د. أحمد الحطاب - حينما يتم تفكيك مفهوم الصالح العام

منطقيا و أخلاقيا، مفهوم الصالح العام غير قابل للقسمة بمعنى أنه كل متكامل لا يقبل التجزئ من حيث المبدأ. إما أن يكون و إما أن لا يكون.

و حينما نتحدث عن الصالح العام، فإن هذا الأخير يمكن اختصارُه في "كل ما فيه نفعٌ للجميع". غير أن النفعَ لا تمطرُه السماء. بل يجب بناؤه بكيفية متكاملة، و في نهاية المطاف، عبارة عن مجموع المصالح الفردية المشروعة، المُستحقة و المتداخلة فيما بينها. و الصالحُ العام لا يقترن فقط و حصريا بالحصول على المنافع (الحقوق). إنه يقترن كذلك، و بكيفيةٍ وثيقة، بأداء الواجبات. و عليه، عندما ننتحدَّثُ عن الصالح العام، فإن المنافعَ تتجاوز مستوى الأفراد لتطالَ الجماعات و لتصلَ إلى المستوى الوطني.

غير أن الصالح العام لا يمكن أن يكون ناجعا و مفيدا للجميع إلا إذا أدى كل فرد منا ما عليه من واجبات ليستحق ما يطمح إليه من حقوق. فعندما نؤدي مثلا الضرائب، فهذا واجب من الواجبات. و عندما تُسْتَعْمَلُ هذه الضرائب مثلا لبناء مستشفى، فهذا حق من الحقوق. و عندما يُحْتَرَمُ قانون السير، فهذا واجب من الواجبات يترتَّب عنه حق من الحقوق ألا و هو حماية الأرواح. و عندما يُحْتَرَمُ عدم التدخين في الأماكن العمومية، فهذا واجب من الواجبات يترتَّب عنه حق من الحقوق ألا و هو الحفاظ على الصحة...

و هكذا، فإن الواجبات و الحقوق مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا إذ لا يمكن، على الإطلاق، أن نتحدث عن الواجبات في معزل عن الحقوق و العكس و كلاهما يصُبَّان في الصالح العام الذي بدوره يندرج في المواطنة.

و هذا التوضيح يجرنا إلى القول بأنه ليس من العدل و ليس من الإنصاف أن يتمَّ أداء الواجبات دون التَّمتُّع بالحقوق أو أن يتمَّ التمتُّع بالحقوق دون أداء الواجبات. و هنا بيت القصيد! بل إن أداء الواجبات دون التمتُّع بالحقوق و التمتُّع بالحقوق دون أداء الواجبات هما العاملان الأساسيان اللذان يُفْرٍغان مفهوم "الصالح العام" من محتواه بل هما اللذان يؤديان إلى تفكيكه تفكيكا يخدم فقط المصالح الشخصية.

و هذا هو ما نلاحظه في أيامنا هذه إذ أن مفهوم الصالح العام لم يعد قادرا على الصمود أمام جشع بعض البشر حيث تمَّ تفْكيكُه، و بكل وقاحة، إلى مصالح فردية لكن مصالح غير مشروعة و غير مُستحقة.

و المُفَكِّكون أنواع و أصناف و أمهرُهم هم أولائك الذين يمتهنون السياسة، سياسةٌ مفصَّلة و مَصوغة على المقاس حيث أن وسائل تفكيكهم لهذا الصالح العام هي الأخرى متنوِّعة و ماكرة و أحيانا من الدهاء بمكان.

فمن بين هذه الوسائل و على سبيل المثال، الزبونية و المحسوبية و الحربائية و سرعة تغيير الوجوه و قدرة خارقة على التكيُّف مع الأوضاع و الظروف و شراء الضمائر و إتقان الكلام المعسول و الصلاة بالمساجد في الصف الأول و قدرة هائلة على شَمِّ المال أينما وُجِد و القدرة على التنويم بدون مغناطيس و القدرة على تحويل المستحيل إلى ممكن و القدرة على الالتفاف على القانون و يعرفون كيف يختارون فرائسهم، الخ.

و أخطر ما في الأمر أن مُفَكِّكي الصالح العام يوجدون في كل مكان و تزداد خطورتُهم عندما يصِلون (و قد وصلوا و بامتياز و أحيانا بطرق ملتوية) إلى مراكز القرار من جماعات ترابية و إدارة و مرافق حكومية و عمومية و برلمان و مؤسسات عمومية، الخ.

و في الختام، لا يسعني إلا أن أقول : "إن السياسة و الذين يمتهنونها خارج إطارها النبيل، هم مصدر مصائب هذه البلاد السعيدة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى