مسعد بدر - التراكُم الثقافي في سيرة الزير سالم

[هذه المقالة هي الفصل الرابع من كتابي: "الزير سالم – سيرة شعبية من بادية سيناء]
يتحدث الدارسون عن (انفتاح النص السردي الثقافي) في السيَر الشعبية العربية عامة، ويؤكدون على "تفاعلها النصي مع أنواع سردية متنوعة، ومع حمولات معرفية تنتمي إلى أنساق معرفية متنوعة"(1)، ويشيرون إلى "أن هذا الانفتاح كان بارزًا في السيرة الشعبية أكثر من سواها من الأنواع السردية"(2) الأخرى. وأن "ما يميز السيرة الشعبية في هذا الانفتاح هو التراكم الثقافي"(3). وهذه الظاهرة – وَفق شوقي عبد الحكيم - "اُتّفق على تسميتها بالتراكُم الملحمي أو السِّيَري، من أحداث لاحقة تتعلق بنمط في الجسد الأصلي للسيرة أو الملحمة تضيفها وتضفيها العصور المتوالية"(4). وفي موضع آخر يزيد الدارس نفسه التراكمَ إيضاحًا بأنه ما "يضفيه كل مجتمع وكل كيان من بلداننا العربية على الأنماط المستقلة في السير الشعبية"(5).
فمن أمثلة هذا التراكم، التي انفردت بها سيرة الزير كما تُروى في بادية سيناء، بعض نبوءات (حسّان تُبّع) التي تتنبأ ببعض الاختراعات الحديثة، وبالحرب في مناطق ملاصقة جغرافيًا لبيئة الرواية، منها مدينة (غزّة) ومنطقة (يِبْنا) الفلسطينيتان، بل تنص الرواية على ذكر سيناء نفسها إذ تذكر (السواحل والرمال) [ص42](*)، وهي بيئة جغرافية تمتد من (غزة) شرقًا مرورًا برفح المصرية وتتصل حتى سهل الطينة جنوب غرب سيناء، شاملةً كل الأماكن التي جمعتُ منها هذه السيرة.
واتصالًا بهذه الجزئية، نلاحظ أن هذه البيئة غنية بالأمطار وتكثر فيها الآبار؛ فهي بيئة، اقتصاديًا، زراعية أكثر منها رعوية؛ فليس غريبًا أن تضع روايتهم على لسان (حسّان) أن المناشط الزراعية أفضل من الرعي، وأسرع منه إلى تحقيق الغنى [ص42]، ما يمثّل صورة أخرى من صور التراكم الثقافي. ولو أني حصلتُ على رواية أخرى من أهل جبال سيناء، حيث الرعي أكثر من الزراعة؛ لربما تغيّرت لديهم بعض النبوءات.
ولا أريد أن أنتهي من هذه التأثيرات الثقافية حتى أشير إلى موقف صغير جدًا كاشف جدًا، ذلك أنني نشرتُ جزءًا من هذه السيرة على مواقع التواصل، وكان مما نشرت تعبيرٌ موروث ورَدَ في السيرة على هيئة تركيب مسجوع يُضرب مثلًا ولا يختلف في نصه أحد، يقول هذا التعبير على لسان (الزير) مخاطبًا الأسد: "من قتل حمير العرب؛ يزوزي بالقِرَب". والقرَب جمع (القِربة) التي يُحمل فيها الماء. [ص47] وكانت الأحداث التي سبقت هذا التعبير واتفق عليها كل الرواة أن (الزير) ورد الماء يحمل (جِرارًا) على ظهر حماره؛ فتعجّب المتابعون: كيف يذكر الراوي الجرار والمثل يقول إنها قِرَب! وتساءلوا: ما هذا التناقض؟ والحقيقة أن لا تناقض؛ فبيئة الرواة انقرضت منها القِرب وحلت محلها الجرار، لكن التعبير الموروث احتفظ بالقِرب؛ بفضل فن السجع.
على أن التراكم يتجاوز المناشط الاقتصادية والثقافية؛ ليشمل الأساطير التي يؤمن الرواة بواقعيتها وصدقها. إنهم يروون أن (الزير) مسح بيده على عينيّ أخته فارتدّ إليها بصرها [ص76]. ويتحدثون، ضمن أساطير أصل السلالات، عن أصل سلالة (النَّوَر)، وأنهم هم أعداء (الزير) الذين أذلّهم [ص89]. يحكون الموقفين باعتقاد ثابت في حقيقتهما، لا بوصفهما خرافتين من الخرافات الشائعة بوفرة في بيئة هذه الرواية.
نعم، إن الحكايات الخرافية هنا وفيرة حقًّا، وإن أكثرها شيوعًا في بادية سيناء هي خرافات الغيلان(6)؛ فتغدو إضافة الرواة لإحداها أمرًا منطقيًّا متوقعًا، وقد أضافوا بالفعل إلى جسد السيرة حكاية (الزير) في وادي الغيلان بحثًا عن ماء الحياة [ص50]، وهي حكاية تبدو مستقلة، لكنها تسرّبت، كأنها سائل الحياة، في عروق السيرة التي تشرّبتها، واكتملت بها، في مشهد نريد إيضاحه.
إن السير الشعبية – عامة - تمثّل حكايات كبرى، وهذه بدورها تأتلف من حكايات صغرى، أو من وحدات حكائية "مترابطة بشكل متتابع، تكوّن بمجموعها متون تلك السير"(7). وتُعرّف الوحدة الحكائية بأنها "سلسلة الأفعال المتعاقبة التي يقوم بها بطل السيرة لإشباع حاجة ما، مادية كانت أو معنوية، وتستدعي رحيلًا عن المكان الذي يقيم فيه، والدخول إلى مكان خصومه، والدخول معهم في مواجهة، وعودته ظافرًا إلى مكانه، وقد أشبع الحاجة التي دفعته للرحيل"(8). وكل هذه السمات البنائية تنطبق تمامًا على حكاية (الزير) في وادي الغيلان؛ لتمثّل تراكمًا خرافيًّا ووحدة حكائية في الآن نفسه.
كما يُلحّ الدارسون على أن "السيرة الشعبية ليست تراكمًا حكائيًّا لا تجمعه سوى قصة إطار... فالتراكم الحكائي في السيرة مؤسس ومنتظم، وكل وحدة حكائية مهما صغرت نجدها لبنة أساسية في بناء النص، ولها ارتباطات بسابقاتها وبلواحقها. والقفز على أي منها لا يمكنه إلا أن يُحدث ثغرة أو فجوة في بنية النص"(9)؛ وتطبيقًا لهذا الاقتباس، نلاحظ أن ذهاب (الزير) إلى وادي الغيلان ارتبط بأحداث سابقة هي ما رأته (الجليلة) في المنام بشأن (الزير) ومحاولاتها المتعددة للخلاص منه [ص46]، كما ارتبط حصوله على ماء الحياة بأحداث لاحقة، حين يُعالج بهذا الماء بعد سنين ليُكمل مسيرة بطولته [ص66]. وهذه الترابطات تدلّك على أن "حصول هذا التراكم لا يعني التوظيف المجاني بهدف الإطناب أو التطويل لإثارة القارئ"(10)، بل يعني أنه وحدة بناء أساسية وأصيلة.
وقد تتخطّى مصادر التراكم، في سيرتنا هذه، بيئة سيناء إلى البيئات المجاورة جغرافيًّا أو تلك التي لها معها علائق تاريخية قديمة. وهذا وضع مألوف في السيَر الشعبية العربية بصفة عامة، حيث "استوعبت السيرة الشعبية المرويات الدينية، والموروث الديني الأسطوري للشعوب المختلفة. ومثّل الدين الشعبي لليهود والمسيحيين والمسلمين جانبًا كبيرًا من هذه السيَر"(11).
خُذ مثالًا ما أضافته سيرتنا هذه، وانفردت به دون السيرتين الأولى والثانية، من مكر (الجليلة)؛ فبعد أن نكّل (الزير) بقومها أرادت أن تحتال عليه وأن تقيّد قدميه فينتقم منه أهلها ويقتلوه؛ فكان يقطع القيد المتين كل مرة حتى احتالت عليه مجددًا مرة ثالثة وفتَـلَتْ له قيدًا من شَعره هو؛ فعجز عن قطعه ونال منه الأعداء مرادهم [ص64].
ولنا أن نتساءل: ما مصدر هذه الوحدة الحكائية؟ أهي من نسج خيال الرواة؟ أم هي حكاية قديمة تسرّبت إلى حيث هنا؟ ألا يمكن أن تكون هي حكاية (شَمْشُون ودَلِيلة)؟ ومن هما هذان؟ وما حكايتهما؟ وهل تلتقي الحكايتان؟ وكيف؟
تقول التوراة، في (سِفر القُضاة) خاصة، إن (شَمْشُون) كان من قُضاة بني إسرائيل مدة عشرين سنة في أثناء حكم الفلسطينيين، وإن أحداثًا جسامًا وقعت بينه وبينهم، وكان يهزمهم، ويصرّ على مواصلة هزيتمهم قائلًا: "إنني لن أكف حتى أنتقم منكم"(12). وقد حاولوا ضده كل حيلة للإيقاع به لكنهم فشلوا. "وبعد ذلك وقع شمشون في حب امرأة من وادي سُورَق اسمها دَلِيلة. فجاء إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها: تملَّقي شَمْشُون إلى أن تكشفي منه سرَّ قوته العظيمة، وكيف يمكننا أن نتغلّب عليه ونوثقه فنذلّه؛ فيكافئكِ كل واحد منا بألف ومئة شاقل من الفضة". حاولت المرأة أن تسوق دلالها للكشف عن سرّ قوة (شَمْشُون)، لكنها خدعها وأبطل مكرها مرة ومرة وأخرى ثالثة؛ فقالت له: "كيف تدّعي أنك تحبني وقلبك لا يثق بي"؟ ثم "ظلت تلحّ عليه وتزعجه كل يوم بمثل هذا الكلام"، ويبدو أن قلب (شَمْشُون) قد رقّ لها واستسلم، "فكشف لها عن مكنون قلبه"، وباح لها بأن شَعره هو سرّ قوته العظيمة، وقال: "لهذا لم أحلق شَعري، وإن حلقته فإن قوتي تفارقني وأصبح ضعيفًا كأي واحد من الناس"! عرفت (دليلة) السر؛ "فأضجعته على ركبتيها واستدعت رجلًا حلق له خُصلات شعره السبع"، وأبلغت أعداءه فجاؤوا وقبضوا عليه "وقلعوا عينيه وأخذوه إلى غزّة حيث أوثقوه بسلاسل نحاسية، وسخّروه ليطحن الحبوب في السجن"!
أحسب أن هذه الأحداث فيها مَقنَع بالتقاء الحكايتين حول جملة أمور، منها مكر المرأة بعدو قومها، ومنها استغلال الأنثى لاستجابة البطل لرغباتها، ومن وجوه الاتفاق أيضا أن وسيلة الإيقاع بالبطل، في الحالتين، كانت حلق شَعر رأسه! بل أكاد أزعم أن حكاية (الجليلة) مع (الزير) في روايتنا إنما هي صورة مختزلة من الحكاية التوراتية – والاختزال سمة روايتنا هذه، كما أسلفنا – وما يقوّي هذا الزعم عندي أن الآثار التوراتية تحضر حضورًا لافتًا في ثقافة بادية سيناء، وقد سبق لي أن أوردتُ كثيرًا من مظاهر هذا الحضور في دراسة خاصة(13)

.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) الرقم بين معقوفين [ص..] يشير إلى رقم الصفحة في متن السيرة.
(1) ضياء الكعبي، مرجع سابق، ص174 وص175.
(2) نفسه، ص189.
(3) نفسه، والصفحة.
(4) شوقي عبد الحكيم، مرجع سابق، ص25.
(5) شوقي عبد الحكيم، موسوعة الفولكلور والأساطير العربية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص152. نقلا عن ضياء الكعبي، مرجع سابق، ص189.
(6) جمعتُ 48 حكاية خرافية من سيناء، وكان نصيب حكايات الغيلان منها (28 حكاية)، والباقي توزّع بين خرافات الجان (8 حكايات)، وخرافات الحيوان (7 حكايات)، وخرافات السحر (خرافة واحدة)، والخرافات العجيبة (4 حكايات). ويمكن الرجوع في ذلك إلى كتابي: الحكاية الخرافية في سيناء، دار ميتا بوك، 2021.
(7) عبد الله إبراهيم، مرجع سابق، ص265.
(8) نفسه، والصفحة.
(9) سعيد يقطين، مرجع سابق، ص30.
(10) نفسه، والصفحة.
(11) ضياء الكعبي، مرجع سابق، ص189وص190.
(12) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، بوس بارتون وآخرون، ترجمة: وليم وهبة وآخرين، شركة ماستر ميديا، القاهرة، ط خامسة، 2004، ص517 وما بعدها.
(13) يمكن مراجعة ذلك في كتابي: "ميثولوجيا سيناء"، المشار إليه سابقًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى