تَشْخَصُ عُيُونَنَا فِي رَهْبَةٍ وَخَوْفٍ؛ لِنتَابعَ حَرَكَات سَيّدنَا الشَيْخ عَلِي نُوفَل السَرِيعَة والمُتَلاحِقَة، مِنْ تَحْتِ إِلَى تَحْتِ، ولا نَجْرُؤْ عَلَى تَدقيقِ النَظَر نَاحِية وَجْهِهِ، مِنْ بَعيدٍ نَرْقُبُ عَصَاهُ الجَرِيد ــــ الطَوِيلَة، والمَلفُوقة مُقدمَتُهَا ــــ حَتَّى نَتَفًادَى ضَرَبَاتُهَا المُوجِعة فَوْقَ رُؤُوسِنَا، حِينَ يَلْمِحُنَا نَهِمُّ بِاللّعِبِ وَنَنْشَغِلُ عَنْ حِفْظِ الرَّاِتِب اليَّوْمِي الجَدِيدِ الّذِي يُحَدّده لكلّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ سِوَرِ القُرآنِ، مَتَى جَاءَ دَوْرُهُ أَمَامَ الشَيْخِ؛ لِيُسَّمِعَ لَنَا رَاتِبَ الأَمْسِ، نَرَى يَدَهُ تَرْتَفِعُ فِي الهَوَاءِ، ويُطَوِّحُ العَصَا عَالِيًا، وَعَلَى طُولِ يَدِهِ، وَفِي كُلِّ الاتِجَاهَاتِ، يَجْلِسُ سَيّدَنَا جَلْسَتَهُ التَارِيخِية فِي هَيْبَةٍ وَوَقَارٍ عَلَى المَصْطَبَةِ وَأَمَامَ دَارِهِ، وَنَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْهِ ــــ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ ـــــ مُتربِّعِي اليَدَيْنِ عَلَى الحَصِيرِ، نقرأُ كأنّنَا خلية نحل تعملُ، وحين نسمعُ صوت فرقعة العصا التي نحفظُهَا عن ظهر قلب، سريعًا تميلُ حركة رؤوسنا برقبتنا وبظهرنا، وتزيدُ انحناءة رؤوسنا للأمام وللخلف بحركاتٍ آلية مُتتالية، وتعلو همهمة أصوات أفواهنا؛ لنردّدَ آيات السور القصيرة، تتلفتُ عيوننا يمينًا ويسارًا، نُتابعُ ترديد القراءة بصوتٍ جماعي مُوحّد ومُنغّم، وراء عَرِيّفِ الكُتَّابِ بأذنٍ واحدةٍ، وكانت الأذنُ الثانيةُ تُحلّقُ هناك بعيدًا فوق سطح الدور القريبة، وتطيرُ مع نسمة العصر الطرية؛ لعلها تلتقطُ أول كلمات آذان العصر التي يُردّدُها الشيخ حمزة البدوي مُؤذن الجامع الكبير بقريتنا الطيبة.
ومع أول جملة: الله أكبر ... الله أكبر، التي يرفعُهَا الشيخ حمزة من فوق مئذنة الجامع الكبير.
نسمعُ كلمة سيدنا الشيخ: انصرااااااااااااف.
يعلو صوتُ الصغارِ في كلمةٍ واحدةٍ، وهم يعزفون لحنَ الإفراجِ: هيييييييه
ويُضيفُ سيدنا مُؤكدًا: صلاة العصر نصف ساعة، ومَنْ يتأخرُ الفلقة موجودة!
ويبدأ الأولاد الصغار يُثيرون عَاصِفةَ العَفَارِ في صخبٍ وهرجٍ شديدين، وهم يهرولون ناحية الجامع الكبير.
وراح صوتُ سيدنا يضيعُ وسط شبورة التراب وصرخات الصغار فرحين بالانصراف.
وكل ولد يخطفُ نعله بيده ــــ إن كان أصلا يلبسُ نعلا، وكان معظمُ العيالِ حُفَاةً ـــــ وطيران على ميضة الجامع الكبير، نتسابقُ ونتنافسُ على الوضوء، ومتى يَجِدُ العَرِيّفُ أن مياهَ الحنفيات ضعيفةٌ وشحيحةٌ، يَهِزُّ العَرِيّفُ رأسَهُ، فيتطوعُ واحد من العيال الكبار، للوقوف أمام طلمبة المياه؛ لتدويرها حتى ترتفعَ المياهُ وتملأ الخزانَ فوقَ الميضةِ، وَالعَرِيّفُ يُشْرِفُ على وضوئنا، ويُراقبُ ترتيبَ سنن الوضوء كما تعلمناها من سيدنا الشيخ، ويبلغُه بأسماء المُخَالفين.
عشر دقائق لا تزيد نكون جميعًا قد أتممنا دخول الحمامات ورتبنا سنن الوضوء، وربما يعودُ سبب الـتأخير أن يُقدّمَ الصغيرُ الكبيرَ؛ ليدخلَ الحمّامَ قبله، أو يقف أمام حنفيات الوضوء، هكذا علمنا سيدنا الشيخ: أن التقديمَ احترامٌ للكبير.
والتعليق في فلقة عَرِيّفِ الكُتَّابِ ينتظرُ مَنْ يُخَالِفُ هذه الدروس!
عندما يقفُ سيدنا الشيخ على نوفل أمام المحراب ليُسَوِّي الصفوف، يمكننك الآن أن ترى ملامِحَهُ بكل وضوح: شيخٌ جليلٌ طويلُ القامةِ، له مهابةٌ كبيرةٌ وحضورٌ حلوٌ جذّابٌ، أبيضُ الوجه، يُطلقُ لحيةً طويلةً بيضاء، يُهذّبُهَا ويقومُ بتسريحها أمامنا، يَحفُّ شاربه أو يقصّره، ودومًا تراه يلبسُ عباءته البُنِيّة أو السمراء فوق جلبابه الناصع البياض، ولابد أن ترى العمامةَ فوقَ رأسِهِ، والعمامةُ شالٌ من قماش أبيض يُلفُّ عدة لفاتٍ فوقَ الطربوشِ الأحمرِ، وقد أُضِيفَتْ للطربوشِ تمييزًا للأزهريين عن
الطربوشِ الذي يلبسُهُ الأفندية.
في الشتاء ترى سيدنا يَلفُّ رقبتَهُ وصدرَهُ بكوفية الصوف الطويلة والعريضة، وفي أيام الصيف يمكنك أن ترى كوفية الصوف دومًا تنامُ فوق كتفه اليمين، الآن وقبل أن يُعطينا سيدنا ظهره؛ ليستقبلَ القبلة وسط محراب الجامع الكبير للصلاة، تراه وهو يلوك السواك بفمه، وتلمحُ زبيبةَ الصلاةِ واضحةً من كثرة السجود، التي تشغلُ مساحةً كبيرةً في جبينه الوضّاء، وتسمَعُهُ يلتفتُ يمينًا ويسارًا يُردّدُ: سَوُّوا الصفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ المنَاكِبِ وسُدُّوا الخَلَلَ، فإن تسويةَ الصُفُوفِ من تمامِ الصَلاةِ.
وكان الجامعُ الكبير يُفرشُ بالحصير البلدي المصنوع من عيدان نبات السُمَّارِ، والمُزين بشرائح السُمَّارِ الملون بالأحمر والأخضر، وبأشكال هندسية وزخارف إسلامية حتى يُميّزَه الصانع عن حصير دور القرية.
وكنا نراه صباح كل يوم مع طابور الصباح في المدرسة الابتدائية؛ لأن سيدنا خلال فترة الستينيات كان مُحفظُ القرآن الكريم صباحًا في المدرسة، وبعد الظهر في كُتَّابِ القريةِ، وسيدنا قد خصَّصَ لكُتَّابِ القريةِ دارًا قُدَّام داره، قاعتان وفسحة كبيرة، وفي كل قاعة توجدُ سبورة سوداء يشرحُ عليها عَرّيف الكُتّاب مسائل الحساب وجدول الضرب.
وكان سيدنا يختارُ أن يجلسَ على المصطبة قُدام الدارين، ونجلسُ أمامه على حصير مفروش وسط الحارة، طلبًا لنسمة الهواء، ولم نكن نعرفُ وقتها المراوح؛ لأن الكهرباءَ لم تدخلْ قريتنا بعد.
بعد عودتنا من صلاة العصر، ومع هبّةِ النسمة الخريفية اللينة، يمكن لسيدنا أن يُعيدَ علينا شرح درسًا من دروس الفقه ويفسرُّ أحكام الوضوء والطهارة، بعد شكوى العريف أن بعضَ الصغارِ لا يحسنون الوضوء، ويطلبُ أن نفهمَ الأحكام الشرعية قبل حفظها، ويبتسمُ ضاحكًا: رايح فين؟ رايح الكُتَّاب، وراجع منين؟ راجع من الكُتَّاب تحملُ المصحف، ويُعيدُ للمرة الألف شرح الآية رقم خمسة من سورة الجمعة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
ويشرحُ سيدنا: مَنْ يحملُ كتابًا ولا يفهمُ ما فيه، كمثل الحِمَارِ الذي يحملُ على ظهره كُتبَ العلم ولا يعرفُ عنها شيئًا، ولا يفهمُ ما فيها من دروس، ويحمرُّ وجه سيدنا ويقولُ مُؤكدًا: لا بد من الفهمِ قبلَ الحفظِ حتى تنجحوا في الحياة.
وسعيد الحظ من الصغار الذي يختاره سيدنا ليرافقه في رحلاته بعد صلاة العصر، لزيارة مريض، أو قراءة القرآن في عزاء من توفى إلى رحمة الله، وعادة أهل قريتنا قراءة القرآن على روح الميت أيام: الخميس الصغير والخميس الكبير والأربعين.
عصر اليوم بعد صلاة العصر، ناداني: نعم يا سيدنا.. وأنا أطيرُ من الفرح.
كانت جدتي قد توفيت منذ عدة أيام، وأنا بالصف السادس الابتدائي، واليوم أول خميس لها، وجلجل صوت سيدنا بصوته الرخيم العذب وهو يقرأ آيات سورة فاطر، وفي طريق العودة راح سيدنا يهزّ رأسه قائلا: اقرأ يا ولد من أول الآية 28 من سورة فاطر، وقرأت: إنما يخشى الله (اللهُ بالضم)، وسريعًا أجدُ يدَ سيدنا تمسكُ حلمة أذني ويفركُهَا بشدةٍ بين أصابع يده: إنما يخشى اللهَ، اللهَ عليها فتحة يا ولد، وأسمعُ صوتَ سيدنا يرتفعُ غاضبًا: قلتُ ألف مرة، الفهمُ قبلَ الحفظِ.
وقبلَ أن تفرَّ الدموعُ من عينيّ، أجدُ يدَ سيدنا تربتُ كتفي، أراهُ يتوقفُ وسط الطريق ويرفعُ وجهي ناحيته في أبوة حانية:
أنت شاطر، الفهمُ قبلَ الحفظِ، يختلفُ المعنى بالقراءة الغلط، فيه تقديم وتأخير في الجملة الفعلية: إنما يخشى اللهَ العلماءُ.
وسط الشارع أجدُ يدَ سيدنا الكبيرة تبحثُ عن يدي الصغيرة، سريعًا أنحني لأقبّلَهَا عدة مرات، وأتركُ يدي بيده، حتى يرانا كل مَنْ يسيرُ في الشارع، وبيدي الثانية أمسحُ الدموعَ التي تفرُّ من عينيّ، وكلام سيدنا الشيخ يتردد قويًا: الفهمُ قبلَ الحفظِ.
وأردّدُ مُبتسمًا ومُتفاخرًا وأنا أسير بجواره ويدي في يده: حاضر يا سيدنا الشيخ، حاضر يا سيدنا......
خليل الجيزاوي / مصر
ومع أول جملة: الله أكبر ... الله أكبر، التي يرفعُهَا الشيخ حمزة من فوق مئذنة الجامع الكبير.
نسمعُ كلمة سيدنا الشيخ: انصرااااااااااااف.
يعلو صوتُ الصغارِ في كلمةٍ واحدةٍ، وهم يعزفون لحنَ الإفراجِ: هيييييييه
ويُضيفُ سيدنا مُؤكدًا: صلاة العصر نصف ساعة، ومَنْ يتأخرُ الفلقة موجودة!
ويبدأ الأولاد الصغار يُثيرون عَاصِفةَ العَفَارِ في صخبٍ وهرجٍ شديدين، وهم يهرولون ناحية الجامع الكبير.
وراح صوتُ سيدنا يضيعُ وسط شبورة التراب وصرخات الصغار فرحين بالانصراف.
وكل ولد يخطفُ نعله بيده ــــ إن كان أصلا يلبسُ نعلا، وكان معظمُ العيالِ حُفَاةً ـــــ وطيران على ميضة الجامع الكبير، نتسابقُ ونتنافسُ على الوضوء، ومتى يَجِدُ العَرِيّفُ أن مياهَ الحنفيات ضعيفةٌ وشحيحةٌ، يَهِزُّ العَرِيّفُ رأسَهُ، فيتطوعُ واحد من العيال الكبار، للوقوف أمام طلمبة المياه؛ لتدويرها حتى ترتفعَ المياهُ وتملأ الخزانَ فوقَ الميضةِ، وَالعَرِيّفُ يُشْرِفُ على وضوئنا، ويُراقبُ ترتيبَ سنن الوضوء كما تعلمناها من سيدنا الشيخ، ويبلغُه بأسماء المُخَالفين.
عشر دقائق لا تزيد نكون جميعًا قد أتممنا دخول الحمامات ورتبنا سنن الوضوء، وربما يعودُ سبب الـتأخير أن يُقدّمَ الصغيرُ الكبيرَ؛ ليدخلَ الحمّامَ قبله، أو يقف أمام حنفيات الوضوء، هكذا علمنا سيدنا الشيخ: أن التقديمَ احترامٌ للكبير.
والتعليق في فلقة عَرِيّفِ الكُتَّابِ ينتظرُ مَنْ يُخَالِفُ هذه الدروس!
عندما يقفُ سيدنا الشيخ على نوفل أمام المحراب ليُسَوِّي الصفوف، يمكننك الآن أن ترى ملامِحَهُ بكل وضوح: شيخٌ جليلٌ طويلُ القامةِ، له مهابةٌ كبيرةٌ وحضورٌ حلوٌ جذّابٌ، أبيضُ الوجه، يُطلقُ لحيةً طويلةً بيضاء، يُهذّبُهَا ويقومُ بتسريحها أمامنا، يَحفُّ شاربه أو يقصّره، ودومًا تراه يلبسُ عباءته البُنِيّة أو السمراء فوق جلبابه الناصع البياض، ولابد أن ترى العمامةَ فوقَ رأسِهِ، والعمامةُ شالٌ من قماش أبيض يُلفُّ عدة لفاتٍ فوقَ الطربوشِ الأحمرِ، وقد أُضِيفَتْ للطربوشِ تمييزًا للأزهريين عن
الطربوشِ الذي يلبسُهُ الأفندية.
في الشتاء ترى سيدنا يَلفُّ رقبتَهُ وصدرَهُ بكوفية الصوف الطويلة والعريضة، وفي أيام الصيف يمكنك أن ترى كوفية الصوف دومًا تنامُ فوق كتفه اليمين، الآن وقبل أن يُعطينا سيدنا ظهره؛ ليستقبلَ القبلة وسط محراب الجامع الكبير للصلاة، تراه وهو يلوك السواك بفمه، وتلمحُ زبيبةَ الصلاةِ واضحةً من كثرة السجود، التي تشغلُ مساحةً كبيرةً في جبينه الوضّاء، وتسمَعُهُ يلتفتُ يمينًا ويسارًا يُردّدُ: سَوُّوا الصفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ المنَاكِبِ وسُدُّوا الخَلَلَ، فإن تسويةَ الصُفُوفِ من تمامِ الصَلاةِ.
وكان الجامعُ الكبير يُفرشُ بالحصير البلدي المصنوع من عيدان نبات السُمَّارِ، والمُزين بشرائح السُمَّارِ الملون بالأحمر والأخضر، وبأشكال هندسية وزخارف إسلامية حتى يُميّزَه الصانع عن حصير دور القرية.
وكنا نراه صباح كل يوم مع طابور الصباح في المدرسة الابتدائية؛ لأن سيدنا خلال فترة الستينيات كان مُحفظُ القرآن الكريم صباحًا في المدرسة، وبعد الظهر في كُتَّابِ القريةِ، وسيدنا قد خصَّصَ لكُتَّابِ القريةِ دارًا قُدَّام داره، قاعتان وفسحة كبيرة، وفي كل قاعة توجدُ سبورة سوداء يشرحُ عليها عَرّيف الكُتّاب مسائل الحساب وجدول الضرب.
وكان سيدنا يختارُ أن يجلسَ على المصطبة قُدام الدارين، ونجلسُ أمامه على حصير مفروش وسط الحارة، طلبًا لنسمة الهواء، ولم نكن نعرفُ وقتها المراوح؛ لأن الكهرباءَ لم تدخلْ قريتنا بعد.
بعد عودتنا من صلاة العصر، ومع هبّةِ النسمة الخريفية اللينة، يمكن لسيدنا أن يُعيدَ علينا شرح درسًا من دروس الفقه ويفسرُّ أحكام الوضوء والطهارة، بعد شكوى العريف أن بعضَ الصغارِ لا يحسنون الوضوء، ويطلبُ أن نفهمَ الأحكام الشرعية قبل حفظها، ويبتسمُ ضاحكًا: رايح فين؟ رايح الكُتَّاب، وراجع منين؟ راجع من الكُتَّاب تحملُ المصحف، ويُعيدُ للمرة الألف شرح الآية رقم خمسة من سورة الجمعة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
ويشرحُ سيدنا: مَنْ يحملُ كتابًا ولا يفهمُ ما فيه، كمثل الحِمَارِ الذي يحملُ على ظهره كُتبَ العلم ولا يعرفُ عنها شيئًا، ولا يفهمُ ما فيها من دروس، ويحمرُّ وجه سيدنا ويقولُ مُؤكدًا: لا بد من الفهمِ قبلَ الحفظِ حتى تنجحوا في الحياة.
وسعيد الحظ من الصغار الذي يختاره سيدنا ليرافقه في رحلاته بعد صلاة العصر، لزيارة مريض، أو قراءة القرآن في عزاء من توفى إلى رحمة الله، وعادة أهل قريتنا قراءة القرآن على روح الميت أيام: الخميس الصغير والخميس الكبير والأربعين.
عصر اليوم بعد صلاة العصر، ناداني: نعم يا سيدنا.. وأنا أطيرُ من الفرح.
كانت جدتي قد توفيت منذ عدة أيام، وأنا بالصف السادس الابتدائي، واليوم أول خميس لها، وجلجل صوت سيدنا بصوته الرخيم العذب وهو يقرأ آيات سورة فاطر، وفي طريق العودة راح سيدنا يهزّ رأسه قائلا: اقرأ يا ولد من أول الآية 28 من سورة فاطر، وقرأت: إنما يخشى الله (اللهُ بالضم)، وسريعًا أجدُ يدَ سيدنا تمسكُ حلمة أذني ويفركُهَا بشدةٍ بين أصابع يده: إنما يخشى اللهَ، اللهَ عليها فتحة يا ولد، وأسمعُ صوتَ سيدنا يرتفعُ غاضبًا: قلتُ ألف مرة، الفهمُ قبلَ الحفظِ.
وقبلَ أن تفرَّ الدموعُ من عينيّ، أجدُ يدَ سيدنا تربتُ كتفي، أراهُ يتوقفُ وسط الطريق ويرفعُ وجهي ناحيته في أبوة حانية:
أنت شاطر، الفهمُ قبلَ الحفظِ، يختلفُ المعنى بالقراءة الغلط، فيه تقديم وتأخير في الجملة الفعلية: إنما يخشى اللهَ العلماءُ.
وسط الشارع أجدُ يدَ سيدنا الكبيرة تبحثُ عن يدي الصغيرة، سريعًا أنحني لأقبّلَهَا عدة مرات، وأتركُ يدي بيده، حتى يرانا كل مَنْ يسيرُ في الشارع، وبيدي الثانية أمسحُ الدموعَ التي تفرُّ من عينيّ، وكلام سيدنا الشيخ يتردد قويًا: الفهمُ قبلَ الحفظِ.
وأردّدُ مُبتسمًا ومُتفاخرًا وأنا أسير بجواره ويدي في يده: حاضر يا سيدنا الشيخ، حاضر يا سيدنا......
خليل الجيزاوي / مصر