د. زياد العوف - في الغَزَل العُذريّ... من عينيّة الشاعر الأمويّ الصِّمّة القشيري ( ت ٧١٤ م- ٩٦ للهجرة )

الغَزَل هو التعبير الفنّيّ الشعريّ عن عاطفة الحبّ وما يمازجها من شوق وحنين ورغبة وميل إلى سدّ النقص وتحقيق الاكتمال النفسي والجسديّ من خلال التواصل الشعوريّ والجنسيّ مع المحبوب .
يذكر أفلاطون في إحدى حواريّاته بأنّ ( أيروس ) وهو الحبّ ، إنّما هو سليل(الثروة) و (الفقر) ، ومن ثَمَّ فإنّ الحبّ يستشعر الرغبة الدائمة في امتلاك ما لا يملك..وهذا ما يفسّر ديناميّة هذه الرغبة الدائمة .
عرفَ الشعرُ العربيّ أنواعاً ثلاثة من الغزَل ، وذلك تبَعاً لموقف الشاعر من التعبير عن مشاعر الحبّ والهوى .
فكان لدينا :
١- الغزَل الصريح :
ويتمثّل في التعبير المتحرّر عن الرغبات الحسيّة ، والملاذّ والشهوات الجسدية دون مراعاة للقيم الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية السائدة..ولعلّ الشاعر الأمويّ عمر بن أبي ربيعة خير من يمثّل هذا الاتّجاه .
٢- الغزَل العفيف :
وقد غلب عليه مصطلَح الغزَل العذري ، نسبة إلى قبيلة ( عُذْرة ) حيث شاع وانتشر .
ويتجلّى في هذا اللون من الغزَل الذي ظهر في العصر الأموي تأثير القيم الأخلاقية الإسلامية ؛ حيث يعبِّر الشاعر عمّا يكتنفه من مشاعر الحبّ والشوق والحنين فيسمو عن التصريح بالشهوات والرغبات الحسيّة ويستغرق في وصف مشاعر الحبّ السامية وما يخالطها من هيام ولوعة واشتياق وأسى .
ولعل خير من يمثّل هذا الاتّجاه الغزليّ كلّ من الشعراء جميل بثينة ، ومجنون ليلى ، وكثيّر عزّة ، وشاعرنا الصّمّة القشيري ، وهو ليس بشهرة سابقيه ، على أنّه شاعر مجيد .
٣- الغزَل التقليديّ :
وهو وسط بين سابقيه ؛ إذ هو يجمع بين اللونين السابقين دون إفراط في خصائص أيّ منهما .
ويشيع هذا النّمط من الغزل عند الشعراء الذين لم يغلب عليهم الغزل ، مثل جرير والأخطل والفرزدق ، من كبار شعراء العصر الأمويّ . (١)
ما دعاني إلى هذا التوضيح المختصر عن شعر الغزَل إنّما هو هذه الأبيات المختارة لشاعرنا الأمويّ الصّمّة بن عبد الله القشيري، وهو شاعر مجيد ، كما أشرتُ ، لكنّه مقِلّ ، وقد اشتُهِر بغزلياته في ابنة عمّه ( ريّا ) بخاصّة .
ويذكر مؤرّخو الأدب والشعر العربيّ في أسباب هذه القصيدة أنّ الشاعر كان قد " خطب ابنة عمّه ريّا إلى أبيها ، فزوّجه على إبل ذكرها له ، فساق أبوه عنه الإبل إلى أخيه ، وأنقصها بعيراً ، فحلف عمّه لا يأخذها إلّا كاملةً ، وحلف أبوه لا يزيده شيئاً ، فغضب الصمّة لتمسّك كلّ منهما برأيه ، ورحلَ إلى الشام فألحقه الخليفة بالفرسان ، إلّا أنّ حنين الشاعر إلى أهله ووطنه ثار في نفسه فأنطقه بهذه الأبيات " (٢)
- حنَنْتَ إلى ريّا ، ونفسكَ باعدت
مزاركَ من ريّا ، وشِعباكما معا
- فما حسَنٌ أنْ تأتي الأمرَ طائعاً
وتجزعَ أنْ داعي الصّبابةِ أسمعا
- قِفا ودّعا نجداً ومَن حلَّ بالحِمى
وقلَّ لنجدٍ عندنا أنْ يودَّعا
- بنفسي تلك الأرض، ما أطيبَ الرّبا
وما أحسنَ المصطاف والمتربَّعا
- وليستْ عشيّاتُ الحِمى برواجع
عليكَ ، ولكنْ خلِّ عينيكَ تدمعا
- بكتْ عيني اليسرى، فلمّا زَجرْتُها
عن الجهلِ بعد الحِلمِ أسْبلتا معا
- تلفّتُّ نحو الحيّ حتّى وجدتُني
وجِعتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا *
- وأذكرُ أيام الحِمى ثُمَّ أنثني
على كبِدي من خشيةٍ أنْ تَصدَّعا
- * الإصغاء : المَيل ، الليت : صفحة العُنُق ، الأخدَع : عِرق في العنُق .
١- يُنظَر ،
د. شكري فيصل ، تطوّر الغزَل بين الجاهلية والإسلام ، بيروت، دار العلم للملايين ، ط ٤ ، د. ت .
٢- مطيع ببيلي ، من حماسة أبي تمام ، دمشق ، وزارة الثقافة ، ١٩٧٨م.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى