د. سامي عبد العال - باثولوجيا الثقافة .. الوقح

" الوقاحة لونٌ من الدناءة التي يُلقيها البعضُ فجأةً في وجهك دون مقدماتٍ ..."

" لا يليق بالعلاقات المسمُومةِ إلاَّ البتر.. مجاملةُ الأفاعي جريمة ".. دوستويفسكي



الوقاحة عنوان لنوع من التبجُح الذي يراه البعض سلوكاً مُفضّلاً في الحياة. حيث يمارسها الإنسان تلقائياً للتعبير عما يريد أو حين يشرع في انجاز الأعمال. الأساس أنَّه يضع نفسه في خطوة ( قافزة ) عما كان يجب أنْ يفعله الطرف الآخر. أي يتجاهل مكانةَ الآخر وتقديره منشغلاً بكيفية استغلاله والتجاوز في حقه. فلو أخذ الطرفُ الآخر خطوةً، فإنَّ الوقح يقفز خطوات استباقية للتغطية على أهدافه. والوقاحة لحظة غامضةٌ من( السماجة والإنفلات الأخلاقي والتجاوز والسباب السلوكي ) إزاء الآخرين. أي أنَّ كل وقاحة لا تخلُو من جوانب ( نفسية – فعلية ) تفرض وضعها على المُتوقَّح بحقه.

وتبدو الوقاحةُ صامتةً وغيرَ مشعُورٍ بها في غالب الأحيان. لأنَّها تأتيك كصورةٍ عاجزةٍ عن التعبير عن نفسها إلاَّ بهذه الطريقة السمجةِ، كما أنَّها تُعجزك عن الرد المناسب حيث تناقض كل القيم الممكنة. فهل سيُقابل الإنسان وقاحةً بوقاحةٍ أشد؟ هل سيكون الطرف الآخر سمجاً تجاه من يمارس السماجة بشكل فاقع؟! هل هناك حدود للوقاحة لو تخطتها تصبح إهانةً؟

لا تظهر الوقاحةُ في صورة موضوعيةٍ خارج الأفراد مهما كانت، بل الوقاحة يجسدها شخصٌ صفيقٌ في مواقف معينة. هو يظهرها كحالة بشرية شبه مستوفاة خلال شخصيته وأفعاله. كلَّ وقح ينتقي من ( الأفعال الصفيقة ) ما يلائم شخصيته، تماماً على غرار الأفعال الأخرى. لدرجة أنَّه يرى في تلك الأفعال امتداداً طبيعياً لحياته المُنطوية على مزيدٍ من الضعة. ولذلك نحن نتندر على الوقح بأنه قد اختزلها في تصرفاته العامة كأنه اُختص بها دون غيره من البشر. ومثلما أنَّ هناك مميزات نوعيةً تميز جميع الأفراد، فالوقاحة لدى هذا الشخص تعدُّ ( سمة بنيوية ) في معظم سلوكياته، لكنه قد يخفيها تحت سطح الأمور الاعتيادية، لأنه يعرف ما يفعل أثناء هذه الأمور، بحكم تجاربه الكثيرة في هذا الصدد ولو كانت مفهومةً ضمنياً.

يحرص الوقحُ على أنْ يبدو هادئاً ومرناً ومتفهماً المواقف، حيث لا تبدو عليه أية علامة من علامات التبجح الاستباقي، وهو الهدوء الذي يغلف النوايا السمجة إذ يخفيها بين طيات الكلام أو المظاهر البراقة. لدرجة أننا يصعب التنبؤ بسلوكه في مواقف معينة وإنْ بداً متنمراً ومنتظراً للكشف عن نواياه. والحرص هو أسلوب الخداع المفضل الذي يطرحه أمام الآخر على نحو غير مباشر. لأنه يعتمد على ( استراتيجية المباغتة ) التي يطلقها، كأنَّها ( قنبلة دُخانيّة ) تمهيداً للإنقضاض على الفعل. يقول آرثر شوبنهور: كلُّ الأوغاد للأسف مؤْنِسون ولطفاء المعشر.

يُراهن الوقحُ على الإنغمار في المواقف تلقائياً، لدرجة أنَّ أي شخص بجواره لم يكن ليتوقع صدور الوقاحة منه، بينما هو مُترقب ويظل منتظراً أهدافه الخبيثة تحت جنح الغموض. إنه يفتعل هذا المظهر البراق، حتى يقتحم المشهد بالتهام المنافع التهاماً، حيث ينقلب فجأةً منقضاً وراء ما يهدف ويخفي. ويرفع مصلحته فوق مصالح الآخرين مع ضيق الأفق الشديد. وتدريجياً يتحول هذا الإنسان الهادئ إلى شخصٍ عدواني قميئ، ولا يرى سوى نفسه خلال المواقف الحرجة. وفي حالةٍ لو كان صاحب مسئوليةً تستوجب الحياد والموضوعية، سرعان ما يتخلى عنها مباشرةً دون أن يدرك توصيف المسئولية من واقع القانون والنظام العام. إنه أشبه( بالحيوان المفترس ) الذي ينقض على فريسة محولاً الحياة إلى غابةٍ غير عابئ باللوائح والآليات الشفافة.

تعود الوقاحةُ إلى قلة الحياء، بل إلى انعدام المروءة والنبل مع الإجتراء على اتيان القبائح والأفعال المشينة. وقلة الحياء يعتبرها الوقح شيئاً عادياً في أي وقتٍ، كأنَّه لا يوجد شيء يقتضي الخجلَّ منه. كلُّ ذلك مع صلابة في الوجه وسلاطة في اللسان كما جاء في اللغة العربية كدلالة على معنى الوقاحة. وقحَ حافرُ الدابة.. صلب حافرُها وقوي لدرجة أنها تنهش سطح الأرض نهشاً أثناء المشي. وهذا بالضبط ما يحدث بالنسبة لمواقف الوقح. فأسلوب ( النهش الحيواني ) هو المتبع مع أساليب الوقاحة، لدرجة أنَّ صاحبها يُدمي من يقابله ويريق ماء وجهه بالمثل. لأنه يبقى مكشوفاً مع دراماً المشاهد ويصبح عارياً من أي غطاءٍ يجمع بقاياه.

تبدو أفعالُ الوقح مشبعةً بتدني إحترم الذات. لأنَّه لو كان يمتلك ثقة كافيةً داخل ذاته، لكان قادراً على التصرُف بعقلانية ومنطق، ولكانَ قد احترمَ الآخرين دون انتهاك وجودهم الخاص. فإقتحام كيان الآخر ينم عن ( اهتزاز الثقة ) في الذات تعويضاً عما يفتقده بالأساس. إذ يعتبر أنَّ وقاحته بمثابة الخطوة الجرئية التي يواري خلفها الهشاشة وعدم الثبات. ها هو يقول أنا لست على ثقة مما أفعل، أنا لست متيقناً ما إذا كنت أتصرف في الوقت الصائب أم لا، وأنني لابد آخذ هذه الخطوة حتى لا يظهر إنني ضعيف، وأفضل وسيلة لذلك هو اهتبال الفرصة لدرجة الاجتراء والسماجة.

ويهدف الوقح من ذلك ترك أثر لدى الآخر بأنه قد أخذ ما يبتغيه، وأنه صاحب قدم راسخ في الإقدام والمبادأة مما يعزز نقاط قوته في جدار ضعفه العام. فيبدو وجوده كما لو كان جداراً قوياً بينما هو قابل للسقوط خلال أية لحظةٍ. وبالتالي ستظهر تلك الخطوةُ مقدار تراجع الذات لدى هذا الشخص، وليس بعيداً أنْ تخور قواه بينه وبين نفسه شريطة ألَّا يراه أحد، لأنه عندئذ حريص كل الحرص على اتخاذ مظهر القوة إدعاءً أمام الأنظار فقط. لكنه في النهاية يمثل حصيلة وقاحات فارغة لا تضيف إلى إنسانيته شيئاً ولا تُعطي ذاته كبيرَ دلالةٍ. إنما العكس هو الصحيح أنَّ الوقاحات تدمره داخلياً وتجرف قوته الرمزية نتيجة التآكل الذاتي المتواصل.

الوقاحةُ إحدى صور الإنهيار وعدم التحكم في المشاعر السلبية نتيجة عدم الإصالة، فلكي يكون الإنسان أصيلاً في أفعاله وأفكاره لايحتاج التعبير عن نفسه بالتوقح والتجاوز. فقط سيكون هناك تعبير سهل مباشر عما يريد ضامناً لمطالبه وحقوقه العادلة، وأن يبدو إنساناً بالمقام الأول. لكن الوقح يصر طوال الوقت بدلاً من ذلك أنْ يعبر عن الخوف بالمزاحمة، وعن فقدان الثقة بالعدوانية، وعن ضعف الشخصية بإدعاء البطولة، وعن فقر الفكر الإبداعي بزعم الاتيان بالجديد، وعن الكراهية بإدعاء حب الآخرين، وعن الإقصاء بإدعاء الصداقة وعن بُخل المشاعر بإفتعال الكلمات الحانية.

علماً بأنَّ المشاعر السلبية تكاد تظهر مباشرةً أيضاً، لأنَّ الوقح لا يستطيع في كل الأحوال مداراة ما يُبطن وأنَّه يتناقض ما يبدو عليه من حالة متزنة. وذلك نظراً لكون تلك الحالة التي يدَّعيها حالة متكلفة ومغتصبة بناء على المظهر فقط ليس أكثر. ونتيجة استعجال جني ثمار المواقف القريبة، فإنَّه لا يستطيع مواصلة الإفتعال أبعدُ مما ينبغي. ولذلك عادةً ما يُصاب الوقح بسوء التقدير وقصر النظر، إنه نمط من الإنسان غير القادر على النظر إلى أبعد.

والحاصل أنَّ الوقح ينهمك في ممارسة الأدوار التمثيلية التي يؤديها، ليس يبعد عينيه عن أقدامه منتظراً ثمار أفعاله سريعاً. إن أيَّ انكشاف له يعني السقوط سريعاً، فالوقح لا يري في الآخر إلاَّ موضوعاً لتضخم أوهامه. ويعجز عجزاً تاماً عن الرؤية المتبصرة، لأنَّ كلَّ قدراته قد انصرفت إلى تشكيل الصورة الحادة. وفي حمأة الموقف الحاد، ينسي هذا الإنسان كل ما يفعله مترقباً ( كقطٍ شرس ) ردود أفعال الآخرين. فهو ينصرف مُسبقاً عما يسببه من آثارٍ، وما يتركه من تداعيات، لكنه ينتبه كل الإنتباه إلى ما يفعل الآخر. وهذا نوع من( التوقُّح المضاعف)، فلئن كان هذا الشخص لا يدرك نتائج أفعاله أو يتجاهلها، فإنَّه فوق ذلك يُحاسِب الآخر على ردوده المنتظرة.

إنَّ أيَّ نقد للوقح يعتبر جريمة من وجهة نظره، على الرغم من كونه دعيّاً إلى درجة الإستفزاز. وبخاصة إلحاحه المتكرر بكونه يرحب بالنقد وأنه منفتح العقل، فلا يمل من تكرار قبول الآخر وقبول وجهات نظره. لكن عندما يتم تطبيق ذلك في أقل المواقف وضوحاً حتى يُثار ويُستفز متخبطاً في الجهات الأربع للمواقف ( اليمين واليسار والشمال والجنوب ). كأنَّ خريطة المواقف تمثل أقاليم جغرافية لهروب الوقح من النقد والمراجعة. وأحياناً يحولها إلى أربع جوانب من حلبة المصارعة وتطويل أمد الصراع مع أوهامه إلى نهاية المدى.

لعلَّ هذا النموذج الثقافي للوقح قائم على التربية الخاطئة بصدد عدم إحترام وإقصاء الآخرين في المجتمع. إذ كانت التربية بالنسبة إليه وسيلة للفطام الرمزي من التدليل والاشباع النفسي السوي ليصبح ذاتاً متضخماً، وبالتأكيد أنه كان موضوعاً للقهر الواقع عليه، حتى أنه سيعوضه بعد ذلك في إطار التوقح مع الغير. والقهر الواقع على هذا النمط كان سخريةً من كيانه وإهماله في مواقف الحياة المختلفة. أي أنه كإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً على صعيد المجتمع المحيط به.

ولهذا يظل الوقح طوال حياته باحثاً عن تأكيد نفسه أمام الناس، وبإمكانه عكس القهر والإهمال في شكل سلوك يُشبع نهمه لإذلال المتعاملين معه، وإشعارهم بكونه مهماً في الحياة أو الشارع. وقد يتحول ذلك السلوك إلى( عمل انتقامي ) من أي إنسان يقابله لمجرد أنه قد وَجدَ الفرصة مواتيةً لذلك. وهذا الوضع يغدو صراعاً مع أشباح غير مرئيين، فبما أنه كان محل احتقار من المحيطين به طوال حياته المبكرة، فإنه يعيد إفراز ما تشبع به من سخط وقهر في مواقف الوقاحة. إنه مثل الاسفنج الذي يمتص إفرازات التعامل مع الناس، ولا يستطيع دفعهم بعيداً. وإذا حان الوقت المناسب لذلك، فإنَّه يخرج ما في جوفه بشكل قميئ. هو كائن بشري يتقيأ الوقاحةُ المغموسة بهذا الميراث الثقافي والتربوي.

يتصرف الوقح انطلاقاً من المبالغة في النرجسية، وهي مبالغة تترجم ضمن سلوك يتجاوز حقوق الآخرين، ويعود بالإشباع المفقود إلى ذات نرجسي لن يتوقف عن تمجيد كيانه الهش. وقد يكون ذلك الفعل نوعاً من الشُعور بالتعالي علي غيره ورسم صورة أنهم مدينون له طوال الخط. ومن وقت لآخر، يطلب الوقح بنفسه تسديد الديون في شكل إخضاعهم لسيطرته الفجة ولهمجيته الآتية من طفولة متأخرة.

كلُّ ذلك يصاحبه ضعف الوعي عند الوقح. لأنَّه لو تأمل قليلاً في مواقفه، سيجد أن الآخرين لهم كيانهم الحُر والمستقل، وأنَّه لو تمادى في هذا الوضع، سيكون مصيره الإلقاء في أقرب سلة مهملاتٍ غير مأسوفٍ عليه. وسيكون مجرد ورقةٍ ممزقةٍ تحمل آثاراً لطفولةٍ بائسةٍ ولحياة ملؤُها القهر والدونية التي يعكسها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى