أبووردة السعدني - الجزيري مؤرخ الحج المصري (1)

منذ أن أمر السلطان الظاهر بيبرس البندقداري بإرسال كسوة الكعبة المشرفة ، وخروج المحمل الشريف في قافلة عام 675/1276 ، وحكام مصر يعنون عناية خاصة بهذا المظهر الديني ، فكان خروج الكسوة - أو المحمل ، أو المحمل الشريف - يوما مهما من أيام القاهرة ، وعيدا عظيما من أعيادها ، وقلما يرجع باحث إلى مصدر تاريخي إلا يجد مؤلفه يعنى بأخبار خروج موكب الحج والمحمل الشريف ، ذاكرا : اسم أميره ، ومشاهير الحجاج في عصره ، ويعنى - أيضا - بالحديث عن عودته ، وكيفية أداء زوار بيت الله الحرام مناسكهم ، متناولا - إلى جانب ذلك - الوضع الاقتصادي في الأراضي المقدسة ، من رخاء أو غلاء ، والوضع الأمني ، خاصة موقف العربان من الحجاج في الذهاب والإياب .

... استمر هذا الاهتمام وتلك العناية في العصر العثماني ، إذ أولى سلاطين الدولة العثمانية أمر الحج عناية فائقة ، فكانت تتحرك - في كل عام - أربع قوافل حج رئيسة من كافة أنحاء الدولة ، في مواعيد محددة ، ووفق نظام رتيب ، رفقة قوة عسكرية ، كانت تلك القوافل - من حيث الأهمية العددية - : قافلة الحج الشامي ، قافلة الحج المصري ، قافلة الحج العراقي ، وأخيرا قافلة الحج اليمني ...
.... اتبع مؤرخو مصر في العصر العثماني سنة أسلافهم مؤرخي العصر المملوكي ، فاعتنوا بأخبار الحج عناية كافية ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى : كانت إمرة الحج من أرفع المناصب ، لا يتولاها إلا الأمير القوي صاحب النفوذ والمال والجاه ، يصدر بتعيينه فرمان من السلطان العثماني مباشرة ، ثم بعد ذلك ، وفي القرن الثاني عشر الهجري ( الثامن عشر الميلادي ) غدا ذلك المنصب يعادل منصب شيخ البلد ، ، وأحيانا كانا يجمعان في شخص واحد .
نشأة الجزيري
***********
نشأ الشيخ عبدالقادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي في بيت دين وعلم ، فقد كان والده - الشيخ محمد - علي قدر كبير من العلم والمعرفة ، أهله لأن يعمل لسنوات عدة " كاتبا " في ديوان " إمارة الحج " في عهد السلطان الغوري ، فلما دخلت مصر في حوزة العثمانيين - سنة 923 /1517 - لم يجد العثمانيون من يعتمدون عليه في ترتيب ديوان الحج غير الشيخ محمد الجزيري - والد المؤرخ - ،فقام بالعمل الذي أوكل اليه خير قيام ، وظل يرافق قافلة الحج - من مصر إلى الحجاز - ذهابا وإيابا ، إلى أن وافاه أجله سنة 944/1537 ، بعد أن انقطع عن السفر مدة عامين ....
أما المؤرخ : فقد ولد في القاهرة عام 911/1506 ، وحين شب عن الطوق تتلمذ على أعلام الشيوخ في عصره ، وكلهم من طبقة السيوطي أو من الطبقة التي تلته ، سافر للحج - لأول مرة - وهو في سن الخامسة عشرة من عمره عام 926 / 1519 ، ثم تكررت رحلاته إلى الأراضي المقدسة في حياة والده - أثنا طلبه للعلم - ، إلى أن عين سنة 935/1528 " كاتبا على جمال العليق " في ديوان الحج ، ثم عين مساعدا لوالده سنة 940/1533 ، وبعد أن لحق أبوه بالرفيق الأعلى سنة 944 /1537 أجبر على أن يحل مكانه " كاتبا " في ديوان الحج لتحليه بالأمانة والصدق والدقة في العمل ، وقد توفي سنة ٩٧٧/١٥٩٦ ....
... كان للوظيفة التي شغلها المؤرخ أثر كبير في أن يحوز شهرة واسعة بين العديد من كبار رجالات عصره ، وأن يرتبط - وإياهم - بوشائج قوية من الصداقة والمودة ، فقد كان صديقا للشريف أبي نمي بن بركات أمير مكة المكرمة ، وعلى اتصال دائم ببشاوات مصر وأمراء الحج الذين عمل معهم ، أما أصدقاؤه من الشيوخ والعلماء والأعيان ، فقد امتدت صداقاته وعلاقاته لتشمل الأقطار الاسلامية كلها ....
تاريخه ومنهجه
************
... كان لشهرة الشيخ الجزيري وشغفه بطلب العلم ، وعمله في ديوان إمرة الحج ، وتكرار تردده على الأراضي الحجازية ، أثر كبير في اكتسابه معرفة كاملة بكل ما يخص ديوان الحج من دقائق وأسرار ، ودراية تامة بطريق الحج من مصر إلى مكة ، ومعرفة أحوال العربان وطبائعهم ، وكيفية تعامل السلطات المصرية معهم ، الأمر الذي دفع بعض أحبابه ليطلبوا منه أن يؤلف - في هذا الموضوع - تاريخا ، فلما وجد أنه لم يسبق إلى مثل هذا العمل ، شرع في التأليف وسماه " درر الفرايد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة " ....
...وهو تاريخ جامع شامل لأخبار الحج منذ فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة إلى آخر سنة 961/1554 ، ولذا فهو كتاب فريد في بابه ، جديد في موضوعه ، يكشف عن خلفية علمية موسوعية لهذا المؤرخ المصري الذي بذل جهدا مشكورا في سبيل تأليفه - رغم مشاغله الكثيرة - ....
... اتبع الجزيري المنهج العلمي في التأريخ ، فقسم موضوعاته إلى أبواب ، وقسم الأبواب إلى فصول ، فجاء الكتاب في سبعة أبواب ، اشتملت على واحد وثلاثين فصلا ، ويرى أن الباب الخامس ، وعنوانه : ( في ذكر المنازل والمناهل محلا بمحل وما يلحق بذلك ، وفيه ثمانية فصول ) ، أهم موضوعات تاريخه ، إذ قال عنه في غير موضع : " هو لب الكتاب وشجع طايره المستطاب " ، ولعل ذلك راجع إلى أنه أراد وصف رحلة الحج من القاهرة إلى بلاد الحجاز ، وأداء المناسك ، ثم وصف رحلة العودة من لحظة بدئها حتى الوصول إلى القاهرة ، وأسهب في هذا الموضوع وأفاض ، بيد أنه إسهاب غير ممل ولا مخل ، إذ تميز بغزارة المعلومات التي تدل على دقة الملاحظة ، متبعا في عرضه طريقة الرحالة الذين لا يتركون جليلا ولا حقيرا مما يشاهدون - أثناء رحلاتهم - إلا سجلوه ودونوه ، لذا يشعر قاريء هذا الباب أنه أمام فيض من المعلومات والملاحظات والتعليقات ، لا يستطيع أن يفاضل بين معلومة وأخرى ، ولا بين ملاحظة وتعليق ، بل لابد أن يقرأ - مستمتعا - كل ما خطه قلم الجزيري ، ولعل عنوان الكتاب يدل على مضمون هذا الباب ، الذي شغل عددا من الأوراق يزيد بكثير عن ربع أوراق المخطوط المحفوظ في مكتبة الجامع الأزهر بخط المؤلف نفسه ....
... اتسم منهج الشيخ الجزيري - في عرض موضوعات تاريخه - بسمات عديدة ، نذكر منها :
أولا : عني بالحديث عن قوافل حج الأقطار الاسلامية الأخرى ، فذكر أمير كل قافلة ، وأشهر حجاج ذلك القطر ، وأهم أخباره ، الأمر الذي يشير إلى أن كتابه لم يقتصر على الدائرة المصرية المحلية ، وإنما تعدى ذلك إلى الدائرة الإسلامية العالمية ، فأورد أخبارا - تجل عن الحصر - عن بلاد الشام ، والعراق ، واليمن ، وغزة ، والهند ، وبلاد التكرور وغير ذلك ...
ثانيا : كان يورد طرفا عن حياة أمير الحج المصري في أول كل سنة ، ثم يعقب بذكر رأيه فيه ، ولعل آراءه في أمراء حج عصره تعد ذات قيمة تاريخية عالية ، لاعتمادها على المعايشة والمعاشرة ، اذ أورد حقائق تاريخية قد لا نقرؤها في كتاب غيره ....
ثالثا : اهتم اهتماما كبيرا بالحديث عن العربان المنتشرين على طريق الحج ، لأنهم كانوا الشر المستطير الذي هدد طريق الحج بين مصر وبلاد الحجاز ،بسبب غاراتهم المتكررة على قافلة الحج في الذهاب والعودة ، وقد أوضح الجزيري أن مصر كانت تعطي رواتب نقدية وعينية لعدد من تلك القبائل دفعا لشرهم عن زوار بيت الله الحرام ، بينما شارك البعض الآخر - منها في تشهيل وحراسة قافلة الحج نظير أجر خصص لهم من ديوان إمارة الحج ....
رابعا : من سمات منهجه : عنايته بذكر السيول ، والغرائب ، والعجائب ، التي كانت تحدث في بلاد الحرمين الشريفين ، كما أورد أسعار السلع الضرورية أثناء موسم الحج ، وما كان يتعرض له الحجيج من غلاء أوشدة ، ويرى الجزيري - بناء على الممارسة الطويلة - أن أهم المشقات - التي كان يعانيها حجاج بيت الله الحرام - تتمثل في أمورخمسة :
العطش الشديد الذي قد يودي بحياة عدد كبير من الحجاج ، ونفوق أعداد لا تحصى من الجمال والدواب المرافقة لقافلة الحج ...
عدم إنبات الحشائش - في أرض الحجاز -لرعي الجمال والدواب ...
عدم وجود الأغنام أوقلتها في موسم الحج ...
ندرة وجود السمن ...
وإطالة المكوث في مكة نظرا للازدحام الشديد الذي يؤدي - أحيانا - إلى مخاطر قد لاتحمد عقباها ....
خامسا : تاريخ الجزيري زاخر بالمقارنات التاريخية التي تدل على خلفية علمية واسعة ، كما شرح مناسك الحج على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ، وعني - كثيرا - بالنواحي السياسية ، وبطبيعة الحال كان بحر القلزم ( الأحمر ) واحدا من طرق أحمال الحج التي ترسلها مصر الى بلاد الحجاز ، فتطرق في تاريخه إلى محاولات البرتغاليين - الدائبة - لاستغلال مياه هذا البحر في القرصنة البحرية المسلحة ضد السفن الإسلامية ..!!...
سادسا : ومن سمات منهج الجزيري - أخيرا - استعانته بالشعر في مواطن لا تحصى من تاريخه ، وتلك سنة مؤرخي مصر في العصرين المملوكي والعثماني ، اذ نجدهم يستعينون بأشعار القدماء والمعاصرين ، تدليلا على وفرة محصولهم منه ، بل كان معظمهم يحاول نظم الشعر ، وقلما نجد مؤرخا لم يكن شاعرا ، فمن جملة نظم الجزيري في مدحه للأمير سنان بن يوسف الحمزاوي ، أمير الحج المصري سنة 930/1524 ، وكان معجبا به أيما اعجاب ، لعدله ، وكريم خلقه ، وشجاعته في دفع خطر العربان ، وسعيه للتغلب على مشكلة ندرة مياه الشرب :
أمير إذا اهتزت غصون رماحه
غدت من دما الأعداء تزهر بالورد
أمير له في الجود باع ، وفي الثنا
ذراع ، وفي الحالين يوصف بالفرد
ومن جملة هجائه أحد أمراء الحج الذين عمل معهم ، من قصيدة طويلة :
إن ترد وصفه فخذه اختصارا
هو نذل ، والطبع لا يتغير
جمع البخل والوقاحة واللؤم
وأوصافه القبيحة أكثر
********
يتبع
*********************
إيجاز من كتاب :
المؤرخون في مصر في العصر العثماني إلى ظهور الجبرتي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى