حسام المقدم - أن أكون عُمر خَيرت.. قصة

درجات قليلة أصعدها، بعد انحرافي عن الشارع، وأُصبح في محطة القطار بمدينتي. المكان الذي أحببته دائما، وظلَّ يجتذبني، ويُكسبني الشَّغَف بالوجوه: وجوه عابرة ومُنتظرة وقلقة، حميمة ومُتعَبة ونافرة.

أقف أمام صف المقاعد الرخامية ذات المساند، مُستطلعا أفضل مكان لجلوسي. أبقى مُتحفِّزا لقطارٍ يُقبل وآخر يُغادر، للنظرات والنداءات، مصحوبة بالهرولة والتعثر والانكفاء. لسنوات حافظتُ على ذلك قدر ما أتاحت ظروفي وامتدَّ وقتي، ولم يَطُف بخيالي أنني سأنتقل لفترة من موقع الرائي على هامش المحطة، إلى موقع آخر..

**

في ذلك الضُّحى كنت في المحطة، أنتظر الامتلاء البشري التدريجي، بعد الفراغ الذي خَلَّفه رحيل القطار بدقَّات قلبه المُزلزِلة. مرَّت بي خواطر استبقيتُ بعضها، وطردتُ أخرى. عبَرتْ ذاكرتي وجوه وكلمات ومواقف. زهقتُ، وقمتُ نافضا كل الأفكار، ألقيت نظرة جائلة، مُتشوقة لأي شيء ينقلني من حال إلى حال. لم يُخيِّب عالم المحطة ظنِّي، رأيتُ على الرصيف المقابل، ما جعلني أصعد الكوبري المُعلَّق وأعبر للوصول إليه.

تقدّمتُ نحوه وأنا أُصفِّر نغمات حبيبة صاحبتني منذ بداية اليوم. وقفتُ أمام الآية التي تجلَّت لي، أتأمل خطوط النور والظل فوق المقعد الرخامي، والتي هي امتداد لظلال عوارض خشبية منتصبة في الخلف. قلتُ إنه بيانو تُهديه الشمس إليّ، في مِنحة خاصة ومجانية. بيانو تصطف مفاتيحه المستطيلة بطول المقعد، في مُتتالية متفردة من نور وظل. اقتربتُ أكثر، ونزلتُ مُرتكزا على ركبتيَّ، لتبدأ أصابعي السارحة العزف، بمصاحبة الصفير المُنغَّم من ناي الشفتين، ومعاونة كبيرة من عينين مُغمضتين تمنحان سطور نوتة موسيقية مكتوبة بحِبر سِرّي. استمر كونشيرتو البيانو في غياب كامل عمّا حولي، ولم أتخيل أن تكتمل الأوركسترا بذلك الشكل الذي فتحتُ عينيّ عليه: حلقة صغيرة فيها الضاحك والضاحكة والمُستغرِب والمُتأمِّل والهائمة.. والمُستغني، والمُعرِضة، وغير المعنيين بالحالة كلها. لم أترك نفسي للتشتت أكثر من ذلك، وواصلتُ عزفي برأس مُتمايل وعينين تتبادلان الانغلاق والانفتاح. ومع توالي الثواني والدقائق اتسعت الحلقة، لكن لسوء الحظ ضاع صفيري الشاحب في النفير المُدوّي للقطار القادم. تعلمتُ في المرة الأولى أن أُراعي توقيت العزف قصير العمر، لأن الشمس ستسحب معها ظلالها، بارتفاعها في السماء مع اقتراب الظهيرة، وبالتالي تتراجع تدريجيا أصابع الظل، حتى يتلاشى البيانو.

**

في مرة تالية بَكَّرتُ في الحضور، وظللتُ مُتابعا لقرص الشمس المتصاعد من ورائي، في انتظار امتداد خطوط الظل فوق المقعد المجاور. أحسستُ بشيء ما في أصابعي، شيء يجعلها تختلج في حركات متعاقبة سريعة. قمتُ على الفور، ونزلتُ جاثيا أمام البيانو، مستجيبا لرغبة العزف المُلِّحة. جرت أصابعي بخفَّة، رحتُ أُقلّد عازفي الأوركسترا الأجانب، في ارتجافات رؤوسهم ونقلات أيديهم العصبيّة، مُستدعيا هيئاتهم في معزوفات كبرى، كونشيرتوهات للبيانو أبدعها عظماء مثل “رحمانينوف” وآخرين. استقرَّ بي جُموحي عند “عُمر خَيرت”، بجلسته غير الانفعالية أمام البيانو، وملامح وجهه المُنتبهة بلا مُبالغة، والأهم أصابعه الجارية بسلاسة كأنه يلعب مع الموسيقى، يلعب حتى وهو يعزف مقطوعاته التعبيرية الفاتنة ذات النغمات الشارخة للقلب، مثل “ليلة القبض على فاطمة”، و”اللقاء الثاني”. لهذا الحد كنت مُقنعا، لدرجة أن يتقدم ولد جميل في حوالي الرابعة، ويقف بجواري في مرح، ويضرب بكفيه ضربات إيقاعية راقصة على الطبلة الرخامية الكبيرة. بعدها بدقائق قفزت طفلة على المقعد، ووقفت على رِجل واحدة، وخطت تلعب “الحَجلَة” في خانات النور. داست على مفاتيح البيانو، وراحت وجاءت مرتين وثلاثا، فابتسمتُ لفعلها الشقي، مثلما ابتسم وضحك آخرون. تمنيتُ أن يستمر الولد في إيقاعاته، وأن تواصل البنت حَجلَتها، لكني فوجئتُ بهما يتواجهان، ويشتبكان بالكلام والأيدي. تدخلتْ أمُّ الولد وفضَّت الخناقة الصغيرة، بهدوء باسم، ونظرة امتنان دافئة من عينين لامعتين. بقيتُ حينها في مواجهة البيانو، مُشوَّشا بالنظرة الأنثوية الليِّنة، إلى أن انفلتت أصابعي وتهادت بالعزف من جديد. انبعثت موسيقى طارت بي، وأوقفتني أمام النيل الهادئ المُغوِي، في مَغرِبيَّة حنون تتخلى عن نورها شيئا فشيئا، حتى تُسلِم نفسها لهمس الليل المُقبل. عَبَرتُ اللحظات بنشوة تسربتْ إلى كل خلاياي، وألقيتُ بنفسي في الماء، فاتحا ذراعيّ المتطاولتين لاحتضان النهر الحبيب.

**

حين اقترب مني الرجل، ذات مرة وأنا في هيئتي العازفة؛ شعرتُ بفرح يليق بذلك الكائن الذي لا ينتسب لوجوه الضيوف العابرين، بإقامته شبه الدائمة في المحطة، وصورته الثابتة أمامي منذ زمن، بملابسه الزيتية القديمة، على جسد ناحل، ووجه أسمر، غابت ملامحه خلف ذقن مطلوقة بعشوائية. بين أصابعه دائما سيجارة، وفي الغالب يغفل عنها ويتركها بدخانها الضائع، ورمادها المُمتد حتى لحظة انكساره وانتشاره فوق الكوتش الرمادي الحائل. رأيته يقترب، فأحسستُ بإمدادات تأتيني من أعماق ضلوعي. شَفَّت عيناي، وتجلت أطياف المحطة كلها، بمبانيها وقطاراتها ووجوهها، تُقبِل عن يمين وشِمال هذا الإنسان، ومن ورائه أيضا. طاف من حولي دورة كاملة، ثم نصف دورة أخرى، مضى بعدها غائبا في الأجساد والوجوه. هل التقت عيناه بوجهي؟ لن تكون الإجابة سهلة على سؤال مثل هذا، لأنني في مرات تالية، وعندما تخلَّى عن توجسه ووقف مُتابعا لي، لم أتمكن من تحديد اتجاه عينيه العجيبتين، من خلال رأسه الذي يميل دائما إلى أسفل.. فهل كان ينظر إلى قدميه أم إلى قدميّ أم إلى أصابعي العازفة أم إلى لا شيء؟! يقف بجواري، بلا كلمة وبلا حركة زائدة، ودون أن يحاول التقدم ناحيتي خطوة جديدة. اكتفى الرجل باقترابه الصامت الحميم، وأنا تعودتُ حضوره؛ لدرجة استحالة بدء طقوس البيانو إلا بعد الاطمئنان إلى وجوده في الجوار، أو على الأقل في فضاء المحطة المنظور.

**

إلى متى سأبقى على شَغفي بالمحطة ودنياها؟

استبدَّ بي هذا السؤال، الذي لم أسأله لنفسي من قبل، رغم كل الأشياء الثقيلة التي صاحبتني هناك: من نظرات وكلمات وصَمَتني بالفراغ والجنون، من بقايا أكياس وعلب كُشري ومُخلَّفات أقوم بإزاحتها من على المقعد تمهيدا لإعداده للعزف، من احتكاك غليظ وفَظّ قام به بعض المُستظرفين على سبيل الهِزار! هذا كله لم يدفعني إلى السؤال الفارق: “إلى متى سأبقى؟” إلا بعد الذي حدث من أحد مُوظَّفي المحطة، عندما اقترب مني بوجه مُحايد وقال: إنّ أي تجمع، ولو كان خفيفا، يُعطِّل حركة الرُّكَاب، ثُمّ إنّ المحطة في “الأول والآخِر” هي للمسافرين فقط.

تباعدت زياراتي، وحين كانت أصابعي تشتاق للهرولة والجري فوق مفاتيح البيانو؛ أرتبكُ ولا أدري ماذا أفعل، أبقى مُتسمِّرا في مكاني حتى تختفي الظلال، وينكشف مقعد الرخام عاريا تحت الشمس. بمرور الوقت، عُدتُ مُكتفيا بموقع الرائي القديم.. تُلاحِق عيناي القطارات المشحونة بالأنفاس والأجساد، وتقرأ الوجوه، نفس الوجوه: عابرة ومنتظرة وقلقة، حميمة ومُتعَبة ونافرة.







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى