عبدالرزاق دحنون - القس ديزموند توتو: المُحايد في زمن الظلم مؤيد للظالم

يقول عارف حجاوي ابن مدينة نابلس الفلسطينية في برنامجه المشهور "سيداتي سادتي" على تلفاز "العربي" في موسمه الرابع والذي سُجِّل في حلقات في العاصمة اللبنانية بيروت:

في عيد الميلاد من العام الماضي 2021 أتمَّ ديزموند توتو تسعين سنة وشهرين، هي كل عمره. غدا القس الأسطورة: صورة، وطاقةَ أزهار. ديزموند توتو أسقف جوهانسبرغ الأسود، حوَّل المسيحية الأنغليكانية من أداة يستعملها المستعمر إلى أداة نضال ضدَّ الفصل العنصري. أيد اللاعنف والتسامح، ولكنه أيد نيلسون مانديلا في نضاله بأشكله. عاش أفريقياً ضاحكاً مازحاً، لم يجعله الفصل العنصري غاضباً، ولم يجعله مستكيناً ولا مسكيناً، وظلَّ يُسدد إصبع الاتهام إلى العنصريين، فضحهم في العالم.

قصة دحر العنصرية في جنوب أفريقيا عملة ذات وجهين: نيلسون مانديلا/ديزموند توتو. قال ديزموند توتو: المُحايد في زمن الظلم مؤيد للظالم. عندما جاء المبشرون إلى أفريقيا كان معهم الكتاب المقدس، وكان معنا الأرض، قالوا: فلنصلي، أغمضنا أعيننا، وعندما فتحناها، كان معنا الكتاب المُقدس، فحسب، وكانت الأرض معهم. إذا سعيت إلى السلام فأنت لا تُخاطب أصدقاءك بل أعداءك. لا أريد التقاط فتاة التعاطف من موائد من يعدون أنفسهم أسيادي، أريد حقوقي وقائمة الطعام كاملة. كم وددتُ لو سكت، لكنني لم أستطع، ولا أريد. سنتعجب كثيراً من بعض من سنُلاقيهم في الجنة، فالله يحنو على الخاطئين، متطلباتُهُ قليلة. زرتُ المناطق الفلسطينية في الأرض المحتلة ورأيتُ شوارع العزل العنصريّ، وذكَّرتني بظروف جنوب أفريقيا تحت نظام الفصل العنصري. كُن لطيفاً مع البيض، فهم يحتاجونك، لإعادة اكتشاف إنسانيتهم. الله مبتسمٌ دوماً، لأنه وحده يعرف ما الذي سيحدث لاحقاً.

وُلد ديزموند توتو في عام 1931 في بلدة صغيرة يعمل معظم سكانها في مناجم الذهب في إقليم ترانسفال. اقتفى بادئ الأمر خطوات أبيه وعمل مدرساً، ولكنه ترك تلك المهنة عقب سريان قانون تعليم البانتو في عام 1953، وهو القانون الذي أدخل الفصل العنصري في المدارس. انضم ديزموند توتو إلى الكنيسة، وتأثر كثيرا بالعديد من رجال الدين البيض في جنوب أفريقيا وعلى وجه الخصوص ذلك المعارض العنيد لنظام الفصل العنصري الأسقف تريفور هادلستون. بعد ترسيمه كاهناً في الكنيسة، حصل توتو على شهادات في علم اللاهوت وعلم النفس من جامعة في لندن، وعمل لفترة في كنيستين في جنوب شرقي إنجلترا. وعقب فترة قضاها يعمل في المجلس الكنسي العالمي في بريطانيا، أصبح توتو أول رئيس أسود للكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرغ في عام 1975.

حاز ديزموند توتو على جائزة نوبل للسلام في عام 1984 بفضل الجهود التي بذلها في التصدي لنظام الفصل العنصري، في خطوة اعتبرت بمثابة إهانة كبرى من جانب المجتمع الدولي لحكام جنوب أفريقيا البيض. وحضر حفل تنصيب توتو رئيسا لأساقفة جوهانسبرغ شخصيات دينية دولية منها أسقف كنتربري السابق روبرت رانسي وأرملة زعيم الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينغ.

وواصل توتو، بعدما أصبح زعيما للكنيسة الانجليكانية في جنوب أفريقيا، تصديه الفعال لنظام الفصل العنصري. ففي آذار/ مارس 1988، قال "نرفض أن نُعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة أحذيتها عليها". بعد شهور ستة، خاطر ديزموند توتو بدخول السجن بمطالبته بمقاطعة الانتخابات المحلية، كما تعرض لتسمم بغاز مسيل للدموع في آب/ اغسطس 1989، عندما تصدت الشرطة لمجموعة خارجة من كنيسة في بلدة للسود قرب كيب تاون، وفي الشهر التالي، ألقي عليه القبض بعد رفضه ترك مظاهرة محظورة.

رحَّب ديزموند توتو بحرارة بالإصلاحات الليبرالية التي أعلن عنها رئيس جنوب أفريقيا دي كليرك بعد توليه منصبه بقليل، وشملت هذه الإصلاحات رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطني الأفريقي وإطلاق سراح نيلسون مانديلا.

وبعد وقت قصير، أعلن ديزموند توتو حظراً على انضمام رجال الدين إلى الأحزاب السياسية، وهو قرار أدانته الكنائس الأخرى. وفي وقت لاحق من عام 1990، حاول التوسط لحل خلافات بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحركة انكاثا التي كان يتزعمها شيخ الزولو غاتشا بوثيليزي.

لم يخش ديزموند توتو من البوح بآرائه أبداً. ففي نيسان/ أبريل 1989، أثناء زيارة لمدينة برمينغهام في إنجلترا، انتقد ما وصفه بـ"بريطانيا ذات الأمتين"، وقال إن السجون البريطانية تعج بالنزلاء السود. كما أغضب الإسرائيليين عندما شبّه - أثناء زيارة - الأفارقة السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين الذين يقطنون الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال توتو إنه لا يستطيع أن يستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرين كاليهود أن يفرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني.

كان رجلاً نحيلاً قصير القامة، وكان يلقب بـ"القوس"، ولكنه كان يتمتع بروح دعابة وتشعُّ منه روح السعادة رغم مفهوم الواجب الذي كان يطغى عليه. كان ديزموند توتو رجلاً يتحلى بمفاهيم أخلاقية قوية، وحاول جاهداً تحقيق انتقال سلمي للسلطة في جنوب أفريقيا.

وعلى الرغم من شعبيته، إلا أنه لم يكن بذاك الإنسان الذي حظي بحب الجميع. فقد كان من أشد المنتقدين لحكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في حقبة ما بعد نظام الفصل العنصري، عندما شعر، في بعض الأحيان، أنها لا تمثل جنوب أفريقيا - بل بلغ به الحد في 2011 إلى التحذير من أنه سيصلي من أجل سقوطها بعد إلغائها زيارة كان من المقرر أن يقوم بها الزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما إلى البلاد. ورداً على ذلك، قال مفوض الشرطة الوطنية لتوتو "اذهب إلى البيت واغلق فمك". لم يخش ديزموند توتو من البوح بآرائه أبداً فقال: كم وددتُ لو أغلقتُ فمي، لكنني لم أستطع، ولا أريد.

القس ديزموند توتو لسان حال عارف حجاوي في سيداتي سادتي:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى