. لكننا نلاحظ، أثناء ذلك، أنّ زهيراً يتفرّد، عن بعض المعلقّاتّيين الآخرين، بربطه الماء بالإنسان، وخصوصاً بمواقف الجمال، ومآقط الحُسْنِ والدّلال، أي بالنساء الجميلات السَّاحرات، فكأنّ الماء لم يكن، من منظوره، إلاّ من أجل الحسناوات؛ وإلاّ من أجل أن يسْعَدْنَ في رِياضه، وَيرْفُلْن في أزهاره، ويستمتعن بَسَيلانِهِ وهو يسيل، ويتشنّفن بخريره وهو يَخِرُّ:

*فهنّ ووادي الرسّ كاليد لِلْفَمِ
*وفيهنّ ملهىً للطيف ومنظرٌ
أنيق لعَيْن الناظر المتوسِّم
*فلمّا وردن الماء زُرْقاً جِمامُه


فلأوّل مرة نصادف في معلّقة تخصيصَ الماء للإنسان، صراحةً ، ووقْفَه عليه، وجعْلَه يستمتع به، ثم جَعْلَه، خصوصاً، يُحِسّ به:

*فلمّا وردن الماء زرقا جِمامُه = وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ

فما هنّ إلاّ أن يَردْنَ هذا الماء الصافِيَ الرقراق الذي تكتظّ به هذه البئر الثَّرَّةُ؛ وإذا هنّ يُبْهَرْنَ بما في هذا الماء الزّلال من جمال، وعذوبة، وصفاء، وشفافة: فيقرّرِن الإضراب عن المسير، ويُزمعن على الثواء من حوله: فيُطَنِبْنَ الخيام، ويُزَمِعْنَ المُقام.

فلم يكن تخييمُ أولاءٍ النساء، ومعهنّ بعولُهُنَّ وأطفالُهنّ وأقاربهنّ، هنا، إلاّ من أجل جمال هذا الماء؛ إذ كان هو عنصر الحياة الأوّل، وسرّها الأكبر. فنساء دارة جلجل لم يكدن يستمتعن بالماء إلاّ ساعةً من نهار، لَمَّا تعرّضن للمضايقة والفضيحة حين استحوذ امرؤ القيس، فيما تزعم الحكاية، على ملابسهن، ثمّ زايلْنَه، وربما إلى غير إياب. بينما الماء لدى لبيد وعنترة لا يكاد يتصّل شأنه إلاّ بالحيوانات. فكأن سعادة تلك الحيوانات من سعادة الإنسان، أو كأنّ تلك الصور الخصيبة، والمشاهد المُمْرِعَة، سمة حاضرة تجسّد سمة غائبة: هي حياة أولئك البدو الذين كانوا يرتادون الكلأ، ويتسقّطون مواقع الماء، ويتوخّون المآقط التي يكون فيها خصب وريٌّ، وعُشْب وَكَلأٌ. فتسمنُ أنعامُهم متى ارتعوها، وتَرْوَى إبِلُهم متى أوردوها؛ إذْْ كانت حياتُهم من حياتها، بل وجودهم من وجودها.

وأمّا عمرو بن كلثوم فإنه يرقى بالماء إلى أنه أساس الوجود، وسرّ العزّة، وقوام السلطة؛ وأنه وقومَه كانوا لا يبالون، حين يطلبون الماء ويلتمسون الخصب، أن يقتلوا من يُلفونه في سبيلهم من أجله:

ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماءً صفْواً = ويشرَبُ غيرُنا كدَراً وطِيناً

إنّ هذا البيت يواري وراءه عالَماً معقّداً من الصراع الضاري من أجل الماء، في الحياة الجاهليّة، حيث كثيراً ما كانوا يتقاتلون على الماء، أو حول الماء، أو من أجل الماء. ويعني ذلك أنّ القبائل الخاملة، كانت ربما التمست من الماء أملحه، ورضَيتْ من العيون بأكدرها: فكان الماء العذب الزلال وَقْفَاً على القبائل العزيزة، والبطون الماجدة التي تقوى على البطش والصراع.

*****

إنّ الماء حين يذكر في المعلقات، إنَّما يذكر:

1. إمّا غيثاً هاتِناً تُخْصِبُ عليه الأرضُ، وينمو به النبت:
2. وإمّا شآبيبَ غزيرةً تقع منها السيول، وتسيل بها الأودية:

* من السيل والأغثاء فلكهُ مغزَلِ(امرؤ القيس)،
* وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ(نفسه)،
* كأنّ السباع فيه غرْقَى عِشيَّةً(نفسه)،
* وجلا السيولُ عن الطُّلولِ (لبيد)؛

3. وإمّا غُدْراناً يسبح فيها العذارى، وتَرْوَى منها الحيوانات:

*ولاسيما يوم بدارة جلجل(امرؤ القيس)،

*شرِبَتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحَتْ = زوراءَ تنفُرُ عن حِيَاضِ الدَّيْلَمِ(عنترة)،
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ = سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أَيَّامُها(لبيد)؛

4. وإمّا عيوناً ثرثارة يغتسل فيها الناس، ويستقون منها ما يشربون:

*فمدافِعُ الرَّيَّانِ(لبيد)،

* فتركن كلّ حديقة كالدرهم (عنترة)،
* فلمّا وردن الماء زرقا جِمَامُهُ

وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتوَسِّمِ(زهير)؛

5. وإمّا أنهاراً صغيرة، يكثر الخصب على ضفافها:
* فتوسّط عرض السرى(لبيد)،
* وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها وَنَعَامُها(لبيد أيضاً)؛

6. وإمّا عُيوناً أو آباراً يشتدّ من حولها الصراع، فلا ينالها إلا الأعزّ، ولا يُبْعَدُ عنها إلاَّّ الأذلالّ:

* ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماء صفوا = ويشرب غيرُنا كَدراً وطينا
(عمرو بن كلثوم)

7. وإمّا بحراً طامِياً، تمخر فيه الفُلْكُ:

* يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بِها (طرفة)،
* وماءُ البحر نَمْلَؤُه سَفِينَا (عمرو بن كلثوم).





إحالات وتعليقات:

يراجع الدكتور أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، بيروت، 1987 .
الجاحظ، الحيوان، (مجازات متفرقة من هذا المصدر).
الثعالبي، فقه اللغة، وابن سيده، المخصصّ... الخ...
أنور أبو سليم، م. م. س.، ص 45 وما بعدها.
يراجع مثلاً: ياقوت الحموي، معجم البلدان، (عين).
ابن منظور، لسان العرب، حيا.
م. س.
الدكتور مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم، منشورات الجامعة الليبيّة، كليّة الآداب، ليبيا(بدون تاريخ)، ص126 وما بعدها. وانظر أيضاً، أنور أبا سليم، م. م. س.، ص48- 49.
ابن قتيبة، كتاب العرب، ص372، في رسائل البلغاء، وابن منظور، م. م. س.، (حنف)

9م- ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، مجازات متفرقة من هذا الكتاب.
ابن كثيرة، السيرة النبويّة، 1 . 62 . ابن الكلبي، م. م. س.، ص 6- 8.
م. س.
م. س.
ابن منظور، م. م. س، لمع.
م. س.
ديوان الأعشى، ص153. ويروى أيضاً: "أوشالها"، وهي اختيار ابن منظور، م. م. س.
"لمع الرجل بيديه: أشار بهما، وألمعت المرأة بسوارها وثوبها كذلك" (ابن منظور، م. م. س.، لمع). وانظر أيضاً شرح ديوان حماسة أبي تمّام، للمرزوقي، ص2. 631- 632، 743، والجاحظ، م. م. س.، 5. 521 .
السلع والعشر: ضرب من الشجر كان يوقد في مثل هذه المناسبة المعتقداتيّة.
الجاحظ، م. م. س، 4. 466. هذا، ويورد الجاحظ ثمانية أبيات لأميّة بن أبي الصّلت يتحدث فيها عن هذه الطقوس الاستمطارية: م. س.، 4. 466- 468.
ابن قتيبة، م. م. س.، ص. 361، وابن منظور، م. م. س.، حنف.
راجع أبا زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، 38- 39(بولاق)، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 64 -66، مثلاً.
ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4. 140. ونصّ الحديث: "وذكر أبو جعفر أحمد بن محمّد النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال".
كتبنا مقالة عن جماليّة الحيّز، ومنها قسم ينصرف إلى الحيز المائيّ، ضمن هذا الكتاب، فلترجع.
ابن قتيبة، م. م. س.
القرشيّ م. م. س.
م. م. س.
ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3. 71، والجاحظ، م. م. س، 1. 120- 123.
م. س، 5. 133- 134 .
ابن قتيبة، م. م. س.، 1. 63 .
الجاحظ، م. م. س.، 3- 127 و311 -312 .
لقد وقع اضطراب شديد في رواية أبيات عنترة وترتيبها، والحذف منها: بين الزوزنيّ، والقرشيّ، والجاحظ الذي روى الصدر من البيت الثاني في هذا الشاهد كما أثبتناه؛ وكأنّ الضمير في"طيها" يعود على"الروضة الأنف" لديه. بينما رواية الزوزني:

جادت عليه كُلُّ بِكْرٍ حُرّة = فتركن كلّ حديقة كالدرهم

ولا ينبغي للضمير لديه أن يعود على شيء مذكَّر في البيت السابق، كما أن الشرح الذي كتبه حول هذا البيت ليس جيّداً حيث الاضطرابُ فيه بَادٍ. بينما رواية القرشيّ أعلى وأدنى إلى منطق الترتيب لهذه الأبيات: لولا ما ورد فيها من هذا البيت الذي لا يخفَى التكلُّفُ في دَسِّهِ، وخصوصاً ما جاء في صدره:

وبحاجب كالنون زُيِّنَ وجْهُها = وبِنَاهِدٍ حَسَنٍ وكَشْحٍ أهْضَم

فعلينا أن نكون سُذَّجاً غَفَلَةً لكي نصدّق أنّ الشاعر الجاهليّ كان يُشَبِه شكْلَ الحاجِبِ الأَزَجِّ بشكل حرف النون(وهو على كل حال تشبيه سيئ، لأنّ شكل النون مقوّس أكثر بكثير من شكل الحاجب الذي يشبه شكله شكل الهلال مثلاً... فالحاجب الذي يشبه شكل النون يجب أن يشبه شكل حاجب الشيطان، كما يجب أن يتمثّله الخيال...)، فهنا يستحيل عنترة من حامل للرمح والسيف، إلى حامل للقلم والقرطاس، وهو أمر غيرممكن. وإذن فالبيت منحول مدسوس، والذي نحله ليس ذكيّاً ولا مثقفا بالثقافة التاريخية...
والذي يعنينا، هنا، أكثر هو أنّ معاد الضمير لدى القرشي، مطابق لما ورد في رواية الزوزنيّ، ولكنّ معاده واضح حيث يلتفت إلى رَبْعِ عبلة:
ولقد مررتُ بدار عَبْلَةَ بعدما = لَعِبَ الربيعُ بِرَبْعِها المتوسِّم
ويضاف إلى كلّ ذلك أن رواية الجاحظ "كلّ عين ثرّة"، ورواية الزوزني والقرشي: "كلّ بكر حرّة".
ونحن كنّا نؤثر أن تكون رواية صدر بيت عنترة على هذا النحو:
*جادَتْ عليها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ*
فلعلّ تلك الصياغة أدنى إلى أن تتلاءم مع ما سبقها من معان...

31. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 140- 141؛ والجاحظ، م. م. س.، 3. 312؛ والقرشيّ، م. م. س.، ص 95.
32.الجاحظ، م. س.، 3. 127 .
33.م. س.، 3. 311 .
34.م. س.، 3. 331- 312.
35. ابن منظور، م. م. س.، ذبب.
36.م. س.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى