د. حاتم الجوهري - صدور ديواني الشعري الأول: "الطازجون مهما حدث"

الحمد لله، فى الأربعين من العمر، وبعد ما يناهز العشرين عاما على "اختيار" قديم، بالوقوف على مسافة فاصلة والابتعاد عن المشهد "السائد" للشعر فى التسعينيات، احتجاجا على محاولة "فرض" أنماط قيمية وأبنية أسلوبية بعينها على تجربة "قصيدة النثر" المصرية، لم يكسر سيطرتها إلا الندرة (ولا تتفق من وجهة نظرى مع السياق التاريخى والظرف الخاص ببلادنا).. يطل أخيرا وليس آخرا الشاعر-الذى هو الجذر فى مقاربتى للعالم والصمود، والأصل فى مشروعى الإنسانى والفكرى- من الشرفة، ويأتى الوقت الذى أقدم فيه بعضا من تجربتى الشعرية. ربما يعرف القليلون فقط -من الأصدقاء المقربين- أننى لم أتوقف عن كتابة الشعر لحظة، وأنه حتى الحالات الشعرية التى كانت تأتى فى وقت نزال أو انشغال أو مواعدة.. تجلس باسمة وكامنة فى الصدر والحقول تحصى قطرات المطر وتنتظر موسمها. ورغم أنه صدر لى حتى الآن ثلاثة كتب متنوعة (خرافة التقدمية فى الأدب الإسرائيلى- المصريون بين التكيف والثورة- ترجمة ديون وليم بليك: أغنيات البراءة والتجربة)؛ فاز أحدهم بجائزة النقد الأدبى لمؤسسة ساويرس ووصل آخر إلى القائمة القصيرة لجائزة المركز القومى للترجمة، إلا أن فرحة صدور ديوانى الشعرى الأول -عمود الخيمة- هى فرحة لا تناظرها سعادة أو غيمة ضاحكة أخرى، هى فرحة قبيلة الشعراء المحاربين بعبور أحدهم "ممر الجمرات" المتقد وميلاده ثانية من جديد، هى فرحة أن يمد مشروعك قدمه إلى النور وتفرد كتابك للعالم.
فقد خرجت أخيرا من المطابع النسخ الأولى من ديوانى الشعرى الذى قدمته للهيئة المصرية العامة للكتاب بعد الثورة -فرحا- فى عام 2012، والذى كتبت قصائده قبل الثورة فى الفترة من 1995 وحتى 2010. معظم القصائد كتبت فى التسعينيات (فى وجه وقمر آخرين لها وفى طبقة من طبقاتها المتعددة تحت السطح)، وطُعّمَتْ ببعض ما كتبته فى العقد الأول من القرن الجديد وبما يتماس مع ضفيرة الديوان وروحه. يقع الديوان فى 128 صفحة من القطع الصغير، ويضم خمس مجموعات شعرية حملت عناوينها: (الطازجون مهما حدث - شعب كلوح من الصاج الخام - بقايا حملات الغرباء - ثوار - زهرة زرقاء)، بإجمالي عدد ثلاثين قصيدة للديوان ككل.
تراوحت قصائد الديوان فى الحجم ما بين القصائد الطويلة فى المعظم، وبعض القصائد القصيرة المعدودة، وربما قصيدتان فقط حملتا مقاربة أشبه بالملحميات المطولة. وكان للقلب وحلم الآخر-الأنثى مساحة حاضرة، وجاءت فى المجموعة الأخيرة التى ختمت الديوان (زهرة زرقاء).
تضم المجموعة الأولى القصائد: مزين أنا بالرماح- للذين أصبحوا بلا ذاكرة - الطازجون مهما حدث - بلاد تعرف رجالها - الثالث فى مخاض أمهات العالم.
تضم المجموعة الثانية القصائد: أطفال إقليم التفاح - شعب كلوح من الصاج الخام - الموتى وحدهم يقرؤونك السلام - أن تحب كونك ما أنت عليه – المنتظرون.
تضم المجموعة الثالثة القصائد: من أجل من ! يا بقايا حملات الغرباء - حدود وأسوار حلمك.
تضم المجموعة الرابعة القصائد : ثوار- إنها لحظة عابرة – إشارات - لحينٍ .. قطعة زينة فى أثاث البحر - إذا ولدت كفرع شجرة - أنشودة لأواخر الأشياء - أفق الاختيار - الربيع القرمزى - آخر طلق فى روحك.
المجموعة الخامسة تضم القصائد: مفتتح للحكاية، وكأنك أنت لست أنت - من لديهم ذكريات دافئة - زهرة زرقاء - لن تدخلينى مرة جديدة - كان يمكن - كلما أحن إليك - برد البرارى - الخلاص جامع - منتهى للحكاية، أبيض مستمر.
فى قصيدتى، وإن لم أقف منضبطا على مسطرة الخليل بن احمد الفراهيدى؛ إلا أننى مسكون بالإيقاع الداخلى والموسيقى الخفية والتناغم، وإن كتبت "قصيدة النثر" فهى قصيدة نثرى الخاصة؛ حين أحب: أغنى وأحزن مع النجوم، وحينما أشعر بالعزلة والغربة: اكتب عن ذاتى وفلسفة الوجود، وحين أثور: أقف فى ميدان يعلو صوتى مع الجماهير. أكتب القصيدة بحالاتها الإنسانية المتعددة والمتجاورة، ولا أصدِّر قالبا جاهزا. لم تألف روحى القبح والهزيمة وتستسلم متشيأة متشظية، تجاوزت كتابة الفضح وجلد الذات، والتمرد عندى ليس كسرا للتابو وطرقا من الخارج. لم أقع فى فخ كتابة الغرفة والاتكاء على الجسد. تفاصيلى الخاصة واليومية لم تقاطع المجاز، والصورة عندى تصب فى اتجاه دراما شعرية كلية تمسك بقلب الحالة. أمسكت بذاتى فى ظروف غير مواتية ولم أنسحق. أحب الاختيارات الإنسانية الجديدة التى تخلق لغتها الخاصة ومنطقها وتنحت لصاحبها جزيرة فى خضم الوجود، وقد أنتظر مدخل القصيدة ومفتاح عالمها طويلا لأنه يمثل بالنسبة لى التوليفة الخاصة (شكلا ومضمونا) لعتبة الإبداع والإضافة الحقيقية للمنجز البشرى، دون هذا المدخل (لحظة تنوير القصيدة) قد يظل الشعر مجرد قدرة لغوية وتعبيرية جمالية متدفقة لا تحوطها ضفاف. وكان فى الشعر كل الحوائط والمدد والعوالم الواسعة التى سكنتها فى ظروف عامة غير مواتية، ومكنتنى من الحياة وكفتنى من أسباب الوجود وفاضت على الجوانب.
وختاما؛ هذه مجموعة مقتطفات مختارة، ومقتطعة من بعض قصائد الديوان، علّها تجد من الصدى عند الأصدقاء وتأخذهم نحو سماوات منيرة وقبس أرحب، وتحمل لهم من البحر رياح المد ومن الأفق حجر الصمود وعبق الفينق، ودائما المحبة التى تفيض ولا تنقطع كمطر موسمى مورق.. وسيسعدنى انتظار قراءات الأصدقاء الأعزاء للديوان كاملا؛ بحثا عن المزيد والمزيد من الأفق والنوافذ المتجاورة فى عالم متعدد، ومتنوع الرؤى والاختيارات تتفتح فيه كل قبائل الزهور وأنسابها، فى عالم الأصل الجميل فيه الذى ينتصر دائما هو: الحرية والتعدد والتجاور والتنوع والرحابة..
- من قصيدة : "من أجل من؟ يا بقايا حملات الغرباء"
هل وشمتكم المعابد فى طيبة بمفتاح الحياة ؟
اصطفتكم بحديث نيل
ترسمون فوق ضفتيه شباكا
تفتحون والسماء تجيب !
هل مررتكم البلاد مثلهم
عبر كل العصور
وعجنت منكم خميرة في لوحها المحفوظ !
ألبستكم مرة وشاحا
ومرة فوق عربة حربية
ومرة ومرات
رؤوسكم جواهر كريمة
تزين أسوار السجون
- من قصيدة : "مزين أنا بالرماح"
نعم
مزين أنا بالرماح
أجول والحراب تشق صدري نافذة
كشامة نبوة قلدها سجل التاريخ وحده
لمحارب مجهول
دلت عليه بصمات الدم فى معاركه
لى إرادة أن أرفع يدى النازفتين : يا رب
فإذا بهما عمودان من الصلب ومخمل الأزهار
ضاربة جذورهما فى الجبال
تصارعهما رياح العالم بكتفها للوراء ولا يهتزان.
أن تصدق نفسك ذلك اختيار
ومن لا يعرف البشارة حين تأتيه
مجبرا سيصبح مجرد حجر باهت أو حائط هش
فى بناية لغرباء يطمسون روحه
- من قصيدة : "للذين أصبحوا بلا ذاكرة"
هل للذكرى وجع
هل تَربطُ صاحبها
فى قاطرة سريعة عليه أن يلاحق جريها
فإما أثبت رجولته أو قطعت هى أنفاسه ،
إنه فى ذكرى الذين قُطع دابرهم
وتربعَ الشيطان على دفتر أيامهم
يهيأ لهم الهزيمة كأنها ممحاة كبيرة
تمد يدها لهم ليرقصون فوق الدفتر
كلما زادوا رقصة
كلما أزالت ممحاة الشيطان سطرا جديدا
من عزيزِ ذكرياتهم
- من قصيدة : "الطازجون مهما حدث"
يتفردون بخياشيم أسماك تنقى الهواء
تردع الخبيث بلطف
وتستقبل الصالح
لا يضيرهم حال هواء العاصمة الكبرى
مهما عطبت أحلام شاغليه
ما نجح قهر فى امتطاء ظهورهم قط
أو جَمَّلَ وجوهَهم نفوذُ قواد ،
يواجهون العالم
بطباع برية الفطرة حرة
متخلين عن كل مُكيفات
تخفيف وطأ الواقع فوق أمانيهم
- من قصيدة : "بلاد تعرف رجالها"
وإذا مررت على ديار من ادعوا أنهم رفاق
مُرْ بنسائم الغفران ،
وافرد بضرباتك انحناءات الظلام
التي سكنت اعوجاج صدورهم
ولو لمرة أخيرة ،
وإن بقيت رغم ذلك ..
عيونهم معلقة بخيط كبندول الساعة
ترقب أرفف حانوت الدنيا ،
دع السماء تقرر مصيرهم
إنك لو جعلت لنجوم السماء سرجا ولجاما
وامتطيتها عائدا حيث مفترق الطرق
وكانت قلوبهم مشغولة بوحي ٍ آخر
ما أبصروها
- من قصيدة : أطفال إقليم التفاح"
أطفال "إقليم التفاح"
لا تنبت فوق رؤوسهم أعلام
أو تظهر في عيونهم
جوازات سفر ،
إنما هم
أياد تلعب
وفم يأكل ،
يعلمون فقط
أن الله خلق الأرض دون حدود
ولم يصنع حاجزا خفيا ،
يمنع يد طفل
أن تمتد عبر سلك مكهرب
لتنام في حضن أمه
- من قصيدة : "شعب كلوح من الصاج الخام"
شعب
كلوح من "الصاج" الخام
لونه "عامل طلاء"
بأكثر من سبعة آلاف لون
سقط بعدها
من جدول أعمال الملائكة ،
لكن فلتكن واثقا
أنهم سوف يعلنون يوما
فى إعلانات روايات الجيب "مصرية جداً"
عن بطل يفخر "بالفول والطعمية"
سوف يخرج من شارع جانبى
ويكحت كل ألوان لوح الصاج
بضربة واحدة
- من قصيدة : "الموتي وحدهم يقرؤونك السلام"
يا مصر
الموتى وحدهم يقرؤونك السلام
واحد بالزائد
واحد بالناقص
لا فرق
هى مجرد أسماء
سوف تبقى نصبا تذكاريا ،
نزوره كل عام
مثل طائرة نفاثة
تترك خطا ابيض فى السماء
يلقى إليه المناضلون بحبالهم
ويتعلقون طمعا فى النجاة
- من قصيدة : "أن تحب كونك ما أنت عليه"
حزين …… بما يقنعك
أنت تصنع ثقبا فى جسدك
تفرغ منه الهواء والشيطان
تغمس قلبك فى البحر
وتضغط عليه "كإسفنجه"
يطرد ما به .. ويرجع بالماء ،
تأكيد الميلاد لروح قديمة
معلقة بقوس قزح
تبصم أن لكل من ألوانه
ما يستحق
- من قصيدة حدود وأسوار حلمك
تروح نظراتهم إلى القبطان
وهو العالم بحالهم
يشفق على الرجال العظام
النبلاء الذين يصافحون الموت
باكرا كل يوم ، قبل أن يسلموا على زوجاتهم
ويتركون لهن فى سلة.. قلبا حديدا و قبلة حنونا ،
للمرة الأولى لا يملك القبطان مخطوطا يقرأه عليهم
لا يعرف إلى أين يطلق الدفة ! يعجز ،
كيف يفك خارطة أقيمت المتاريس
على جهاتها الأربع ؟
وفى منتصفها جزيرة .. أشجارها
مقوسة كالمشانق أعدت للرجال !
- من قصيدة: آخر طلق فى روحك"
قاوم
ولو كنت وحدك .. أنت
حائط الصد الأخير فى هذا العالم
ولو أتوك بالبراهين
وقدسوا الدجالين ووهبوهم منبرا
لو كنت أنت فى كفة
وهم جميعا محشورون فى أخرى
فسيمتد إليك من الأرض
الجذور والأغصان والحمائم والبارود
وترجح ...
- من قصيدة "ثوار"
ثوار
لا يتكلمون مطلقا
يستمعون إلى صوت العالم
لم يولدوا بأسماء كالآخرين
حتى يعجز الموت
عن العثور عليهم ..،
إنما هم يملكون
موتا خاصا بهم
يخرجونه
من خلف ظهورهم باسمين !
فى الوقت نفسه
الذى فيه .. تقرع الطبول
فيأتى احتفالهم بالنصر
مودعين
- من قصيدة: "إشارات"
تذكر
دائما
آخر نقطة وصلت إليها من قبل ،
الحدود
الأبراج
الحجارة
النهر / والسدود ،
ولا تنس
أن تمسها بعبير دمائك واثقا ،
حتى إذا تعثرت
وأضل الرعد والعواصف جميع القوافل ،
يكون لديك
دليل للرجوع
- من قصيدة: "أنشودة لأواخر الأشياء"
أهيم شجنا بأواخر الأشياء
ربما لأنني أنا نفسي
اعد شيئا أخيرا
من مجمل أشياء قديمة
على وشك الانتهاء ،
محتم أن من على وشك الانقراض
يهيم عادة
بما هو مثله
وحيد وشرس وعنيد
- من قصيدة: "من لديهم ذكريات دافئة"
وتبقى أنت والبحر
تحوط آثار أقدامها
بالشباك
وتشيد عندها مذبحا
فوق قطعة من الصخر المشمس
تلقى بقطرة من دمك
تحلم
بأن يتصاعد بخارها
إلى السماء ... ينادى عليها
يمنحها ما لم تمنح
- من قصيدة : "لن تدخلينى مرة أخرى"
لعينيها
صفاء رسائل البدايات
و "لهالة" وجهها حين تنظر
قوة ملائكة
يدفعون بالأخشاب
إلى مراجل قلبها ،
لإصرار روحها
فى التتبع ..
صدق المجاهدين الأوائل
متى يحاربون
- من قصيدة "كلما أحن إليك"
كلما أحن إليكِ
سأتخيل ما كنا سنصير إليه
أتخيل ..
ضوء الممر
وصوت العصافير ،
وأطفالا تجرى من حولك
يا لروعة السماء
أنى أراهم يشبهونكِ أكثر منى !
يسألون
وعيونهم مفتوحة إلى أقصاها :
أماه ...
أين ذهب أبونا ؟
- من قصيدة "كان يمكن"
كان بإمكانكِ
أن تكونى "ست الحسن"
أميرة لأحلامى التى حفظتها
طيلة حروب وحكايات ،
كان يمكن
للورود البيضاء
أن تتحلق حول شعركِ
وأنت تتشبثين خلفى على الحصان ،
كان يمكننى ..
تخيل شرفة البيت
وأنت تطلين منها
تلوحين فرحا حين أعود
وشغفا
بينما تودعين ،
كان يمكن


1653050875050.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى