أ. د. لطفي منصور - الموازَنَةُ بَيْنَ الشِّعْرِ والنَّثْر..

أَعْنِي بالشِّعْرِ الْكَلامَ المَنْظومَ المُقَفَّى وَلَواحِقَهُ، من موسقَى وَخَيالٍ وفُصُولِ البلاغَةِ، وعلمِ البيان وعلمِ المعاني.
وأعنِي بالنَّثْرِ، النَّثْرَ الْفَنِيَّ وما يلحقُهُ من مجاز لِغَوي ومرسل، وعلمِ المعاني والبيان.
وَأَبدَأُ بالشِّعْرِ لِأَنَّهُ سَبَقَ النَّثْرَ الفَنِّيَّ في الْوُجود.
نَحْنُ لا نَعْرِفُ متى بَدَأَ العرَبُ يقولونَ الشِّعْرَ، وكُلُّ ما نَعْلَمُهُ مِنَ العلومِ التّاريخيَّةِ غَيْرُالموثَّقٍ، لا يَتَعَدَّى مِائَةً وخمسينَ سَنَةً قَبْلَ الإسْلامِ، مَعَ ظُهُورِ امْرِئِ القيسِ، وعلْقَمَةَ بنِ عَبَدَةَ التَّميمي، والْمُهَلْهِل. وقد وصلَنا الشِّعْرُ بالرِّوايَةِ، وبَدَأَ جَمْعُه في النصْفِ الأوَّلِ من القرنِ الثّاني الْهِجْرِي. ولَم يجمَعْهُ رُواةٌ مُنْصِفونَ، بل كانَتْ لَهُمْ أهواءٌ منها التَّعَصُّبُ القبَلِيُّ، الذي كانَ سَبَبًا مُباشِرًا لعمليَّةِ انتحالِ الشَّعرِ، وكذلك الشُّعوبيَّةُ التي قادَها حمّادُ عَجْرد، وَخَلَفٌ الأَحْمَرُ، ومُطيُعُ بنُ إياس. وغيرُهم من شعراء الزَّندَقَةِ.
كانَ حَمّادُ الرّاوِيَةُ شاعِرًا، ينظُمُ القَصائِدَ وَيُنْحِلُها قبائِلَ عربيَّةً هواه مَعَها.
الشِّعْرُ لم يبدَأْ مَعَ الشُّعَراءِ كامْرِئِ القَيْسِ ورَهْطِهِ، وإنَّما مضَتْ قُرونٌ كثيرّةٌ على تَطَوُّرِهِ: من الرَّجَز والأَبياتِ الرّباعيّة كالهزج والبحورِ المجزوءةِ إلى القصيدِ الكامل حتّى اسْتَوَى ستَّةَ عَشَرَ يحرًا في النصْفِ الثاني مِنَ القرنِ الثّاني الهجري، مَعَ عَروضِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفَراهيديِّ (ت ١٧٠هج).
علينا أنْ نفهَمَ أنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ جاءَنا كامِلًا فصيحًا في أوزانِهِ وتشابيهِهِ، واستعارَاتِهِ وأغراضِهِ وَنَسيبِهِ، ومدحِهِ وهجائِهِ، وفِي الطَّرديّات، والغَزَلِ، والوَصفِ للمَطَرِ والنَّعامِ والجَمَلِ والنَّاقَةِ والذِّئْبِ، والرِّحْلَةِ الصَّحراوِيَّةِ.
فَهَلْ يُعْقلُ أنَّ الشِّعْرَ بَدَأَ مع امرئِ القيسِ كامِلًا، هل هناكَ مَوْلودٌ يولَدُ رَجُلًا.
وَقَدْ قرَأْتُ في دِراستي للشِّعْرِ الجاهلي ما كتبَهُ المستشرقون أمثال غرنباوم، وبلاشِير ونالينو الإيطالي، وشارل بِلّا، وما كَتَبَتْهُ العرَبُ، أمثال طه حسين، وجورجي زيدان، وشوقي ضيف، وشكري فيصل، وذهبَ أجْمَعُهم إلى أنَّ الشِّعْرَ الجاهليَّ قد تَطَوَّرَ تَطَوُّرًا، وذهبَ طهَ في طريقِ المغالاةِ ونفى وجودَ شِعْرٍ جاهِلِيٍّ، وإنَّ ما وَصَلَنا مَنحولٌ من العصرِ العبّاسيِّ الأوَّلِ.
وَقَرَأْتُ ما كتبَهُ بلاشير الفرنسي أنًهُ زار دَيْرَ طور سينا وأنَّ أحدَ الرُّهبانِ العلماءِ أبلَغَه أنَّ قوافِلَ عربيَِّةً القادِمَةَ من مَدْيَن كانوا يَنْتَشِلونَ الماءَ من بِئْرٍ قَريبَةٍ مِنَ الدِّيْرِ وهم يرتجزونَ بلُغَةٍ غَيْرِ مفهومَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الدّيْرِ. لا شَكَّ أَنَّها عربيّة.
قُلْتُ إنَّ الشِّعْرَ قَدْ سَبَقَ النَّثْرَ الفَنِّيَّ بِمِئاتِ السِّنينَ. فالشِّعْرُ ظَهَرَ في البداوَةِ. وَكُلُّ الشِّعْرِ العرَبِيُّ شِعْرٌ غِنائِيُّ يُغَنَّى بِهِ، وكُلُّ بُحورِهِ غنائِيَّةٌ، يصاحُبُها العَزْفُ والإيقاعُ، وحتّى رَقْصُ الجواري على أنغامِهِ، وأكبرُ بُرْهانٍ لهذا موسوعةًُ كتابِ الأغاني لِأبِي الفرجِ الأصبهانيِّ.
سَبَقَ الشِّعْرُ النَّثْرَ لِأَنَّهُ مِرْتَبِطٌ بعاطِفَةِ الإنسانِ. كُلُّ إنسانٍ يَطْرَبُ ذَكَرًا كان أَمْ أُنْثَى. وَمَعْنَى الطَّرَبِ الاهْتِزازُ في السُّرورِ أوِ الحُزْنِ. فإذا واجَهَ العرَبِيُّ موقِفًا مُؤَثِّرًا في العاطِفَةِ تَهْتَزُّ جَوارِحُهُ فيعَبِّرُ عن ذلك بالغناء أوِالندْبِ والعويل.
وَقَدْ ذَكِرَ الدُّكتور طهَ حُسَيْنِ في كتاب الأيّام الأوَّلِ أنّ نساءَ مِصْرَ عندَهُنَّ عادَةُ التَّرْديدِ. فَإِذَا خلَتْ المرْأَةُ بنَفْسِها، تذكّرَت ما فَقَدَتْهُ من أخٍ أو أَبٍ أو قَريبٍ فَتَأخُذُ بالتَّرْديد، وَهْوَ غِناءُ ساذِجٌ مُحْزِنٌ، فكانَ يبكي لذلك.
أَمَّا النَّثْرُ الفَنِّيّ فيحتاجُ إلى فِكْرٍ عميق، وهو لَيْسَ الكلامَ الذي نتخاطَبُ بِهِ، ولا يشيعُ إِلَّا في الحضارَةِ، لِأنّهُ يحتاجُ إِلَّا استقْرارٍ، وإعمالِ الفِكْرِ الثّاقِبِ، ويقومُ على الدِّراسَةِ والعِلم، لذلكَ هو أقَلُّ شيوعًا وَإنتاجًا من الشِّعْرِ، ويحتاجُ إلَى براعَةٍ في الكتابَةِ، وإلى جُهْدٍ جَهِيد.
وَلْيَعْلَمِ القارِئُ أنَّ أوَّلَ كِتابٍ امتلَكَهُ العرَبُ هو القُرْآنُ الشَّرِيفُ، ولا نَعْرِفُ لهم كتابًا قَبْلَهُ
الْقُرْآنُ لَيْسَ شِعْرًا، واللَّهُ قد نفى عَنْهُ وعنْ رسولِهِ الشّاعرِيَّةَ، وَأسلوبُهُ أقْرَبُ إلى النَّثْرِ البلاغي الفَنِّي المُعْجِزْ.
وعليهِ واعتمادًا على ما قَدَمْتُ فَإنَّ القصيدَةَ النَّثْرِيَّةَ إذا استَوْفَتْ شُروطَ الشِّعْرِ الأساسيَّةَ، حَتَّى لو خَلتْ مِنَ الوزنِ والقافيَةِ والرَّوِيِ، يُمْكِنُ اعتِبارُها تَطَوُّرًا شِعْرِيًّا مقبولًا، وجمالُها عندَئِذٍ لا يَقِلُّ عَنِ القصيدَةِ المُقَفّاةِ الموزونةِ، وتزيدُ عليها بالمُتْعَةِ الذِّهنِيَّةِ، لِعُمْقِ أفكارِها، وهذهِ المتْعَةُ هي ما يُمَيِّزُ الأَدَبَ الرَّفيعَ عَنْ غَيْرِهِ.
إذا أردتم أمثلَةً فَالْأَمْثِلَةُ كثيرَةُ.
أمّا ما هِيَ شُروط القصيدَةِ النَّثْرِيَّةِ المقبولةِ فهي:
- أن يكونَ هناكَ هَدَفٌ للقصيدَةِ النَّثْرِيَّةِ وغيرِ النَّثْريّة، وَلَيْسَ بيتَ القصيد.
- الوَحْدَةُ العضويَّة: كل شطر مترابط مع الآخر
- جزالة اللَّفظِ وتوخِّي الكلماتِ ذات الجَرْسِ الموسيقي.
- عُمقُ الأفكار التي تَرْوي العَقْلَ، لِأنَّ قصيدَةَ النثْرِ تُخاطِبُ العَقْلَ قَبْلَ العاطفة.
- عدمُ وجودِأخطاءٍ نحويَّةٍ وإملائيَّة.
- تجنُّبُ الغموضِ في المعاني ، لِأنَّ الكاتِبَ يختفي هو وجَهْلُهُ وراءَها. وهذا إفلاسٌ منه. نَحْنُ نطلبُ عُمْقَ التّفكيرِ والتَّوْرِيَةَ لا غُموضَ المعنى، نطلبُ الرَّمزَ مَعَ قَرائنَ تَدُلُّنا عليه بَعْدَ إعمالِ النَّظَر.
وَفَّقَكُمُ اللّهُ إلَى الْمَنْهَجِ الصَّحيحِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى