ماجد حميد الغراوي - نَظْرَةٌ رُؤْيَوِيَّةٌ فِي قَصِيدَةِ (أَصْفَادُ الْحُرِّيَّةِ) لِلشَّاعِرِ سَتَّارِ الزُّهَيْرِيِّ

١ / مُقَدِّمَةٌ:
الشَّيْخُ سَتَّارُ الزُّهَيْرِيُّ، شَاعِرٌ مَوْهُوبٌ مِنْ شُعَرَاءِ القَصِيدَةِ العَمُوْدِيَّةِ البَارِزِينَ فِي عَصْرِهِ، نَجِدُ فِي شِعْرِهِ قُدْرَةً إِبْدَاعِيَّةً فِي كِتَابَةِ القَصِيدَةِ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَصِيحَةٍ مُتَفَرِّدَةٍ تَأْخُذُنَا إِلَى سِحْرِ إِيقَاعِ وَمُوْسِيقَى الشِّعْرِ العَرَبِيِّ الأَصِيلِ بِأَغْرَاضِهِ المُتَعَدِّدَةِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنِ انْفعَالَاتِ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ بِأَحَاسِيْسِهَا المُختَلِفَةِ مِنْ: تَوَجُّعٍ، وَتَفَجُّعٍ، وَإِعْجَابٍ، وَفَخْرٍ، وَمَدْحٍ، وَهَذَا مَا نَجِدُهُ فِي قَصِيدَتِهِ (أَصْفَادُ الْحُرِّيَّةِ) مَوْضُوعِ مَقَالِنَا، الَّتِي يُخَاطِبُ فِيْهَا عَلِيَّ بْنَ الحُسَينِ السَّجَّادَ بِمُنَاجَاةٍ حَزِينَةٍ:
هُوَ السَّجَادُ فِي كِبَرٍ يُلَاقِي
هُمُومَ النَّائِحَاتِ عَلَيْهِ تَتْرَى
وَمَا بَيْنَ النَّــوَائِــحِ وَالمَنَايَـــا
يَطِلُّ الرَّاحِلُوْنَ عَلَيْكَ بَدْرَا

٢ / أَغْرَاضُ القَصِيدَةِ:
ذَهَبَ الشَّاعِرُ فِي قَصِيدَتِهِ إِلَى غَرَضَيْنِ وَاضِحَيْنِ: أَمَّا أَوَّلُهُمَا: فَهُوَ رِثَاءُ الإِمَامِ الحُسَيْنِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَشُهَدَاءِ وَاقِعَةِ الطَّفِّ بِكَرْبَلَاءَ بِصُورَةٍ مَشْهَدِيَّةٍ تَحْمِلُ الكَثِيرَ مِنْ أَلْوَانِ الْأَسَى وَالفَجِيعَةِ، وَتُجَسِّدُ في الْوَقْتِ نَفْسِهِ انْتِصَارَ الشَّهَادَةِ وَالدَّمِ فِي أَعْظَمِ ثَوْرَةٍ شَهِدَتْهَا الْإِنْسَانِيَّةُ ضِدَّ الظُّلْمِ وَالفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ، فَيَقُولُ:
"أَرَى حُزْنًا يَمُدُّ إِلَيْكَ بَحْرًا
وَآهَاتٍ تُصَافِـحُ مِنْكَ جَــمْرَا
وَأَنْفَاسًا تُرَاقُ عَلَى لَهِيبٍ
يُحَاكِي المُحْرقَاتِ بِكَبْدِ حَرَّى
فَلَوْ أَنَّ الطَّرِيقَ أَتَاكَ بَرْدًا
لَكُنْتَ المُسْتَحِيْلَ عَلَيْهِ جَمْرَا
تَرَىَ رَأْسًا تُطَافُ بِهِ المَعَالِي
وَعَيْنُكَ تَرْقُبُ المَحْزُوْزَ نَحْرَا"
فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ نَرَى كُلَّ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ اللَّذَيْنِ تَجَلَّتْ فِيْهِمَا قُدْرَةُ الشَّاعِرِ عَلَى الْاِسْتِرْسَالِ دُوْنَ صُعُوبَةٍ فِي النَّظْمِ، بِأَلفَاظٍ امْتَازَتْ بِالسُّهُولَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا إِسْفَافٍ وَلَا ابْتِذَالٍ، فَكَانَتْ لَهَا دلَالَاتٌ وَافِيَةٌ وَكَافِيَةٌ عَلَى تَأْدِيَةِ المَعْنَى؛ فَالْحُزْنُ يَمْتَدُّ لِيكونَ بَحْرًا فِي انْبِسَاطِهِ وَسَعَتِهِ وَجَرَيَانِهِ فِي صُورَةٍ وَاقِعِيَّةٍ لِلفَاجعَةِ الَّتِي مُنِيَ بِهَا المُسْلِمُونَ إِثْرَ هَذِهِ الوَاقِعَةِ، وَتَأْثِيرِهَا وَامْتِدَادِ صَدَاهَا إِلَى العُصُورِ المُتَعَاقِبَةِ، تَرْجَمَهَا الشَّاعِرُ فِي قَصِيدَتِهِ بِصِدْقِ مَشَاعِرِهِ وَوَعْيِهِ بِالمَعْنَى المُرَادِ، وَقُدْرَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى اِحْتوَاءِ هَذَا المَعْنَى؛ فَقَدِ اسْتَعَارَ اللَّهِيبَ رَمْزًا لِقَسْوَةِ الطُّغَاةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي أَرَاقَتْ دِمَاءَ آلِ الرَّسُولِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ مِنَ الأَحْرَارِ؛ لِمَحْوِ أَثَرِهِمْ، وَإِسْكَاتِ صَوْتِ الإِسْلَامِ الَّذِي يَدْعُو لِلسَّلَامِ وَالحُرِّيَّةِ وَالكَرَامَةِ، ثُمَّ يَصِفُ حَالَ الآهَاتِ وَالأَهْوَالِ الَّتِي لَمْ تَجِدْ فِي وَصْلِ آلِ الرَّسُولِ إِلَّا جَمْرًا. أَقُولُ: وَكَيْفَ يَكُونُ حال مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ مِنْهُم وَجُلُّهُم مِنْ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكِرَامِ الَّذِينَ يَحْضَوْنَ بِمَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ فِي نُفُوسِ المُسْلِمِينَ وَغَيرِ الْمُسْلِمِينَ؟
وَأَمَّا الغَرَضُ الثَّانِي الَّذِي تَنَاوَلَهُ فِي قَصِيدَتِهِ، فَهُوَ الفَخْرُ؛ حَيْثُ يَقُولُ:
"جَنَيْنَا مِنْ غُبَارِ السَّبْيِ عِزًّا
تَنَفَّسَتِ المَشَاعِرُ مِنْهُ عِطْرَا
وَمَا بَيْنَ الجِرَاحِ يَشبُّ جُرْحٌ
كَقَمْحٍ يُطْعِمُ الأَجْيَـــالَ فَخْــــرَا"
وَيَقُولُ أَيْضًا:
وَمَا بَيْنَ النَّوَائِحِ وَالمَنَايَا
يُطِلُّ الرَّاحِلُوْنَ عَلَيْكَ بَدْرَا
وَتُلْهِمُنَا دُرُوْبُ الْأَسْرِ خَطْوًا
بِهَا لِلْحُرِّ مِعْرَاجٌ وَمَسْرَى
وَمَا تِلْكَ العَصَاةُ بِكَفِّ زَيْنٍ
سِوَى أَفْعًى تَرُدُّ السِّحْرَ قَهْرَا
تَهُشُّ اللَّيْلَ تَدْمَغُهُ بِفَجْرٍ
وَتَأْتِي بِالمَآرِبِ تِلْوَ أُخْـــرَى
نَرَى الشَّاعِرَ يَفْخَرُ بِالغَايَاتِ السَّامِيَةِ لِهَذِهِ الوَاقِعَةِ الَّتِي تَكَلَّلَتْ بِالسَّبْي وَالجِرَاحِ وَالمَنَايَا وَكَأَنَّهُ أَحَدُ أَفْرَادِهَا، بِوَصْفٍ جَمِيلٍ اسْتَخْدَمَ فِيهِ قُدُرَاتِهِ البَيَانِيَّةَ فِي التَّشْبِيهِ وَالاِسْتِعَارَةِ وَالمَجَازِ، فَجَعَلَ مِنَ الخُطُوبِ عِزًّا وَفَخْرًا، وَسَبِيلًا لِلأَحْرَارِ نَحْوَ حَيَاةِ الكَرَامَةِ وَالعِزَّةِ وَرَفْضِ الذِّلَّةِ وَالخُنُوعِ لِلطُّغَاةِ وَالظَّالِمِينَ، وَيَذْهَبُ الشَّاعِرُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ هَذَا، فَيَرَى فِي الوَاقِعَةِ وَشُخُوصِهَا مَصْدَرَ إِلْهَامِهِ الشِّعْرِيِّ، فَيَمْضِي فِي تَجسِيدِ وَتَشخِيصِ المَفَاهِيمِ الذِّهْنِيَّةِ، وَبَثِّ الحَيَاةِ فِيْهَا فِي اسْتِعَارَاتٍ فَنِّيَّةٍ رَائِعَةٍ، فَيَقُولُ:
وَلَمَّا نَخْلكَ السَّامِي هَزَزْنَا
تَسَاقَطَ مِنْ رَفِيْفِ السَّعَفِ شِعْرَا
فَقَدْ شَبَّهَ فِي هَذَا البَيْتِ (مِنْ رَفِيفِ السَّعَفِ شِعْرَا) مَجَازًا بِأُسْلُوبٍ أَضَافَ جَمَالًا بَلَاغِيًّا لِمَعْنَى القَصِيدَةِ.
وَيَقُولُ أَيْضًا:
أَيَا نَهْرًا يَصُبُّ عَلَى الثُّرَيَّا
لِيَلْقَى عَمَّكَ العَبَّاسَ نَهْرَا
بَدَأَهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ (أَيَا) بِأُسْلُوبٍ إِنْشَائِيٍّ وَتَشْبِيهٍ فِيْهِ رَمْزِيَّةٌ إِلَى جُوْدِ وَكَرَمِ وَوَرَعِ الإِمَامِ السَّجَّادِ -عَلَيهِ السَّلَامُ- الَّذِي يَصِفُهُ الشَّاعِرُ بِالنَّهرِ مَجَازًا، وَيَصِلُهُ إِلَى الثُّرَيَّا فِي أَرْوَعِ لِقَاءٍ بِالنَّهْرِ الثَّانِي عَمِّهِ العَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.


٣ / الإِيْقَاعُ:
اعْتَمَدَ الشَّاعِرُ فِي إِيقَاعِ القَصِيدَةِ الخَارِجِيِّ عَلَى بَحْرِ (الْوَافِرِ) وَحَرْفِ الرَوِيِّ (الرَّاءِ)، فِيْمَا أَضَافَ تَكْرَارُ المَقَاطِعِ الصَّوتِيَّةِ لِلكَلِمَاتِ بِتَوَافُقِهَا وَصِيَغِهَا الصَّرفِيَّةِ جُزْءًا مُهِمًّا مِنْ أَدَوَاتِ التَّنْغِيمِ، مِثْلِ: (يَمُدُّ، يَشبُّ، يُطِلُّ، يَصُبُّ)، و(تَرْقُبُ، تَرُدُّ، تَصُبُّ ... إلخ).


٤ / الْأُسْلُوبُ:
مُعْظَمُ أَبْيَاتِ القَصِيدَةِ اعْتَمَدَتِ الْأُسْلُوبَ الخَبَرِيَّ لِوَصْفِ وَاقِعَةِ الطَّفِّ وَصْفًا وجْدَانِيًّا صَادِقًا أَجَادَ فِيهِ الشَّاعِرُ خَلْقَ صُورَةٍ شِعْرِيَّةٍ تُدْرِكُهَا المَشَاعِرُ وَالأَحَاسِيسُ الإِنْسَانِيَّةُ وأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ احْتَوَتْ عَلَى المَدْحِ وَحُرُف نداء كَمَا ذَكَرْنَا، وَالقَصِيدَةُ تَستَحِقُّ قِرَاءَاتٍ وَشُرُوحًا أُخْرَى لِلوُقُوفِ عَلَى مَعَانِي صُوَرِهَا وَجَمَالِ لُغَتِهَا.

ماجد حميد الغراوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى