التّفكيرُ، مصدر فعل "فكَّرَ". و عندما نقول : "فكَّرَ فلانٌ"، معناه أن هذا الشخصُ مارس نشاطاً ذِهنيا. و عندما نقول : "فكَّرَ فلانٌ في الشيء أو في الأمر"، معناه أن هذا الشخصَ تفكَّرَ في هذا الشيء أو في هذا الأمر و تأمَّلَه بل و استعمل عقلَه أو نشاطَه الفكري لينتقلَ من ما يعرفه إلى ما لا يعرفه. و بكيفية أخرى، التَّفكيرُ عبارة عن نشاطٍ فكري المقصود منه هو الوصول إلى نتيجة ما أو لإيجاد حلٍّ لمشكلة ما أو لاتِّخاذ قرار. و استعمال العقل من أجل التَّفكير هو الذي يميِّز البشرَ عن سائر المخلوقات. و استعمال العقل للتَّفكير في الأشياء و الأمور و الأوضاع و الحيثيات و إيجاد الحلول و اتخاذ القرارات…، يتطلَّبُ شيئا من الذكاء. و الذكاء يتطلَّبُ من الذي يفكِّر أن يتحلَّى بصفات الفضول و التَّفتُّح و الفطنة و الدقة في التَّمعُّن و الملاحظة…
و عليه، فإن الاإنسانَ العاقلَ لا يمكن أن يخطوَ خطوةً في حياته اليومية دون أن يشغِّلَ عقلَه، أو بعبارة أخرى، دون أن يشغِّلَ تفكيرَه. فهذا التَّفكير هو الذي يرسم الطريقَ للإنسان العاقل سلوكا، تصرُّفا و عملا سواءً بقي هذا الإنسانُ ملازما مكانَه أو تحرك من مكانٍ إلى آخر. فكل السلوكات التي يُظهرها الإنسانُ العاقل أو التصرفات و الأعمال التي يقوم بها هذا الإنسانُ يسبقها تفكيرٌ أو نشاطٌ ذهني.
السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل التَّفكيرُ الذي يتميَّزُ به الإنسانُ العاقل Homo Sapiens يكون، دائما و في جميع الأحوال، ناجعا، أي يمكِّن من الوصول إلى نتيجة فيها نفعٌ أو إلى إيجاد حلول للمشكلات أو إلى اتخاذ القرارات؟ أو بعبارة أخرى، هل الإنسانُ العاقل عندما يقوم من النَّوم صباحاً إلى أن يعود للنوم ليلا، يكون تفكيرُه دائما تفكيرا منتِجا؟ و التفكير المنتِج هو التفكير الذي يأتي بالجديد سواء في مجال الفكر و المعرفة أو في مجال العمل.
و للمزيد من التَّوضيح، يمكن القولُ بأن التفكيرَ نوعان. نوع غير منتج يمارسه الإنسانُ العاقل من الصباح إلى المساء دون أن يُتوَّج بجديد. فهو تفكيرٌ روتيني أو ميكانيكي. و نوع ثاني يُتوَّج دائما بجديد، فهو تفكير مُنتِج أو ناجع. و إذا كان لهذين النوعين من التفكير مصدر واحد و هو العقل، فإنهما يختلفان من حيث الممارسة.
النوع الأول تكاد تكون ممارستُه تلقائيةً، أي لا تحتاج إلى تروٍّ و تمعُّن و تبصُّر و تأمُّل و تركيز… لأن ما ينتُج عنه من سلوك و تصرُّفات و أعمال يتكرَّر على نفس النَّمط إلى ما لا نهاية. و الأمثلة في هذا الصدد كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي :
1.الشخص الذي يذهب إلى السوق، فتفكيرُه هو الذي يقوده لهذا السوق و تفكيره هو الذي يجعله يبحث عن أحسن المُشتريات جودةً و أرخصها ثمناً. وهذا التَّصرُّف يتكرَّر كل يوم بنفس الطريقة و على نفس النَّمط، يمعنى أن هذا التَّفكيرَلا يأتي بجديد في الحياة اليومية لهذا الشخص. و حتى إن ارتفعت الأسعارُ، فالتَّفكير يدفع هذا الشخصَ للاستغناء عن بعض المشتريات أوفي أحسن الأحوال، النقص من كِمِّيتها. و حتى هذا التَّصرُّفُ، فإنه يتكرَّر كلما ارتفعت الأسعار. و بحُكم تكرار هذا التَّصرف أو ذاك، فإن التنفكير الذي يقود إليهما تفكير روتيني أو نمطي.
2.التاجر بالتَّقسيط الذي يذهب إلى دكانه لممارسة التِّجارةَ بتفكير روتيني غير منتج قد لا يفلح في تجارته إذا لم يُدخِل الجديد على ممارسته و خصوصا إذا كان يركِّز تجارتَه على نفس السِّلع و إذا كان يُهمل تزيينَ دكانه و لا يُغيِّر هذا التزيينَ من حين لآخرلجَلبِ الزبناء…
3.المدرس الذي يُلقي دروسَه بنفس الطريقة وعلى نفس النمط البيداغوجي و لا يحاول أن يغيِّرَ، من حين لآخر، تدخلاتِه شكلا و مضمونا داخلَ القسم، فإن تفكيرَه التربوي جامدٌ، بمعنى أنه روتيني و لا يأتي بجديد. و هذا الوضع ليس في صالح المتعلِّمين الذين هم في حاجة لمَن يحفِّزهم و يجلب اهتمامَهم. و التَّحفيز و جلب الاهتمام لا يأتييان إلا عن طريق تجديد و تنويع الطرائق البيداغوجية و تدخلات المدرس داخلَ القسم. فإذا كان هذا التَّصرف مُرضياً للمدرس الذي لا يريد أن يُتعِبَ تفكيره للخروج من الرتابة البيداغوجية، فإنه مسيءٌ لبناء شخصية المتعلِّمين.
4.الموظف الذي يؤدِّي وظيفتَه بتكرار نفس السلوكات و الأعمال يوميا و على امتداد سنوات، فإنه يجمِّد تفكيرَه، و بالتالي، فإن أداءَه لن يتطوَّر. فهذا الوضعُ ليس في صالح هذا الموظف و لا في صالح المُرتفقين. بل إن تفكيرَ هذا الموظف ينحصر في اعتبار الوظيفة مجرَّد مصدر لراتبٍ شهري لا يتناسب مع أدائه لهذه الوظيفة. و ما تجب الإشارةُ إليه هو أن هذا النوعَ من الموظفين منتشرٌ في الإدارات العمومية و يسيء لعلاقة المرتفقين بهذه الإدارات. و قد يتسبَّبُ هذا التَّفكيرُ الإرادي المحدود في دخول هؤلاء الموظفين في دوَّامة من الكسل الذي يعطِّل التفكيرَ المنتِجَ.
5. و من أخطر الممتهنين للتفكير الروتيني، فئة بعض السياسيين (قيادي، برلماني، مستشار جماعي…). و الخطورة تكمن هنا في كون التفكير الروتيني متعمَّدا، أي تتم ممارستُه عن طواعية لقضاء مآرب حزبية ضيقة أو شخصية. و تزداد الخطورةُ حجما عندما يكون السياسيون مثقفين، أي مُدركين لواجباتهم و واعين كل الوعي بما ينتظره منهم مَن أوصلهم إلى مختلف مراكز السلطة. تفكير هؤلاء السياسيين ينحصرعمداً في اعتبار وضعهم السياسي مجرد فرصة لاستغلال نفوذهم من أجل الاستفادة من الريع و الاغتناء السريع و الصفقات الدسِمة و كل ما من شأنه أن يُقوِّيَ نفوذهم و سيطرتَهم على الغير… و الائحة طويلة.
أما النوع الثاني من التفكير، أي التفكير المنتِج أو الناجع، فإن مَن يتحلَّون به لا يجوبون الشوارعَ و الأزقةَ و الفضاءاتِ العموميةَ كما هو الشأنُ لأصحاب التفكير الروتيني. إنهم يقومون بهذا النوع من التَّفكير بتروٍّ و تمغُّن و تبصُّر و تأمل و تركيز. و قد نجد في هذه الفئة الأشخاصَ الذين سبقت الإشارةُ إليهم في النوع الأول من التفكير، أي الشخص الذي يذهب إلى السوق و التاجر بالتَّقسيط و المدرس و الموظف و السياسي…عندما يكون تفكيرهم تفكيراً منتجا و ناجعا. غير أن النوعَ الثاني من التفكير يكون مُمارساً، في غالب الأحيان، من طرف المفكرين و المثقفين و الياحثين. فكل ما يُنتجونه من أفكار و أساليب و أطروحات و نظريات و مساطر و سياقات… يُعتبر إضافةً للتراث المعرفي المشترك بين البشر. إضافة منها ما هو علمي و ما هو نظري و ما هو تطبيقي و ما هو ثقافي و ما هو أدبي و ما هو سياسي و ما هو إنساني و ما هو اقتصادي و ما هو صناعي و ما هو إنتاجي و ما هو تكنولوجي… فكل تفكير منتجٍ أو ناجعٍ يتكلل عادةً بإضافات لما هو موجود، و بالتالي، يسير بالركب المعرفي و الحضاري إلى الأمام. هذا هو التَّفكير المنتِج أو الناجع. تفكير يكون دائما متوَّجاً بإنتاج معارف نظرية تُضاف إلى الرصيد المعرفي الكوني أو معارف قابلة للتَّطبيق على أرض الواقع تترتَّب عنها تغييراتٌ في وجه الحياة اليومية
بعد هذين التوضيحين المخصصين للنوعين الأول و الثاني من التفكير، سأرجع إلى عنوان هذا المقال الذي هو: "التفكير بين الهدر و الفعالية". و عندما أتحدث عن "الهدر" في التفكير، فهذا يعني أن التفكيرَ الروتيني فيه ضياعٌ كبيرٌ يذهب هبأً منثورا و خصوصا عندما يُمارس هذا النوع من التفكير، أي التفكير الروتيني، من طرف أغلبية ساحقة من الناس. و هذا يعني أن فئةً عريضة من الناس لا تساهم في سيرِ و تطوُّر الركب المعرفي و الحضاري. و بحُكم انتشار هذا النوع من التفكير، فإننا نجده متجدِّراً، تقريبا، في جميع مرافق الحياة اليومية من إدارة و سياسة واقتصاد و تعليم و صحة و صناعة…
و ما لا يعير له الناس الاهتمامَ الكافي، هو أن التفكيرَ الروتيني يشكٍّل عائقاً أو عقبةً تحول دون التنمية بجميع أشكالها و ذلك بحُكم أن الهدرَ، المشار إليه أعلاه، يتسبَّبُ في ضياعِ الوقت و الجُهد الفكري الذي كان، من المفترض، أن يُفرزَ إضافاتٍ فيها منفعةٌ للجميع. و هنا، لا بد من التذكير أن أيَّ شخص، بغض النظر عن أدائه للضرائب، إذا لم يساهم في التَّنمية بتفكيره و سلوكه و عمله، فقد يُعدُّ عالةً على المجتمع.
و قبل أن أختمَ هذه المقالة، أريد أن أوضِّحَ أن انتشارَ التفكير الروتيني ليس من مسئولية مَن يمارسونه، في غالب الأحيان، بعفوية. المسئولية تقع على عاتق المنظومة التربوية التي تُهمل، إلى حدٍّ كبير، تعَلُّمَ الفكر النقدي. كما أن جزأً من هذه المسئولية يقع على عاتق الأحزاب التي لا تعيرُ لهذا الفكر النقدي ما يستحق من اهتمام من خلال تأطير الناس تأطيرا مفيدا. لقد صدق مَن قال : innover ou disparaître أي : "من أجل البقاء، لا مفرَّ من الابتكار و التَّجديد"
و عليه، فإن الاإنسانَ العاقلَ لا يمكن أن يخطوَ خطوةً في حياته اليومية دون أن يشغِّلَ عقلَه، أو بعبارة أخرى، دون أن يشغِّلَ تفكيرَه. فهذا التَّفكير هو الذي يرسم الطريقَ للإنسان العاقل سلوكا، تصرُّفا و عملا سواءً بقي هذا الإنسانُ ملازما مكانَه أو تحرك من مكانٍ إلى آخر. فكل السلوكات التي يُظهرها الإنسانُ العاقل أو التصرفات و الأعمال التي يقوم بها هذا الإنسانُ يسبقها تفكيرٌ أو نشاطٌ ذهني.
السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل التَّفكيرُ الذي يتميَّزُ به الإنسانُ العاقل Homo Sapiens يكون، دائما و في جميع الأحوال، ناجعا، أي يمكِّن من الوصول إلى نتيجة فيها نفعٌ أو إلى إيجاد حلول للمشكلات أو إلى اتخاذ القرارات؟ أو بعبارة أخرى، هل الإنسانُ العاقل عندما يقوم من النَّوم صباحاً إلى أن يعود للنوم ليلا، يكون تفكيرُه دائما تفكيرا منتِجا؟ و التفكير المنتِج هو التفكير الذي يأتي بالجديد سواء في مجال الفكر و المعرفة أو في مجال العمل.
و للمزيد من التَّوضيح، يمكن القولُ بأن التفكيرَ نوعان. نوع غير منتج يمارسه الإنسانُ العاقل من الصباح إلى المساء دون أن يُتوَّج بجديد. فهو تفكيرٌ روتيني أو ميكانيكي. و نوع ثاني يُتوَّج دائما بجديد، فهو تفكير مُنتِج أو ناجع. و إذا كان لهذين النوعين من التفكير مصدر واحد و هو العقل، فإنهما يختلفان من حيث الممارسة.
النوع الأول تكاد تكون ممارستُه تلقائيةً، أي لا تحتاج إلى تروٍّ و تمعُّن و تبصُّر و تأمُّل و تركيز… لأن ما ينتُج عنه من سلوك و تصرُّفات و أعمال يتكرَّر على نفس النَّمط إلى ما لا نهاية. و الأمثلة في هذا الصدد كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي :
1.الشخص الذي يذهب إلى السوق، فتفكيرُه هو الذي يقوده لهذا السوق و تفكيره هو الذي يجعله يبحث عن أحسن المُشتريات جودةً و أرخصها ثمناً. وهذا التَّصرُّف يتكرَّر كل يوم بنفس الطريقة و على نفس النَّمط، يمعنى أن هذا التَّفكيرَلا يأتي بجديد في الحياة اليومية لهذا الشخص. و حتى إن ارتفعت الأسعارُ، فالتَّفكير يدفع هذا الشخصَ للاستغناء عن بعض المشتريات أوفي أحسن الأحوال، النقص من كِمِّيتها. و حتى هذا التَّصرُّفُ، فإنه يتكرَّر كلما ارتفعت الأسعار. و بحُكم تكرار هذا التَّصرف أو ذاك، فإن التنفكير الذي يقود إليهما تفكير روتيني أو نمطي.
2.التاجر بالتَّقسيط الذي يذهب إلى دكانه لممارسة التِّجارةَ بتفكير روتيني غير منتج قد لا يفلح في تجارته إذا لم يُدخِل الجديد على ممارسته و خصوصا إذا كان يركِّز تجارتَه على نفس السِّلع و إذا كان يُهمل تزيينَ دكانه و لا يُغيِّر هذا التزيينَ من حين لآخرلجَلبِ الزبناء…
3.المدرس الذي يُلقي دروسَه بنفس الطريقة وعلى نفس النمط البيداغوجي و لا يحاول أن يغيِّرَ، من حين لآخر، تدخلاتِه شكلا و مضمونا داخلَ القسم، فإن تفكيرَه التربوي جامدٌ، بمعنى أنه روتيني و لا يأتي بجديد. و هذا الوضع ليس في صالح المتعلِّمين الذين هم في حاجة لمَن يحفِّزهم و يجلب اهتمامَهم. و التَّحفيز و جلب الاهتمام لا يأتييان إلا عن طريق تجديد و تنويع الطرائق البيداغوجية و تدخلات المدرس داخلَ القسم. فإذا كان هذا التَّصرف مُرضياً للمدرس الذي لا يريد أن يُتعِبَ تفكيره للخروج من الرتابة البيداغوجية، فإنه مسيءٌ لبناء شخصية المتعلِّمين.
4.الموظف الذي يؤدِّي وظيفتَه بتكرار نفس السلوكات و الأعمال يوميا و على امتداد سنوات، فإنه يجمِّد تفكيرَه، و بالتالي، فإن أداءَه لن يتطوَّر. فهذا الوضعُ ليس في صالح هذا الموظف و لا في صالح المُرتفقين. بل إن تفكيرَ هذا الموظف ينحصر في اعتبار الوظيفة مجرَّد مصدر لراتبٍ شهري لا يتناسب مع أدائه لهذه الوظيفة. و ما تجب الإشارةُ إليه هو أن هذا النوعَ من الموظفين منتشرٌ في الإدارات العمومية و يسيء لعلاقة المرتفقين بهذه الإدارات. و قد يتسبَّبُ هذا التَّفكيرُ الإرادي المحدود في دخول هؤلاء الموظفين في دوَّامة من الكسل الذي يعطِّل التفكيرَ المنتِجَ.
5. و من أخطر الممتهنين للتفكير الروتيني، فئة بعض السياسيين (قيادي، برلماني، مستشار جماعي…). و الخطورة تكمن هنا في كون التفكير الروتيني متعمَّدا، أي تتم ممارستُه عن طواعية لقضاء مآرب حزبية ضيقة أو شخصية. و تزداد الخطورةُ حجما عندما يكون السياسيون مثقفين، أي مُدركين لواجباتهم و واعين كل الوعي بما ينتظره منهم مَن أوصلهم إلى مختلف مراكز السلطة. تفكير هؤلاء السياسيين ينحصرعمداً في اعتبار وضعهم السياسي مجرد فرصة لاستغلال نفوذهم من أجل الاستفادة من الريع و الاغتناء السريع و الصفقات الدسِمة و كل ما من شأنه أن يُقوِّيَ نفوذهم و سيطرتَهم على الغير… و الائحة طويلة.
أما النوع الثاني من التفكير، أي التفكير المنتِج أو الناجع، فإن مَن يتحلَّون به لا يجوبون الشوارعَ و الأزقةَ و الفضاءاتِ العموميةَ كما هو الشأنُ لأصحاب التفكير الروتيني. إنهم يقومون بهذا النوع من التَّفكير بتروٍّ و تمغُّن و تبصُّر و تأمل و تركيز. و قد نجد في هذه الفئة الأشخاصَ الذين سبقت الإشارةُ إليهم في النوع الأول من التفكير، أي الشخص الذي يذهب إلى السوق و التاجر بالتَّقسيط و المدرس و الموظف و السياسي…عندما يكون تفكيرهم تفكيراً منتجا و ناجعا. غير أن النوعَ الثاني من التفكير يكون مُمارساً، في غالب الأحيان، من طرف المفكرين و المثقفين و الياحثين. فكل ما يُنتجونه من أفكار و أساليب و أطروحات و نظريات و مساطر و سياقات… يُعتبر إضافةً للتراث المعرفي المشترك بين البشر. إضافة منها ما هو علمي و ما هو نظري و ما هو تطبيقي و ما هو ثقافي و ما هو أدبي و ما هو سياسي و ما هو إنساني و ما هو اقتصادي و ما هو صناعي و ما هو إنتاجي و ما هو تكنولوجي… فكل تفكير منتجٍ أو ناجعٍ يتكلل عادةً بإضافات لما هو موجود، و بالتالي، يسير بالركب المعرفي و الحضاري إلى الأمام. هذا هو التَّفكير المنتِج أو الناجع. تفكير يكون دائما متوَّجاً بإنتاج معارف نظرية تُضاف إلى الرصيد المعرفي الكوني أو معارف قابلة للتَّطبيق على أرض الواقع تترتَّب عنها تغييراتٌ في وجه الحياة اليومية
بعد هذين التوضيحين المخصصين للنوعين الأول و الثاني من التفكير، سأرجع إلى عنوان هذا المقال الذي هو: "التفكير بين الهدر و الفعالية". و عندما أتحدث عن "الهدر" في التفكير، فهذا يعني أن التفكيرَ الروتيني فيه ضياعٌ كبيرٌ يذهب هبأً منثورا و خصوصا عندما يُمارس هذا النوع من التفكير، أي التفكير الروتيني، من طرف أغلبية ساحقة من الناس. و هذا يعني أن فئةً عريضة من الناس لا تساهم في سيرِ و تطوُّر الركب المعرفي و الحضاري. و بحُكم انتشار هذا النوع من التفكير، فإننا نجده متجدِّراً، تقريبا، في جميع مرافق الحياة اليومية من إدارة و سياسة واقتصاد و تعليم و صحة و صناعة…
و ما لا يعير له الناس الاهتمامَ الكافي، هو أن التفكيرَ الروتيني يشكٍّل عائقاً أو عقبةً تحول دون التنمية بجميع أشكالها و ذلك بحُكم أن الهدرَ، المشار إليه أعلاه، يتسبَّبُ في ضياعِ الوقت و الجُهد الفكري الذي كان، من المفترض، أن يُفرزَ إضافاتٍ فيها منفعةٌ للجميع. و هنا، لا بد من التذكير أن أيَّ شخص، بغض النظر عن أدائه للضرائب، إذا لم يساهم في التَّنمية بتفكيره و سلوكه و عمله، فقد يُعدُّ عالةً على المجتمع.
و قبل أن أختمَ هذه المقالة، أريد أن أوضِّحَ أن انتشارَ التفكير الروتيني ليس من مسئولية مَن يمارسونه، في غالب الأحيان، بعفوية. المسئولية تقع على عاتق المنظومة التربوية التي تُهمل، إلى حدٍّ كبير، تعَلُّمَ الفكر النقدي. كما أن جزأً من هذه المسئولية يقع على عاتق الأحزاب التي لا تعيرُ لهذا الفكر النقدي ما يستحق من اهتمام من خلال تأطير الناس تأطيرا مفيدا. لقد صدق مَن قال : innover ou disparaître أي : "من أجل البقاء، لا مفرَّ من الابتكار و التَّجديد"