ألف ليلة و ليلة إيهاب الملاح - كيف استلهم نجيب محفوظ "ألف ليلة وليلة"؟

- 1 -
من بين أهم النصوص التراثية التي استلهمها نجيب محفوظ في بناء وتشييد أعمال روائية معاصرة؛ نص «ألف ليلة وليلة» في عمله الفذ «ليالي ألف ليلة» (1982) وقد سبق وأن أفردنا في تحليل هذه الرواية والتعريف بها مقالًا كاملًا في (مرفأ قراءة) بعنوان "لؤلؤة محفوظ السحرية".
في هذه المرة سنحاول الكشف عن آليات استلهام محفوظ لنص "الليالي" والاشتغال عليها في إنشاء نصه المعاصر؛ ومن حسن حظنا وحظ الأدب والنقد أن تفاصيل مهمة حول هذه المسألة قد كشفها محفوظ بنفسه في حوار مهم جدًّا وقيم ونادر أجراه معه الناقد والأكاديمي المعروف د.حسين حمودة؛ رئيس تحرير مجلة (فصول) النقدية العريقة.
وقد نُشر هذا الحوار المهم في الجزء الثالث من أعداد مجلة (فصول) التي كانت مخصصة بكاملها عن (ألف ليلة وليلة) في العام 1994.
يكتسب هذا الحوار أهميته الخاصة مع أديب نوبل الكبير لأنه حوار مع الروائي العربي الأهم الذي يشيد رواية كاملة (واحدة على الأقل) على نص الليالي تشييدا مباشرا، فاستلهم وأحيا وخلق من جديد شخصياتها وأجواءها وعناصرها الفنية، فضلا على أنه تمثل عالم «ألف ليلة وليلة» على مستوياتٍ متنوعة في روايات أخرى عدة له.
- 2 -
تقع «ألف ليلة وليلة» -كإرث عربي وإنساني- في موقع اعتزاز واعتناء حقيقي لدى نجيب محفوظ، وقد صرح في أكثر من مناسبة أن حكايات «ألف ليلة وليلة» بثرائها القصصي غير المسبوق‏،‏ تعتبر بلا شك من أهم القصص في تاريخ الأدب الإنساني كله‏،‏ وإذا كان تأثيرها قد امتد إلى الآداب الأوروبية وغيرها، فإن تأثيرها عندنا كان أشد وأقوى لأنها نبعت من هذه التربة "العربية"، وكانت متشربة بتراثنا العربي، فعبرت عنه كأفضل ما يكون التعبير‏.
لكنه، في الوقت ذاته، كان متأسفا وحزينا على الوضعية التي تصور بها "الليالي" في واقعنا الحديث والمعاصر؛ وما نالها من دعوات بالحرق واتهامات مخزية، ففي الوقت الذي تمثل فيه أعظم مجموعة قصص في تراث الإنسانية كانت تحاط في أدبنا وثقافتنا بشبهات سيئة السمعة للأسف، يقول محفوظ "لم نكن نقرأها في الصغر إلا مبتسرة ومراقبة لما فيها من مشاهد جريئة إلى أن قرأناها بعد ذلك كاملة‏،‏ ومن مميزاتها أنها عبَّرت عن أحلام الإنسان كلها‏،‏ لكن البعض كان يعطي لنفسه حق مصادرة جانب من هذه الأحلام، مما كان يؤثر بلاشك على شموليتها‏ وصدقها وتدفقها".
في الحوار المشار إليه يقول محفوظ: لم أعرف القيمة الحقيقية لـ «ألف ليلة وليلة» إلا بعد أن قرأت عنها الدراسات التي قدمها بعض كتابنا ودارسينا. فهمت من هذه الدراسات أن «ألف ليلة» عمل عظيم، وأن الغرب مهتم بها اهتمامًا كبيرًا. من هنا، أعدت قراءتها مرة أخرى، وكنت مع هذه القراءة الثانية قد دخلت في طور النضج. لقد اكتشفت في هذه القراءة الثانية الناضجة أن «ألف ليلة» قد استطاعت أن تعبر عن عالم بأكمله؛ بعقليته وبعقائده وبخيالاته وأحلامه، لقد اكتشفتُ أنها عمل فريد بحق تقف في مصاف الأعمال الإنسانية الكبيرة الخالدة.
- 3 -
وانطلاقًا من هذه القراءة الناضجة، وهذا الاكتشاف النصي الجديد، يرى محفوظ أن «ألف ليلة وليلة»، كانت وما زالت وستظل، تثير ما تثيره فينا من إحساس بالمتعة والفن والخيال، وأنها ما زالت تُستلهم في الإبداع الفني والأدبي الإنساني في فنون لغوية أو غير لغوية..
إنها تتمتع بقدرة خارقة على مقاومة الاندثار والفناء، يقول: "أتصور أن هذا مرتبط بصدق (الليالي) الكامل في التعبير عن زمانها؛ لأنها استطاعت أن تعكس الرؤية الحضارية على مستوى الحياة اليومية البسيطة أو على مستوى الحياة الفكرية".
وهكذا يرى محفوظ أن «ألف ليلة وليلة» قد أحاطت بالحضارة العربية الإسلامية، بل الحضارات الشرقية كلها، وعبرت عنها مجتمعة، جامعة ومتضمنة للأعراف والتقاليد الاجتماعية، والمسكوت عنه في طبقات المجتمع العربي في العصر الوسيط.. "لقد صيغت "ألف ليلة" في الحقيقة فيما يشبه دائرة معارف نفسية اجتماعية ثقافية متكاملة، وسعَت إلى أن تحتوي الحقائق الإنسانية بكل ما فيها من مستويات، وبكل ما فيها من جوانب حقيقية، خفية أو معلنة".
بناء على تمثل محفوظ السابق لماهية "ألف ليلة"، وقيمتها وثرائها المذهل فنيًّا وإنسانيًّا، رأى أن حكايات «ألف ليلة وليلة» يمكن أن تكون مادة صالحة تمامًا لكي يصوغ منها عملًا روائيًا متداخلًا ومتكاملًا بقدر الإمكان؛ أي بقدر التداخل والتكامل نفسيهما اللذين نجدهما في حكايات «ألف ليلة وليلة»، من فكرة الحكاية الإطار وتناسل الحكايات وتداخلها (فكرة الحكاية داخل الحكاية داخل الحكاية، وتنوع الشخوص وتعددها، وحضور الجان والحيوان، وتماهي الزمان والمكان.. إلخ)
وهكذا أعاد محفوظ قراءة الليالي مرة أخرى، واستخرج منها مجموعة من التيمات المختلفة التي وجدها عندئذ تدعوه للكتابة عنها. يقول "طبعا ليس كل عمل يغريك بالكتابة عنه، ولا كل تجربة تغريك بالكتابة عنها. لكني، على أية حال، وجدت في ألف ليلة وليلة أشياء ودوافع تدعوني للكتابة عنها، ومن ثم كانت روايتي «ليالي ألف ليلة»".
وليس معنى هذا أن تناول محفوظ لحواديت بنيت على نسق كتاب «ألف ليلة وليلة» أنها كانت احتذاء وتقليدا ومحاكاة حرفية؛ أبدًا بل كانت لكنها كلها من تأليفه، وحملت هموم وأسئلة الواقع المعاصر رغم أجوائها الفانتازية المتعمدة.
- 4 -
إن محفوظ يأخذنا بقدراته الفنية المذهلة في هذه الرواية إلى عالم خيالي غريب وعجيب ومدهش، لكنه ليس عالم «ألف ليلة وليلة» القديم الذي خلب ألباب أجيال متتالية في جميع أنحاء العالم منذ أن تمت ترجمته لأول مرة في القرن التاسع عشر على يد الفرنسي الشهير أنطوان جالان، فهو يعمد إلى تصوير عالم «الحكايات» الشيق الذي خلقته شهرزاد في حكاياتها؛ باعتباره واقعًا معيشًا في حياتنا الآن.
إنه يكتب عن شهريار وشهرزاد ودنيا زاد وسندباد ومعروف الإسكافي ونور الدين وعلاء الدين أبو الشامات.. كل هذه الشخصيات وردت في «ألف ليلة وليلة» التراثية الأصلية، لكن محفوظ أعاد نسجها وخلقها من جديد في نصه، بل وأضاف عليها شخصيات جديدة وظفها وفق رؤيته الكلية للنص.
إن عوالم الدسائس والمؤامرات السياسية، ونزعات الشهوة والغيرة ليست حكرًا على عصر شهريار وحده، وإذا كان الحب الطاهر قائمًا بين نور الدين ودنيا زاد شقيقة شهرزاد، فإنه محاط بالانتهازية الممقوتة التي تسيطر على جمصة البلطي وأمثاله الذين يتنصلون على الفور من عائلة صديقه "صنعان" حين يتهم بقتل الحاكم.
ولكن أين ومتى تقع أحداث رواية محفوظ إن لم تكن في عصر الخلافة البغدادية؟ ذلك هو السؤال الذي اختار محفوظ ألا يجيب عنه، فبعدم تحديد أي زمان أو مكان لأحداث روايته يعطي محفوظ لـ«ليالي ألف ليلة» دلالة إنسانية عامة تتخطى الزمان والمكان.
فمنذ البداية يستبعد محفوظ من ذهن القارئ أن تلك رواية خيالية بحتة، فعندما يحلم "صنعان" أثناء نومه بأن الجني قمقام قد عضه أثناء نومه، فإنه يصحو في اليوم التالي ليجد علامة أسنان الجني مغروسة في ذراعه، بل إن الألم من العضة يدفعه إلى "العطار" طالباً العلاج.
وهكذا يتحول عالم الجن الخيالي في حكايات ألف ليلة وليلة» إلى عالم واقعي له قانونه ومنطقه في «ليالي ألف ليلة» الرواية، فنجد أفراد الجن يلهون بحياة أبطال الرواية كيفما شاءوا، وهم الذين يحرضون صنعان التاجر الصالح على قتل حاكم المدينة، بل يدفعونه إلى ذلك دفعًا.
- 5 -
ختاما يمكن القول إن رواية محفوظ «ليالي ألف ليلة» قد عبرت تمامًا عن اهتماماته الكبرى وهمومه الفكرية والوجودية الأساسية، في مزيجٍ يمكن أن نسميه "الواقعية السياسية" و"التأملات الميتافيزيقية" أو "التأملات الصوفية" كما أطلق عليها هو بذاته في حواره لـ(فصول).
لقد وجد نجيب محفوظ في النص السردي الأروع «ألف ليلة وليلة» مساحة كبيرة ومادة حية مكنته من التعبير عن هذا المزيج متباعد الأطراف.
*عمان
30 أبريل 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى