أمل الكردفاني- الترفيه والفلسفة الرأسمالية

"إن كل شيء يمكن أن يتحول إلى مال، ما دام هو شيء"

كان الصراع بين الفلسفة الرأسمالية في الولايات الشمالية لأمريكا، ضد الجنوب الاقطاعي، هي التي أدت إلى افتعال الحرب الأهلية، كان الغرض هو تحويل النمط الزراعي من التقليدي إلى التجاري. وقد تم ذلك بعد انتصار القوى الراسمالية. يمكننا أن نقول بأن هذه الحرب كانت نقطة تحول للعالم بأسره. لكنها نقطة تحول لم يُشر إليها كثيراً، لأنه ليس من المطلوب أن تُعرف لدى الكافة. تم تجريف كل عوامل الاقتصاد القديم، ووضع مبادئ للاقتصاد الجديد، مبادئ عالمية، يتم تطبيقها بأسلوب التقطير البطيئ، ولكنها كلها تصب في خدمة الراسمال. الفردية وحقوق الإنسان، والعلمانية ولا مركزية المعنى. إنها كلها تسعى لتقويض المؤسسات التقليدية، فالفردية تقوض القبائلية والقومية، والحرية تقوض الحماية الاجتماعية للفرد في مواجهة المؤسسات الرأسمالية، وحقوق الإنسان لتقويض الخصوصيات الثقافية، والعلمانية تقوض مركزية الدين، ولا مركزية المعنى تقوض الكتب المقدسة والحقيقة المطلقة. وهكذا ينتهي العالم القديم ويبرز العالم الجديد. وهذا العالم الجديد لا يمكن أن يعاني من الفوضى التي تنتج عن سلبيات كل تلك التقويضات، فالحرية يمكن ان تستجلب الفكر المناهض للتوحش الرأسمالي، والدموقراطية يمكن أن تنتج عنها حكومات مناهضة للرأسمالية ومدعومة شعبياً، كما حدث في أمريكا اللاتينية، ولا مركزية المعنى يمكن أن تقوض طمأنينة الآيدولوجيا الرأسمالية ذاتها كما حدث اثر بروز الشيوعية في العالم، والإسلام السياسي والآيدولوجيات القومية كالبعث في الشرق الأوسط. وحقوق الإنسان يمكن أن تتيح الفرصة للتكتلات المناهضة للرأسمالية، والعلمانية يمكنها أن تقوي التحالفات الدينية كما هو الحال في تحالف اللوبي الإسلامي اليهودي المسيحي في فرنسا. فكل مفهوم أو طرح يمكن أن يخلق عوامل مضادة له، وكل نظرية لا تكون نظرية إلا إذا كانت قابلة للدحض كما قال كارل بوبر.
وهذه المعادلة الصعبة، دفعت بالقوى الرأسمالية إلى تسريع خطاها في الثلاثين عاماً الماضية، أي منذ سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفيتي. ثم سارعت الخطى أكثر وأكثر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر، ثم ها هي ترتفع لمعدلها الأقصى في الخمس سنوات الاخيرة. وذلك عبر ضخ العديد من الشعارات الحديثة والمصطلحات الجديدة، مثل مجتمع الميم، والعاربرين والعابرات، والكورونا، وغير ذلك من أدوات الضبط الذهني (كما اشار فوكو في المراقبة والمعاقبة). هناك مطلوبات أساسية تعزز الآيدولوجيا الرأسمالية وأهمها:
- مجتمعات هادئة وأفراد هادؤون: تعزز الآيدولوجيا الرأسمالية اللا مقاومة؛ عبر الضبط الذهني للأفراد والمجتمعات، لكبح العقل النقدي، وتعزيز العقل التفاعلي.
- إنقاذ اليوم: وقد اشارت صديقة إلى هذا المصطلح الرائع: فالرأسمالية هي ثقافة عمل، ولا شيء غير العمل. هنا يلعب الترفيه دورين جوهريين، اولهما إنقاذ اليوم، وتجديد الأنفاس للعمل بعد نهاية العطلة الأسبوعية. والثاني: ضخ المال. لذلك فإن الرأسمالية تعزز الاستثمار في الترفيه، وهذا الاستثمار يطور الترفيه باستمرار. فيجب دائما أن يكون مؤلف القصة السينمائية في حالة توهج ابتكاري، وكذلك السيناريست، والمخرج والمصور، وكذلك الأمر في الغناء والموسيقى والرسم والنحت، ومحلات بيع الآيسكريم، ومدن الألعاب، وألعاب الفيديو، وبرامج الترفيه العامة كالمهرجانات السينمائية، والموسيقية،..الخ.
لخص النجم السينمائي والمخرج العالمي وودي آلان كل ذلك بمصطلح جميل وهو تشتيت الانتباه Distraction.
لذلك أضحى الترفيه علماً؛ أي له أصوله ونظرياته، الفلسفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
العودة إلى العصر الرومانتيكي: من أدوات الضبط الذهني الهامة هي عدم المقاومة، أي العقلانية والواقعية، اللذان ينشآن توجهات مناوئة للواقع الرأسمالي، وفي الفروض الإيجابية، يجب ألا يتوجه أي عقل نقدي نحو تابوهات محددة مثل الطعن في حقيقة الدموقراطية الغربية، أو السيطرة الرأسمالية على القوة الإعلامية والبروباغاندا السياسية،..الخ. لذلك تعمد القوى الراسمالية المسيطرة، إلى تهميش كل من يتجاوز الخط الأحمر، وتعملق كل ما قبل ذلك، عبر مؤسسات عديدة سواء فنية ورياضية وعلمية، كنوبل، و"كان"، والأوسكار، والفيفا،...الخ. أو سياسي، كمجلس الامن، ومنظمات حقوق الإنسان، والوكالات الدولية المختلفة للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي. يمكن لكل هذه المؤسسات وغيرها أن تنهض في لحظة واحدة وبشكل مفاجئ لشيطنة فرد أو جهات أو مؤسسات أو حتى أنظمة وحكومات ودول. ويمكن لها أيضاً أن تعمل بالتزامن على عملقة من تريد عملقته. كانت التجربة الأولى لذلك -والتي كانت ناجحة جداً- هي تجربة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي طالت كبار الفلاسفة، مثل هايديجر، الذي تم تهميشه بسبب عدم مناهضته للنازية، وقبل أيام المستشار جيرهارد شرودر، وما بينهما من فلاسفة ومفكرين ناهضوا التوجهات الراسمالية والأمركة مثل إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي وباسكال بونيفاس وغيرهم. كانت تلك تجارب صعبة لأشخاص وصلوا إلى القمة، ولذلك تسعى القوى الرأسمالية إلى تهميش المقاومة الذهنية منذ البداية، عبر السيطرة القوية على المؤسسات الداعمة للخط الرأسمالي. وعبر الترفيه، أو الضبط الذهني منذ نعومة الطفولة، تضمن تلك القوى الاستمرارية لمائة عام على الأقل.
يعد اهتمام الدولة بالترفيه؛ تأكيداً على الانخراط في الآيدولوجيا الرأسمالية، والتوجه نحو الفردانية (الحرية الجنسية على وجه الخصوص). ولذلك فتشتيت الانتباه يجب أن بتزامن مع العودة إلى العصر الرومانسي، الذي يؤكد على النزوع العاطفي ورفض الواقعية عبر حرية التعبير عن الذات والإسراف في الخيال. يمكننا فهم ذلك عبر تطبيقات حديثة كبرامج الغناء والمواهب، والخطابة المسرحية والمسابقات.
لكن هل يتوقع أن تنتصر هذه الآيدولوجيا الرأسمالية نصراً حاسماً بكل ذلك الدعم الثقيل لها؟ قال البعض مثل فوكوياما بذلك في نهاية التاريخ، ودعا هنتجتون لمواصلة الصراع وتقليم أظافر كل المؤسسات التقليدية، وهناك مئات المؤلفات التي تدعم ذلك الخط، وتعلن هزيمة النبوءات الماركسية القديمة.
لكن؛ لا أحد يستطيع أن يتنبأ، لأن هناك انعطافات مفصلية في مجرى التاريخ، كالحروب، مثل حرب روسيا ضد أوكرانيا اليوم، وقد تكون هناك انتكاسات تنتج عن تناقضات الآيدولوجيا الرأسمالية، والتي تعانيها بحق بسبب أنه لا يمكن تطبيق كل المبادئ بشكل مطلق، فمصادرة أو التحفظ على أموال الأثرياء الروس، أو معاقبة أشخاص أو مؤسسات على موقفها الداعم لروسيا أو حتى عدم إبدائها لأي موقف مناهض لروسيا، أو التخلص من الضمانات القانونية الحامية لحقوق الإنسان،..الخ. كل ذلك التراجع وغيره يتم في أوروبا وأمريكا الآن، ويثير قلق الكثير من المناصرين الذين كانوا أقل إدراكا لعمق حقائق الأمور، كما يضع الغرب في خانة الدفاع عن هذه الارتدادات، بدلاً عن أن كان في موقع الهجوم.
مع ذلك فإنني أرى أن هناك عوامل تساعد كثيراً على تقدم وسيطرة الآيدولوجيا الرأسمالية لقرن ونصف على الأقل؛ ومن أهمها:
- تعتمد الرأسمالية في الأساس على تطابقها مع الطبيعة الإنسانية المعتمدة على التنافس والأنانية والصراع.
- ذكاء المؤسسات التي تدعم اتخاذ القرار.
- القوة الاقتصادية للرأسمالية.
- النفاذ والنفوذ والانتشار الواسع في مواجهة القوى الكلاسيكية المتأخرة دائماً.
- القوة الإعلامية.
- البداية في الوقت المناسب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى