خالد جهاد - القبح والجمال.. المرايا والقلوب

القبح والجمال مفهومٌ عميق يتأثر فيه الظاهر بالباطن، وتتحول فيه الكثير من الأفكار أو الآراء أو الموجات بمرور الوقت إلى أمرٍ واقع يتداوله الناس ولا يستطيعون العودة بعده خطوةً إلى الوراء، فيأثر بهم ويتضافر مع ما سبقه من أحداث ليغير وجه المجتمع بشكلٍ لا يخطر ببالنا، وليس الهدف من هذه السلسلة توجيه أي شخص للتفكير بشكل ٍ ما بل الهدف هو عرض الوقائع والتفكير والحكم سيكون للقارىء وحده في نهاية السلسلة عندما يربط كل ما قرأه ببعضه ليرى الصورة بمجملها، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة والإنسان الواعي هو من يبحث عن الفكرة الصادقة ليجد معنىً لهذه الحياة بعيداً عن أي انحياز، لا ليحظى بإعجاب الآخرين بل ليشعر بالإتساق مع ذاته، وجولتنا اليوم بين مرايانا وقلوبنا عبر عقود وصولاً إلى الوقت الحاضر..

فذات مرة اطلعني أحد الأصدقاء المقربين والموهوبين في تصميم الأزياء على دراسةٍ يجريها عن تطورها عبر العصور في العديد من البلدان وعلاقتها بسلوك المجتمعات، وتصفحت حينها الكثير من النماذج التي يعود بعضها إلى أكثر من خمسمائة عامٍ مضت والتي ذكرتني بمراحل تطور الأزياء التراثية والزينة في مختلف بلادنا وارتباطها بالكثير من التقاليد والعادات الإجتماعية والطقوس الدينية والثقافية، كما رأيت الكثير من النماذج لأزياءٍ كردية، شركسية، أرمنية، أمازيغية، إفريقية وأذهلني الفرق الشاسع بين الماضي والحاضر والتدرج الذي طمس الهوية لكثيرٍ من الثقافات والأعراق بإسم التمدن وعلاقته بسلوك المجتمعات والأفراد، فدراسة المجتمع وعلومه تستطيع أن تختصر علينا الكثير مما نبحث عنه بشكل ٍ خاطىء في أماكن أخرى..

وفي الكثير من الفلسفات الشرقية يتم الربط بين نوع الطعام والملبس من جهة وسلوك الشخص الذي يستهلكه وطريقة تفكيره من جهة أخرى، وهو ما أصبح (موضةً) رائجة لدى العديد من الفئات والتي تحمل في مضمونها جانباً كبيراً من الصواب، لكننا لا نستطيع أن نأخذ على سبيل المثال من منظومة فكرية تعتمد على نمط طبيعي من الحياة لنجمعه مع نمط استهلاكي معولم نعيشه جميعاً وأنا جزء منه أيضاً، ولا شك أن الإعلام والفن والسينما لعبوا دوراً كبيراً في تغيير أفكار وسلوك المجتمع، خاصةً أن الكثير من الموجات كان مستورداً وليس ابن واقعنا، فعلى صعيد الشكل الذي تسرب إلى المضمون في زمننا الحالي عشنا مراحل متصاعدة بشكلٍ ثابت منذ الأربعينات من القرن الماضي ركزنا فيها كمجتمعات على مظهر الآخرين وكان لكل فترة نماذجها التي حفرت في الأذهان وأصبح مفهوم فارس الأحلام وفتاة الأحلام راسخاً في الأذهان، فكان هناك الكثير من الأسماء التي يتم تداولها كنموذجٍ للرجولة في السينما مثل رشدي أباظة وعمر الشريف ومحمود ياسين، كما حل نموذج الرجل القوي أو الفتوة أو الأبضاي والذي جسده لعقود فريد شوقي أو ناجي جبر من سوريا، يقابلها أسماءٌ كثيرة لجميلات السينما مثل فاتن حمامة، شادية، سعاد حسني، نادية لطفي، هند رستم.. فنلمح هذه النماذج من الناحية الشكلية والموضوعية وفي إطارها الإجتماعي ونتأمل سلوكها ومظهرها حيث يصفه الكثيرون بالعصر الذهبي في مختلف الجوانب، ويشدد الكثيرون على نقطةٍ بالغة الأهمية حيث أن معظم الشخصيات كانت تعرف موقعها وما ينبغي عليها أن تفعله، حيث كان الرجل رجلاً في ذاك الوقت وكانت السيدة تشعر بأنوثتها حتى عندما بدأت بالخروج للتعليم والعمل، فحافظ كل منهم على دوره وكان الرجل اجتماعياً يقوم بدوره في الإنفاق وحماية بيته وأهله وكرامتهم، وكان يتمتع بمظهرٍ مهندم وراقي يعتمد على البدلات الرسمية حتى وإن كان صاحب دخلٍ بسيط، وهو ما كان أيضاً ملحوظاً لدى السيدات اللواتي كن لا زلن يرتدين الفساتين أو ما يعرف بالتنانير التي تحافظ على أناقتها ومظهرها الأنثوي..

وبدأ مظهر الناس ووجه العالم يتغير فتداخلت الأحداث السياسية بالإجتماعية والإقتصادية في فترة الستينات التي اتسمت بالغليان العالمي والتبدل الثقافي والفورة الجنسية حتى في أوروبا التي لم تكن في ذلك الوقت تتعامل مع المرأة بأريحية كما اليوم والتي امتدت آثارها ومظاهرها إلى بلادنا أيضاً، وكان لا بد من الإستعانة بوجوهٍ فنية بارزة لإحداث (خضة) تفتح المجال (للتغيير الكبير)، فكانت لأسماءٍ بارزة مثل الممثلة الأمريكية (مارلين مونرو) والمغنية الإيطالية الفرنسية (داليدا) والتي ولدت في مصر دور كبير في الترويج لمظهر جديد للمرأة ومفهوم مختلف في نظرتها إلى جسدها، كما رأينا ذلك مع الممثلة الفرنسية (بريجيت باردو) والمغنيتين الأمريكيتين (مادونا) و (شير) واللواتي كانت تحرق أغلفة المجلات التي كانت تتصدرها صورهما كرمزٍ للمجون والخلاعة والإساءة للأديان في المجتمعات المحافظة داخل الولايات المتحدة وحتى في الولايات الكبرى حيث كان ما قدموه صادماً ومستهجناً عندما نقارنه بالتوقيت الذي ظهرت فيه، إلى جانب الكثير من الأسماء التي سنعود إليها لاحقاً..

وأخذت المفاهيم الإجتماعية بعداً مختلفاً في عقد السبعينات والذي تزامن مع تغيرٍ جديد للمظهر العام للسيدات والذي طال الرجال أيضاً، فساهم بشكلٍ أو بآخر في تغير شخصيتهم بشكلٍ تدريجي، والذي كان محل استهجان من الجيل الذي سبقه والذي كان يراه آنذاك أقل رجولة، وفي تلك الفترة بدأت المرأة تصبح شريكاً أساسياً في المنزل والعمل وهو ما ترسخ عبر الأجيال والعقود التي تلتها، وتبعتها موجات جديدة وأنماط مختلفة من الأفكار والمعتقدات والإختراعات والأزياء أيضاً، والتي قلصت الفروقات بين الرجل والمرأة أكثر فأكثر..

وشهدت بعدها ظهور واقعٍ اجتماعي جديد بدأ يطفو على السطح منذ التسعينات تقريباً، والذي يمكننا اعتباره بمثابة المرحلة الإنتقالية على مختلف المستويات بين العالم ما قبل العولمة وما بعدها، فالعولمة غيرت حتى حدودنا الشخصية والفكرية وليس حدود الدول فقط، فشهدت بداية تبدل المفاهيم الوطنية وشكلاً فنياً مختلفاً بأفكاره ونماذجه وأيقوناته ونوع الإهتمام بهم، وكان ظهور شخص بحجم المغني العالمي مايكل جاكسون وبمضمون القيم التي يحملها وحده قادراً على تغيير الكثير من الأشخاص حول العالم، وتبديل مفاهيم كالتطور والتحضر والنجاح والنجومية والإنتماء عدا عن أدائه الغنائي الذي جعل الكثير من الشباب يراه كقدوةٍ له، ومن هذا الجيل بدأت تتوالد أجيال أقل في كل شيء على صعيد الفكر والذوق والأداء والمضمون وللأسف حتى على صعيد الخلق والإلتزام، وبدأ الشاب يرى في أمثال مايكل جاكسون ولاعبي الكرة قدوته بدلاً من المبدعين والمثقفين والمفكرين وحتى بدلاً عن أي إنسان شريف منتج ومستقيم قد يكون أباه أو عمه أو جده، وبدأ ينفصل عن محيطه كما بدأ يهتم بمظهره بشكل مبالغ فيه يتفوق فيه البعض على الكثير من السيدات، وأفرز جيلاً مدللاً سطحياً لا يقدر على فهم قيمة المسؤولية والحياة الزوجية، وأصبح الكثير منهم يعتمد بشكل شبه كلي أو كلي على زوجته كما أصبح البعض يتهرب من المسؤولية في الإنفاق على أبنائه وليس لديه التزام بأي قضية..

هنا التدرج في تغيير الهوية والمفاهيم والأدوار والذي بدأ منذ قرون تحت مسميات عديدة، بدأ بالفكر الذي تقبلها ولم يلحظ العوامل المصاحبة له وتأثيرها عليه، مروراً بالمظهر الذي عزز هذا الفكر وكان منذ البداية مرتبطاً به بعدما كان يبدو للبعض شيئاً سطحياً وبعيداً، وأكده وثبت أقدامه ممارسة الناس له بعد رفضه، فأصبح مفهوم القدوة مهزوزاً أو شبه غائب في كل المجالات لتظهر أنماط من الفن الهابط وتتصدر المشهد رغم مصاحبته للكذب والتضليل والعنف والقتل والجريمة والتعري لإرتباطه بشعبية جارفة وأموال طائلة ومظهر نافر غير لائق، وليصبح الكثير من النماذج الفاسدة والمريضة والمغيبة هي مقياس النجاح والنجومية وحلم الشباب الذي يشبههم وقدوتهم كمعيارٍ للرجولة أو الأنوثة، لأن النجومية أصبحت مقترنة بكاميرا في هاتف أي شخص وأصبحت ملتصقة بالفضيحة والتفاهة لا بالموهبة والثقافة في ترسيخ للتدني والقبح وانحسار لقيم الجمال..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى