عَصَفَت رياحُها المجنونة بقلبي .
فقَطَعْتُ الدروب الموحشة . و بعد طول عناء ، وصلت إلى غابة من الكروم و الزيتون و أشجار التفاح. دلّني أحد الجيران .كانت ( ريما ) مستلقية بكل بهائها في دروب الضيعة التي تتنفس مدينة بيروت من عطرها. حيث ترقد بذلك الوجه الحكيم ، و الجسد الذي طغت أنوثته .
تفيّأتُ معها تحت فيئ شجرة ظليلة ، فلاحت لي ماضية في غفوة كالملاك، أو ربما تظاهرت بذلك . فأنعمتُ نظري بملامحها وهي تفيض إغراءً.
انحنيت فوق وجهها واختطفت قبلتين من عينيها، و
لِذتُ جانباً أنظر لوجهها بانبهار شديد ، متظاهراً وكأني لم أفعل شيئاً . لكنها سرعان ما استيقظت ، منعمة نظرها بملامحي السومرية و كأنها على علم بفعلتي ، ثم قالت :
ـ إغْرَب عن وجهي أنت وخطيئتك . يعذبك هيامي بسعيره .
وعادت لدارها و أوصدت بابها .فزادني ذلك احتراقاً ورجوتها :
ـ (ريما) أنا قادم من بلاد سومر إلى حيث مرابع الأرز. أسيرك كما وقع جدي ( ديموزي ) أسير هوى جدتك ( عشتروت .(
لكن الجفاء ما زال شيطانه يهيمن على قلبها ، كحال جدتها. فتيقنت إنها لن تغفر فعلتي .
ـ يا (ريما).. حتى لو غلقتِ كل المنافذ، لكني سأتذكر إن قبلتيك أعذب من الشهد . و ارق من الحرير . مَنْ الذي لا تأسره عيناك ؟
قالت بغطرسة من وراء ظلفة بابها :
ـ أنا لم أكن سوى حلماً يجول شيطانه برأسك. ليتك استفدت منه و استفقت .
طمأنتها :
ـ أنا لا أؤذيك .إنما جئتُ لأجدد ذكرى جدي . قتيل هوى جدتك ، و أريد أن أتعبد مثله أمام جلالك و أستشهد بمكر عينيك.
انفرجت عتبة الباب قليلاً و أسفر عن وجهها الجليل لتقول :
ـ الاحلام بعض من نثار واقعنا . كل عابدينا يحلمون مثلك ويطلبون منا أن نبارك لهم انتهاكاتهم . ولكنهم لا يجنون سوى الصدود .
قلت لها متوسلاً :
ـ أرجوك ، لا تكوني قاسية و مغرورة، دعيني أنغمر بهذا الفرح الذي يلفني بطيف عطرك. لماذا تريديني أستفيق من حلمي ؟ ألِأني أركع مغموراً بصلاتي أمام محرابك ؟
تظاهرت بالصمت . هي تعشق الصمت ، و تتفنن باستخدام سهام الصمت، لكي تجدد مكر جدتها .
خاطبتها :
ـ يا (ريما) .. لست أنت فقط مَن لا تجيب . كل الآلهة يفعلون ذلك مع عبادهم . فأنتن تمارسن قسوتكن ، لكي يَتقلّى العابدون بسعيركن .
أجابت بعد مخاض عسير ، ممعنة بسعير نارها بقلبي :
ـ يا بن سومر ، أيها الغريب ، يجب أن ترحل لأني أريد أن أنام .
وأوصدت بابها وتظاهرت بالنوم ، ثم كرَرْتُ الطرقَ فأجابت بجفاء :
ـ ماذا تريد ثانية ؟
ـ أريد أن أقبلك وأرحل .
قالت :
ـ أنت تكذب . سوف لن ترحل . و القُبل ممنوعة منعاً باتّاً . و لأنك سومري ـ و السومريون مهووسون بالأحلام ـ ربما أستمع لأشواقك من باب كرم الضيافة لا غير. و ربما تفتنني سمرتك السومرية لكي أتندر بعشقك أمام الآلهة. و لكن اللمس ، وحتى حلمك بذلك ، إيّاك إياك .
ـ و لكني أقف أمام محرابك ، أسير عينيك .
فتحت الباب متأففة وأسفرت عن فتنة صدرها عمداً و قالت :
ـ هل يفكر السومري ، أن يبقى أسير رياح (ريما) ، لكي تثمله خمرتها وعطر ضيعتها ؟
قلت :
ـ أكيد أيتها المعبودة المبجلة .
قالت و هي تثقب فؤادي بسهم استلته من بين رموشها :
ـ ليتك ترحل حذراً من سهامي ، فرياحي العاتية أقوى من جَلًدِك .
قلت :
ـ مهما عصفت رياح عطرك ، فهي تغريني أن أموت سعيداً بين طواياها .
قالت :
ـ نًمْ على دكة أبوابي مهملاً ...
استلقيت هناك . حالماً بالحلم الأزلي لمن يعبدون .
كان قلبي هو الوحيد الذي ينصت لأحلام الليل . فالليل وحده يرسل نداء الحب إلى القلوب بوضوح . و عندما يطل الصباح ينبغي أن أهمَّ بالرحيل ، بعد أن توضح لي : إن كل الأماني كانت مجرد أوهام .
بقيتُ أتأمل . أحلم كما العشاق ، بقطرات ندى منعشة . تتساقط من جدائلها على و جهي . منحنية عابثة بشعري ،بأناملها الرقيقة . . تمسح الخيبة و الغمة عن عيوني. بينما أنا أغرق بذلك الصفاء العميق ، و أحلم إني ألمس الخدين وواديهما و الشفتين. و أقبل سفوح تلك الابتسامة ، و أنا أستفسر منها :
ـ يا ابنة عشتروت .. لماذا أنت متغطرسة و باردة الدم ؟
تخيّلتُ إنها ابتسمت بغنج و صدت جانباً بعينيها، بينما قلبي يتفطّر ويتوه بمحض أحلام ، و توسلت :
ـ افترضي يا معبودتي إنه مجرد حلم ليل عابر، من أحلامي الطويلة الضالَّة . إذن لماذا تقلقي على نفسك ؟
* * *
بقي حلمي يتيماً ، فلا قبلة على عنق يفوح عطره . و لا صحوة قلب يجعلني أتوسد صدرها الوثير. و لا روحاً تعبِّر عن الرعاية .
تمادت في تظاهرها بالكبرياء، و الإصرار على التمويه ، و تمادت ببخلها على عاشقها و لو بكلمتين من تحية الصباح.
كنت مضطراً أن أمعن بلوم نفسي، وعلى مضض ناديت :
ـ لا تنفعلي مني ، فانا قضيت عمري عائماً بخيال مثل الطوفان العارم ، الذي يفيض عبر حاجز عظيم . فتنحدر مياهه العارمة عبر ثلمةٍ. و لكن لا يقلقك ذلك ، فهي مياه دافئة أمينة . حتى لو حكم القدر أن تعومي بعنفها فإنك ستشعرين بسعادة غامرة .
أكيد انك تخشين سيلها العارم ـ أنا أفهم ذلك ـ لكنها ، حتى لو اندلعت ، فإن باستطاعتك ألا تغرقي .
عندها فتحت الباب على مصراعيه ، و فتحت ذراعيها... ثم قادتني إلى الداخل ، وأوصت الباب .
موسى غافل
فقَطَعْتُ الدروب الموحشة . و بعد طول عناء ، وصلت إلى غابة من الكروم و الزيتون و أشجار التفاح. دلّني أحد الجيران .كانت ( ريما ) مستلقية بكل بهائها في دروب الضيعة التي تتنفس مدينة بيروت من عطرها. حيث ترقد بذلك الوجه الحكيم ، و الجسد الذي طغت أنوثته .
تفيّأتُ معها تحت فيئ شجرة ظليلة ، فلاحت لي ماضية في غفوة كالملاك، أو ربما تظاهرت بذلك . فأنعمتُ نظري بملامحها وهي تفيض إغراءً.
انحنيت فوق وجهها واختطفت قبلتين من عينيها، و
لِذتُ جانباً أنظر لوجهها بانبهار شديد ، متظاهراً وكأني لم أفعل شيئاً . لكنها سرعان ما استيقظت ، منعمة نظرها بملامحي السومرية و كأنها على علم بفعلتي ، ثم قالت :
ـ إغْرَب عن وجهي أنت وخطيئتك . يعذبك هيامي بسعيره .
وعادت لدارها و أوصدت بابها .فزادني ذلك احتراقاً ورجوتها :
ـ (ريما) أنا قادم من بلاد سومر إلى حيث مرابع الأرز. أسيرك كما وقع جدي ( ديموزي ) أسير هوى جدتك ( عشتروت .(
لكن الجفاء ما زال شيطانه يهيمن على قلبها ، كحال جدتها. فتيقنت إنها لن تغفر فعلتي .
ـ يا (ريما).. حتى لو غلقتِ كل المنافذ، لكني سأتذكر إن قبلتيك أعذب من الشهد . و ارق من الحرير . مَنْ الذي لا تأسره عيناك ؟
قالت بغطرسة من وراء ظلفة بابها :
ـ أنا لم أكن سوى حلماً يجول شيطانه برأسك. ليتك استفدت منه و استفقت .
طمأنتها :
ـ أنا لا أؤذيك .إنما جئتُ لأجدد ذكرى جدي . قتيل هوى جدتك ، و أريد أن أتعبد مثله أمام جلالك و أستشهد بمكر عينيك.
انفرجت عتبة الباب قليلاً و أسفر عن وجهها الجليل لتقول :
ـ الاحلام بعض من نثار واقعنا . كل عابدينا يحلمون مثلك ويطلبون منا أن نبارك لهم انتهاكاتهم . ولكنهم لا يجنون سوى الصدود .
قلت لها متوسلاً :
ـ أرجوك ، لا تكوني قاسية و مغرورة، دعيني أنغمر بهذا الفرح الذي يلفني بطيف عطرك. لماذا تريديني أستفيق من حلمي ؟ ألِأني أركع مغموراً بصلاتي أمام محرابك ؟
تظاهرت بالصمت . هي تعشق الصمت ، و تتفنن باستخدام سهام الصمت، لكي تجدد مكر جدتها .
خاطبتها :
ـ يا (ريما) .. لست أنت فقط مَن لا تجيب . كل الآلهة يفعلون ذلك مع عبادهم . فأنتن تمارسن قسوتكن ، لكي يَتقلّى العابدون بسعيركن .
أجابت بعد مخاض عسير ، ممعنة بسعير نارها بقلبي :
ـ يا بن سومر ، أيها الغريب ، يجب أن ترحل لأني أريد أن أنام .
وأوصدت بابها وتظاهرت بالنوم ، ثم كرَرْتُ الطرقَ فأجابت بجفاء :
ـ ماذا تريد ثانية ؟
ـ أريد أن أقبلك وأرحل .
قالت :
ـ أنت تكذب . سوف لن ترحل . و القُبل ممنوعة منعاً باتّاً . و لأنك سومري ـ و السومريون مهووسون بالأحلام ـ ربما أستمع لأشواقك من باب كرم الضيافة لا غير. و ربما تفتنني سمرتك السومرية لكي أتندر بعشقك أمام الآلهة. و لكن اللمس ، وحتى حلمك بذلك ، إيّاك إياك .
ـ و لكني أقف أمام محرابك ، أسير عينيك .
فتحت الباب متأففة وأسفرت عن فتنة صدرها عمداً و قالت :
ـ هل يفكر السومري ، أن يبقى أسير رياح (ريما) ، لكي تثمله خمرتها وعطر ضيعتها ؟
قلت :
ـ أكيد أيتها المعبودة المبجلة .
قالت و هي تثقب فؤادي بسهم استلته من بين رموشها :
ـ ليتك ترحل حذراً من سهامي ، فرياحي العاتية أقوى من جَلًدِك .
قلت :
ـ مهما عصفت رياح عطرك ، فهي تغريني أن أموت سعيداً بين طواياها .
قالت :
ـ نًمْ على دكة أبوابي مهملاً ...
استلقيت هناك . حالماً بالحلم الأزلي لمن يعبدون .
كان قلبي هو الوحيد الذي ينصت لأحلام الليل . فالليل وحده يرسل نداء الحب إلى القلوب بوضوح . و عندما يطل الصباح ينبغي أن أهمَّ بالرحيل ، بعد أن توضح لي : إن كل الأماني كانت مجرد أوهام .
بقيتُ أتأمل . أحلم كما العشاق ، بقطرات ندى منعشة . تتساقط من جدائلها على و جهي . منحنية عابثة بشعري ،بأناملها الرقيقة . . تمسح الخيبة و الغمة عن عيوني. بينما أنا أغرق بذلك الصفاء العميق ، و أحلم إني ألمس الخدين وواديهما و الشفتين. و أقبل سفوح تلك الابتسامة ، و أنا أستفسر منها :
ـ يا ابنة عشتروت .. لماذا أنت متغطرسة و باردة الدم ؟
تخيّلتُ إنها ابتسمت بغنج و صدت جانباً بعينيها، بينما قلبي يتفطّر ويتوه بمحض أحلام ، و توسلت :
ـ افترضي يا معبودتي إنه مجرد حلم ليل عابر، من أحلامي الطويلة الضالَّة . إذن لماذا تقلقي على نفسك ؟
* * *
بقي حلمي يتيماً ، فلا قبلة على عنق يفوح عطره . و لا صحوة قلب يجعلني أتوسد صدرها الوثير. و لا روحاً تعبِّر عن الرعاية .
تمادت في تظاهرها بالكبرياء، و الإصرار على التمويه ، و تمادت ببخلها على عاشقها و لو بكلمتين من تحية الصباح.
كنت مضطراً أن أمعن بلوم نفسي، وعلى مضض ناديت :
ـ لا تنفعلي مني ، فانا قضيت عمري عائماً بخيال مثل الطوفان العارم ، الذي يفيض عبر حاجز عظيم . فتنحدر مياهه العارمة عبر ثلمةٍ. و لكن لا يقلقك ذلك ، فهي مياه دافئة أمينة . حتى لو حكم القدر أن تعومي بعنفها فإنك ستشعرين بسعادة غامرة .
أكيد انك تخشين سيلها العارم ـ أنا أفهم ذلك ـ لكنها ، حتى لو اندلعت ، فإن باستطاعتك ألا تغرقي .
عندها فتحت الباب على مصراعيه ، و فتحت ذراعيها... ثم قادتني إلى الداخل ، وأوصت الباب .
موسى غافل