خالد جهاد - الغريزة تكشر عن أنيابها

تنويه: يحتوي المقال على سرد لوقائع أو ذكر لأشخاص أو أحداث قد لا تكون قراءتها مناسبةً بحضور الأطفال، وذكرها كان ضرورة من الناحية التوثيقية ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال) عن التغيرات التي طرأت على مجتمعاتنا وليس من باب الترويج لها بأي شكل من الأشكال، احتراماً مني لعقل القارىء ومخاطبةً لوعيه..

التوثيق لمرحلة أو شخص أو حدث أمر بالغ الصعوبة والحساسية، حيث يتوجب على من يقوم بذلك مراجعة مصادر معلوماته وتوخي الموضوعية والتركيز على المضمون بحيث يستطيع أن يقدم المادة بشكلٍ متوازنٍ أيضاً بعيداً عن إقحام وجهة النظر الشخصية أو الترويج لشيء على حساب آخر، وبينما نعيش حياتنا ناظرين إلى الأمس مستعيدين لحظاته ننسى أحياناً أننا كنا جزءًا منه وعايشنا العديد من فصوله كبقية الناس، ومع أنني لا أحبذ تضمين الكاتب لتجارب شخصية إلا إذا كان طابع ما يكتبه كذلك، لكن لا مانع من استحضار بعضها إن كانت موظفة في خدمة الموضوع، وبالعودة إلى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وصولاً إلى اللحظة الحالية لاحظت كغيري تدرج المجتمع في تغيير سلوكه وتقبله لما كان يرفضه وتناقضه مع ما يظهره، ولأنني اعتدت على التساؤل لم تمر الكثير من التفاصيل مرور الكرام في حياتي، فالتقيت وعملت مع الكثير من الأشخاص في العديد من الأماكن ومع كثيرٍ من (حملة الشهادات العليا) والذين ينتمي بعضهم أيضاً إلى عائلاتٍ ميسورة والتي يجمع نسبةً كبيرة منهم تعاطفهم مع (التيارات المتخفية خلف شعارات دينية) كما يجمعهم ظاهرة (التدين الشكلي)، وحكمي هنا ليس مبنياً على أهواء بل هو مقارنة بين مبادىء الدين التي قرأتها بنفسي وتصرفات الكثير منهم التي تضعه جانباً في سبيل تحقيق المصالح أو المتعة الشخصية ولكلٍ أسلوبه وطريقته في تبرير سلوكه كما أنهم يرفضون أي نقد أو مواجهة..

ولفت نظري استخدام المصطلحات الإباحية والألفاظ السوقية والإيحاءات الجنسية بشكل مقرف، مكثف وأحياناً بحضور بعض السيدات مع أنه غير مقبول حتى في غيابهن، لكنه جعلني أتأكد وأربط بين العديد من السلوكيات المتدنية والتي وصلت إلى التحرش الجنسي (أحياناً) من البعض (دون تعميم) وسط صمت أو تعامي أو تغافل البقية أو (مجاراة الجو) ارضاءاً لهم وللمناصب التي يشغلونها، وهو ما كان مصدر تقزز لي وللكثير من زملائي وما جعلني أفصل بين التحصيل العلمي وبين الأخلاق والثقافة حيث لا أثق أو أوصي بمن يقوم أو يتلفظ بهذه السلوكيات كما أنني لا أثق في مبادئه أو (تدينه)، فكثير من التعليقات كانت تنم عن مخيلة متشبعة بالإباحية، وهو ما دفعني للقيام بدراسة سرية عن (المرأة والجنس) بحثاً عن إجابة إنسانية حقيقية بعيداً عن الأفكار المسمومة والملوثة التي تزدحم بها أدمغة بعض من تحدثت عنهم والتي يعاديها كل من لديه فطرة سليمة حتى من زملائهم..

فقمت بهذه الدراسة على قرابة ١٥ سيدة من جنسيات وثقافات وأديان وأعمار مختلفة، وكنت ممتناً لثقتهن بي ولمعرفتهن بأن هذه المعلومات (غير قابلة للنشر) بعد أن أوضحت هدفي منها، ووجدت بناءاً على إجابات الأسئلة أن (الجنس) في عقلية المرأة مختلف تماماً عن عقلية الرجل أو (هذه الفئة من الذكور)، وعن ارتباطه بعوامل نفسية وعاطفية لا تخطر ببال هذه الفئات التي يستمد بعضها أفكاره أو ثقافته الجنسية من أوساط سوقية ومن مشاهدة للأفلام الإباحية أو مجالسة من يشاهدها، لتتسرب إلى بقية مناحي حياته لسنوات طويلة حتى بعد الإقلاع عن مشاهدتها وحتى بعد أن يتحول العديد منهم إلى الإلتزام الديني، حيث أن المسألة معقدة من الناحية النفسية ومرتبطة بالدماغ والتفكير لرسوخها فيه وصعوبة نسيانها، فلا يستطيع هذا الشخص التعاطي ببراءة وأريحية مع الكثير من أمور الحياة البسيطة وحتى مع زوجته التي يحرص أن تكون دائما ً (بعيدة عن هذه الأجواء)، وهو ما ذكرني لوهلة بشخصية الطبيب (سامر) التي أداها الممثل السوري سلوم حداد في مسلسل (تخت شرقي) والذي كان يتابع مثل هذه الأفلام والتي تسببت في شرخ في العلاقة مع زوجته الطبيبة (نادية) والتي أدت دورها الممثلة السورية الكبيرة سمر سامي وجعلها تنفر منه بعد مواجهته بسلوكه، وقد يتسائل البعض عن علاقة ذلك بسلسلة (القبح والجمال) وتوثيق الواقع، وهنا سأتذكر مع الناس كيف تغير وجه العالم وسلوك الإنسان تدريجياً بعد إدخال الثقافة الإباحية تدريجياً إلى الصحافة والإعلام والسينما والموسيقى، ولنتذكر علاقة هذه المنظومة ببعضها..

فقد ارتبط صدور مجلة (بلاي بوي) الأمريكية عام ١٩٥٣ مع نشر الثقافة الإباحية والحرية الجنسية وتسليع جسد المرأة وجعله مادة للشراء على يد مالكها ومؤسسها (هيو هفنر)، والتي عرضت حياته وخبايا (تجارته) ضمن وثائقي تم الحديث فيه عن ما كان يدور في الكواليس من نخاسة وبيع للنساء بشكل حرفي والتي لم تخلو من حوادث قتل واغتصاب بعيداً عن الصورة التي حاول فيها تقديم نفسه ومجلته للمجتمع الأمريكي والعالم كأسلوب نمط حياة جديد يحظى بالبذخ والمتعة والترفيه بطريقة (راقية)، كما قدم نفسه كرجل له (أسلوب في التفكير) إلى جانب ترويج صورته في الإعلام كرجل لطيف، ظريف، كريم، محب للمرح، لديه ذوق خاص، يحب الطبيعة والحيوانات، يحتفي بجمال المرأة ويتخذ من الأرنب شعاراً لمشروعه الذي يدر الملايين من الدولارات، كما كانت مجلته تتعمد نشر دراسات ومقالات فلسفية وفكرية لمحاولة تلميع صورتها والتي كان يحرص على القول بأنها تقدم المرأة ضمن إطار (ابنة الجيران البريئة)، وهو ما نعرف كذبه كونه مادةً تجارية بحتة توسعت منافستها لتشمل إدخال هذه الأفكار ونمط الحياة إلى السينما الأمريكية والأوروبية التي بدأت في منافسته، ورأينا آثاره من خلال وجوه شهيرة كانت أول من روج للتعري مثل مارلين مونرو وبريجيت باردو واللواتي روجن أيضاً للمرأة ذات الشعر الأشقر بدرجةٍ ملفتة مع أحمر الشفاه الفاقع وهو النموذج النسائي الذي كان يقدمه ويحيط نفسه به على الدوام، والذي لم يكن متداولاً ليلحق بهن الكثيرات والكثيرون حيث أصبح تعري الرجل أمراً مقبولاً بعد عقود طويلة..

ولا نستطيع الحديث عن تغير السلوكيات في المجتمع بسبب اجتياح الثقافة الإباحية دون ذكر مرحلة المجلات المتخصصة في ذلك إلى جانب (بلاي بوي) والتي انتشرت بين الشباب، عدا عن القنوات الفضائية التي انتشرت في التسعينات وتجارة (أشرطة الفيديو والسي دي) والتي أسست لكثير مما نعيشه والذي بدأ بنفس الطريقة، المرح والترفيه والنكتة حيث بتنا نلحظ ذلك اليوم في الشارع كما هو على التلفاز الذي لم يعد جهازاً قادراً على جمع العائلة لكثرة مفردات الجنس على شاشته، والذي رافق الأطفال أيضاً من خلال (ألعاب الفيديو) و(الأتاري) التي كانت تضم نماذج لفتيات ترتدي ثياباً فاضحة ويبدون بمظهر بائعات الهوى، والتي تقوم بعمل إشارات تتضمن الكثير من الإغراء والإثارة والتي كان من المستغرب أن تقدم كمادة للطفل، وبمرور السنوات وتقدم التقنيات كانت هذه الألعاب أكثر قدرة على محاكاة تفاصيل الجسد بشكل أصبح الآن شبه مطابق للإنسان، ولا يمكننا أن نعتبر أن ما نعيشه اليوم ونراه من حولنا وسط فئات متعلمة ذكرت في بداية المقال أو تظهر عبر وسائل الإعلام منفصلاً عن هذا التدرج الذي أحدث خللاً في التفكير، واضطراباً في القيم، واختلالاً في المبادىء، وتسليعاً للإنسان، وتبريراً لإنحداره في مجتمعاتنا التي لا زالت بعيدة عن التدين أو التحرر أو الإعتدال ولا زالت لا تعرف الفرق بين كل هذه المفاهيم..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى