أ. د. وائل علي السيد - سيميائية الشخصيات الرئيسة في رواية كوتشينه للأديب نشأت المصري

لما كانت دراسة الشخصية الروائية من الأشياء الضرورية للناقد، ولما لها من أهمية في إبراز فكر الكاتب على مستوي المضمون، كما أنها تبرز بصمته الفنية في رسم ملامح الشخصية،فقد رأيت أن أقف على طريقة الكاتب الروائي الأستاذ نشات المصري في رسم ملامح الشخصية وكيف جعلها تعبر عن نفسها داخل النص ومدى نجاحهفي كشف أبعادها.
ويرجع سبب اختياري لرواية " كوتشينه " لما يلي :
أولا : أنها آخر الأعمال المنشورة للكاتب، الصادرة عن دار الهلال، سلسلة روايات الهلال، العدد860،2021م.
ثانيا : أن الكاتب سبقها بنحو مائة كتاب منها عشرة أعمال روائية على الأقل، ومن رواياته السابقة : تاوسرت 2008، بلباي 2016،خاص جدا 2018،دماء جائعة 2019، المهزوز 2019،ملائكة في الجحيم 2020.
ثالثا : تميز إبداعه الأدبيوحصوله على جائزة الدولة التشجيعيةفيالأدب، وجوائز أخرى كثيرة .
وأقصد بسيميائية الشخصية ما تحويه من دلالات وعلامات وأبعاد، تكشف عن رؤيته وتنقل عالمه إلى المتلقين.
وأعني بالشخصيات الرئيسة : تلك الشخصيات التي يختارها الكاتب أو القاص لتقوم بتمثيل الدور الذي أراد تصويره، أو تقوم بالتعبير عن الأفكار والأحاسيس التي قصدها، فهي الشخصية التي تتمحور عليها الأحداث، وتمثّل الفكرة الأساسية التي تسبح حولها الحوادث وهي عبارة عن موقفٍ بطوليٍ فرديٍ والشخصية الرئيسة في أيّ عمل أدبي أو سرد قصصيّ تُجسّد المحور الأساسي والنقطة المركزية، وأمّا الشخصيات الباقية فتكون عوامل مساعدة لها.
انظر:سهام رحالي، إيمان كراري، دراسة بنية الشخصية في رواية ماجدولين، صفحة 16 - 18. بتصرّف
وتلك الشخصيات سبعهي:خليل، مهند، سماح، صفوت، شيماء، رولا، فريدة.
1-خليل:
خليل بطل الرواية وأهم شخصياتها، شاب فقير لم يكمل تعليمه، "فهو إحدى الثمرات غير الناضجة التي سقطت من شجرة العلم في وقت مبكر، كان قد اكتفى بالمرحلة الإعدادية لكراهيته مادتي الحساب والعربي" الرواية ص7
ولقد عُنِى الكاتب برسم ملامح خليل وأبعاد شخصيته منذ بداية السرد، فيذكر أن له قوةًجسدية، وأن ساعديه ممدودان أمامه على الدراجة، إلى آخر تلك الأوصاف التي تميزه وتكشف عن 32 ... ص 7
كما أن والده يمدحه على الرغم منفشله في الدراسة بقوله " طول عمرك رجل، حتى وأنت طفل". ص 8
وعني المصري أيضا برسم البعد النفسي لشخصية خليل فذكر أنه كان يعمل في السَّرجة وكان والده الشيخ عبد الستار هو الداعم الوحيد له دائما، وكان خليل يشعر بالغيرة من أخيهعوض بسبب تمييز أهله له عليه، فكانوا ينادون عوض منذ الصغر بلقب الدكتور.
تمنى خليل أن يسافر إلى القاهرة محاولا تغيير قدره وأن يصل إلي أعلى سلم المال، وقد كان بالفعل عندما سافر مع زوجته سماح إلى القاهرة وبدأ التحول يطرأ على شخصيته من عدة جوانب؛ منها أنه أصبح شخصا يتسم بالأنانية المفرطة التي ظهرت جلية في الخلاف الذي نشأبينه وبين سماح فهو لا ينظر إلا لحاجاته هو فقط، ولا ينظر لما قد يحتاجه الطرف الآخر في شتى الجوانب، تقول سماح :"كم ألمحت له وكم طال تلميحي ولكنه لا يأبه، أو هو يوقن أنه على صواب ويفهم الأصول، وأن على الطرف الثاني الذي هو أنا أن يتبعه". الرواية ص21.
ومن هنا تبدأ الفجوة النفسية وكلمازاد خليل في الثراء سلك طريقا مغايرا ينتحي به إلى الانحطاط الأخلاقي والكبر، وبدأ الانغماسفي شهواته، تزوج من شيماء التي كانت زوجة صديقه، وأهمل زوجته "سماح" وأصبح يعاملها بصورة سيئة، وعندما ملَّ من شيماء تزوج مرة ثالثة، واستمر على هذا الوضع وهو يرى أنه لابد من تعدد العلاقات عند مَن لديه مال كثير.
وينتهي الحالبخليل بانفصاله عن سماح برغبة منه غير مبالبأي شيء غير نفسه، "وقد أثبتت الأيام أن مراكز الاستقبال العاطفي عنده ضعيفة " ص 126
2-سماح:
فتاة عنيدة، جميلة ذات عينين خضراوين، مثقفة تحب القراءة"لم يكن خليل مبالغا حين وصف سماح بالعناد" الرواية ص7 ، ويكرر ذلك أيضا بقوله : "قرأ الشيخ في عينيها الخضراوين عجزها عن الكلام " ص10
ابنة خالة خليل وكانت دائما تسعى إلى أن تصبح في مكانة مادية وعلمية أفضل، تزوجت من خليل ساعية للتخلص من فقرها ولكن لم تكن تدري كم المتاعب التي ستجدها في حياتها من صراعات نفسية ستمر بها ومعاناة وآلام، بداية من الصراع من إهمال زوجها وبداية من تفكيرها في شخص آخر لا تعلم عنه أي شيء غير أنه أنقذها من الغرق، "مرة أخري لماذا لم أسألهعن اسمه ولماذا أسأله" ص18
وتبدأ في اختلاق الأعذاروالمبررات لنفسها لكي تقنع نفسها أنها على صواب، وهي حيلة لجأت إليها البطلة لتتخلص من الشعور بالذنب تجاه زوجها خليل، "إن خليل نفسه ليس بريئا"ص19
لم تقف المشكلة عند هذه النقطةفحسب، بل زادت حدتها عند ظهور صفوت وهو رجل ظهر في حياة سماح صدفة عندما قابلته في النادي، وبدأت مرحلة أخرى في حياة سماح، وكلما اقتربت من صفوت زاد الخلاف بينها وبين خليل بسبب عقد المقارنات بين خليل وصفوت حبيبها الجديد، وعندما زاد الخلاف بين خليل وسماح بدأ يتعمد الضغط النفسي عليها من خلال عدم تلبيته رغباتها عندما تطلبه، "هو يقتلها كل يوم بالإهانة الخفية"ص20
تنموأحداث الرواية وتغلغل رغبة الانفصال في نفس سماح، ولكن كانت تنتظر أن يبدأهاصفوت لطلب الزواج منها، ولكن كانت الصدمة الكبرى عندمافوجئتبزواج صفوت بأخرى، وهنا يتضح عدم نضج تفكير سماح واندفاعها نحو المجهول محاولة أن تخلق لنفسها دائرة من الأمان النفسي غير مكترثة بأن تصلح بيتها مما أدى إلى هدمه، ولقد اعترفت سماح أنها كانت على خطأ، "لم أكن أعلم أنني غبية إلى هذا الحد"ص175 ، وينتهي تشتت سماح بانفصالها عن خليل وزواجها من رجل آخر.
3-صفوت:
رجل مجتهد دائما كان يحب الهدوء والموسيقى وبالأخص العزف علي الكمان، عاش حياة مستقرة لفترة وجيزة حتي موت ابنه وليد الذي عاش طيلة حياته يحمل ذنب موته، رحل وليد بسبب حادث لم يكن يقصد صفوت أن يعود بالسيارة فيصطدمبصغيرهوليد، بدأ التغير في حياة صفوت عندما قابل عائلة خليل في النادي بمحض الصدفة وبدأ اهتمام سماح يظهر بشكل كبير، تدخل الكاتب بوصف صفوت ومقارنته بخليل زوج سماح قال: "هو أطول من زوجها خليل وأنحل، نظارته كأنه وُلِد بها،شعرهكثيف كأنه يخفي فيه شيئاثمينا، كما أن أنفه مدبب كأنف خليل" ص29
يتضح أن ضغط شيماء زوجته والضغط الذي دائما ما كان يمارسه هو نفسهعلى نفسه إثر موت وليد كان لهما أثرا كبيرافي كثير من المشكلات الصحية والنفسية التي مر بها صفوت مثل التوتر الزائد وازدحام الأفكار ونسيانه أسماء الأشخاص، يقول : "قال لي صديقي الذي نسيت اسمه" ص34
وفي كل هذه الأحوال المحيطة يتضح بعض السمات الشخصية لصفوت ومنها أنه شخصيةعابثة ويظهر ذلك من علاقته بنجاة أخت صديقة شيماء والتي سعت في الكثير من المرات أن تربطها بصفوت علاقة جدية، "أنا رتبت كل شيء عليك أن تبدأ"ص60
ولكن تملص من علاقته رغم تعلقها به نتيجة تقربه منها وإخبارها أنه يحبها ويريدها، وعلاقته بنجاة كانت تسير بالتوازي مع علاقته بسماح، تنتهي علاقته بنجاة عندما أخبرته أن هناك من يريد أن يتقدم لها وصدمت بالرد أنه مناسب لها"الدكتور وفيق شاب رائع".
وفي خضم كل هذه الأحداث يفكر صفوت بالانتحار هربا من واقعه الأليم بعد اكتشاف زواج شيماء من خليل وأنه فقد كل شيء ابنه وزوجته وبنتيه اللتين كانتا فيصف والدتهما
تتوالى الأحداث مع صفوت وتنتهي علاقته بسماح أيضا عندما تزوج من ناريمان؛ ليبدأ صفحة جديدة من حياته غير مكترث بما مر أحداث.
4-شيماء:
من أصل فقير عاشت في عائلة متواضعة من شُبرا، هي وأخواتها ثلاثة حصلوا على مستوى عالٍمن التعليم فهي مهندسة وأختها تعمل في ليبيا تتسم بالجمال إلى حد ما كما وصفها الكاتب، وقد رسم الكاتب البعد الجسدي لشيماء بعناية، "فملامح وجهها المستدير محددة جدا تنطق بما يطهوه عقلها، أنفها الأفطس، يشي بقدرة خاصة على شم النسيم والأخبار معا،وشفتاها غليظتانتستجيبان للمط والانكماش، ويطل من عينيها العسليتين شيء من العجب".ص 28، ويقول أيضا : " شيماء بدينة" ص29
أما البعد الاجتماعي لشيماءفيظهر في كونها تعيش على خلاف دائم مع صفوت لأنها تحمله مسئولية موت وليد ابنهما بسبب إهماله وعدم تركيزه وتصف مدي ألمها التي تمر به في قولها، "ذبحتني الحياة بلا رحمة حينما قتل صفوت ابننا الجميل" ص41، وهنا وصف للبعد النفسي لشخصيتها أيضا.
كما سلكت شيماء منحنى التبرير لنفسها والنظر إلى خليل وحاله ومقارنته بزوجها صفوت فهي تقول:"إن خليل يكسب في الصفقة الواحدة أضعاف ما يربحه صفوت في سنوات"، وهذا ما جعلها تعجب بخليل، وتستمر في خيانة زوجها معه وتبث إليه شكواها من زوجها صفوت وعدم اهتمامه بها، تقول : " "الشيء نفسه عندي يا خليل، بل إن صفوت يهتم بالكمان أكثر مني" ص62
تستمر علاقة شيماء مع خليل وتنتهي علاقتها بصفوت عندما يكشف خيانتها وتنفصل عن زوجها وتتزوج من خليل الذي تعيش معه الحياة التي تتمناها، ولكن لا تصفو الحياة لها دائما بل تصير كدرا عندما تتغير معاملة خليل معها واكتشافها بخيانته، ولكن تستمر في العيش معه لأنها تعطي المال الأولوية دائما فهي شخصية مادية من الدرجة الأولي.
نستطيع في النهاية أن نقول إن الكاتب نشأت المصري نجح في رسم أبعاد شخصياته الرئيسة في روايته كوتشينه، مما جعلنا نقترب منها ونتعايش معها ومع أحداثها وواقعها.

أ. د. وائل علي السيد
أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية –جامعة عين شمس



1654422135753.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى