عمر دغرير - "نهديات السيدة واو" للشاعرة وفاء بوعتور.. عنْ أيّ خدش للحياء تتحدثون، وقدْ مَصصْتمْ ذات النهْد الذي تغنّتْ بهِ الشاعرة؟

ثديا المرأة أجمل ما فيها, وهما موطن جمال وإثارة في جسدها , ومهما حاولتْ إخفاءهما سيظلا معيار جمالها وقبحها , والشعراء في وصف مفاتن الحبيبة تعرضوا للنهدين , وقد أفردوا أكثر من قصيدة خاصة لهما, ولكن أن تخصص شاعرة مجموعات شعرية عديدة للنهدين فهذا في حدّ ذاته سبق في الشعر العربي خصوصا وفي الشعرالعالمي عموما . وهو في ذات الوقت تحدّ وكسر للتابوهات في مجتمع عربي محافظ , ومغامرة من قبل شاعرة اشتغلت على النّهد كغرض صوري ومادّة شِعريّة مُراوغة .وكتبت نصوصا فصوصا وأطلقت على نصوصها كلمة لا توجد في كل القواميس والمراجع اللغوية . فنهديات جمع لكلمة (نهدية) , والنهدية في اعتقادي هي الومضة أو الشذرة التي لا تتجاوز بعض الكلمات وتكون فيها كلمة (نهد) هي المفتاح للولوج إلى ما خلف هذه القصة القصيرة جدا بعيدا عن الجنس و كذلك العقلية التي تقرأ بنصفها الأسفل فقط .والشاعرة تعلم كل العلم أن النهدين هما من أكثر أعضاء المرأة شهوة وإثارة للرجل, وتعلم أيضا أن فيهما مَجْمَع شهوتها وسرّ أنوثتها, وأنهما أكثر الأعضاء في جسد المرأة تعرضا للتحرش.
فهل نجحت الشاعرة وفاء بوعتور في طرح مفهوم جديد للنهد عبر أسلوب شعري مغاير للمألوف ؟
(نهديّات السّيّدة واو) هو في الحقيقة عنوان لأربعة مجموعات شعريّة للشاعرة التونسية وفاء بوعتور . صدرمنها مجموعتان عن دارالمغاربيّة لطباعة وإشهارالكتاب سنة 2021 . وتحتوي الأولى على 366 ومضة (نهديّة) أوشطحة شعريّة متنوعة معنى ومبنى . وتضم الثانية 216 لوحة (نهديّة) تراوغ الناظر أوالمتلقي وتحفزه على الغوص عميقا في معاني الكلمات ,والإبحار بعيدا عن الغرائز الجنسية وعن النهد كعنصر من عناصر والإثارة والإغراء .
والشاعرة في تقديمها لهذا الإنجاز الشعري الفريد من نوعه ,قالت بأن هذه الأشعار تندرج ضمن مشروع فني ضخم شعاره (ألف نهدية ونهدية ) وفيه طرح أسلوبيّ جديد للشِّعر النّثري بحيث ستحاول من حرير كلمة (نهد) حياكة ما تجود به قريحتها من فسيفساءات شعريّة حرّة الانسياب والرّوح والفكرة بعيدا عن إثارة الغرائز والجنس .
والملاحظ أن العنوان الذي تعمدت اختياره لمجموعاتها " نهديات السيدة واو" جاء مستفزا مثيرا للإنتباه . وأظنه أثار جدلا كبيرا بين معارضين ومؤيدين . وكم كثر هؤلاء المعارضون في هذا الزمن بالذات , وقد اعتبروا أن ما تكتبه الشاعرة هو خدش للحياء ,وهوإسفاف لا قيمة له ,ولا ينتمي للشعر ولا للأدب عموما. ومن حسن حظها هناك من أيدها ,ورغم قلتهم , فقد دافعوا عن كتاباتها واعتبروها إبداعًا حقيقيًّا محملًا بالجمال الرمزي، بغض النظرعن الموضوع الذي يتناوله.
والسؤال الذي يفترض طرحه في هذا المجال : لماذا كل هذه المعارضة والرفض لهذا الرسم بالحرف وبالكلمات لنهد لم يكبر طفل دون أن يعبث به ويعضه بأسنانه ويرتوي بحليبه , والحال أن الأدب العربي يزخر بوصف النهدين وأجزاء أخرى من جسد المرأة ولم نسمع أحدا انزعج ,أو حتى نزله في خانة خدش للحياء ؟. وكم قرأنا من توصيفات للنهود ,في العصر القديم ,في كتابات النابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم وأبي نواس , وكذلك في أشعار نزار قباني في العصرالراهن , وهوالذي خص النهدين في قصائده الطويلة والتي جاء فيها ما مايثيرغريزة الرجل والمرأة معا ولا أحد قال عنه شيئا ؟حتى أننا نقرأ في ديوانه (أحلى قصائدي) :
(... نهداك
سمراء...
صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي ...
نهداك نبعا لذةٍ حمراء تشعل لي دمي ...
متمردان على السماء، على القميص المنعم ...
صنمان عاجيان... قد ماجا ببحرٍ مضرمٍ ...
صنمان.. إني أعبد الأصنام رغم تأثمي ...
...................................
مغرورة النهدين... خلي كبرياءك وانعمي
بأصابعي , بزوابعي , برعونتي , بتهجمي ...
فغداً شبابك ينطفي مثل الشعاع المضرم ...
وغداً سيذوي النهد والشفتان منك... فأقدمي ...
وتفكري بمصير نهدك... بعد موت الموسم ...
لا تفزعي.. فاللثم للشعراء غير محرم ...
فكي أسيري صدرك الطفلين... لا... لا تظلمي,
نهداك ما خلقا للثم الثوب... لكن... للفم ...
مجنونةٌ من تحجب النهدين... أو هي تحتمي ...
مجنونةٌ.. من مرّ عهد شبابها لم تلثم...).
أليس هذان النهدان المتمردان الذان ما خلقا للثم الثوب ولكن للفم , كما كتب عنهما الشاعر نزار قباني وتغنى بهما في أكثر من قصيدة , هما نفس النهدين الذين تناولتهُما وفاء بوعتور بالوصف في ديوانها " نهديات السيدة واو " ؟ ولكن يبدو أن ذكر النهود في قصائد نزارقباني مستباح لأنّه جاء على لسان رجل , والرجل بامكانه أن يكتبُ عمّا يشاء . أما ذكر النهود في أشعار امرأة في مجتمع أبوي محافظ يكون فيه الذكر وصيّا على أقوالها وأفعالها أمر مرفوض وهو عار وحرام وكفر وخروج عن الطاعة وقد يعرض الشاعرة للجلد والرجم مثل الزانية .
والشاعرة وفاء بوعتور في تقديمها لأشعارها تقول :
(...شكرا لنهدي المولود من فم الشّعر...
شكرا لأب بارَكَني وبَسْمَلَ وألقى بي في جُبّ اللّغة...) .
ومن هنا تأخذنا الشاعرة في رحلة ساحرة إلى عوالم النهد في اللغة البكر, وهي المتمكنة من البلاغة واللغة الأكاديمية النخبوية بالأساس ,هذه اللغة التي يتحلى بها أهل النخبة.مثل الفيلسوف سارتر في الفوضوية والعبثية, وكذلك مثل المفكرمحمد أركون في عقلانية طرح الأفكار الفوقية التي يتذوقها أهل النخبة من كبارالمثقفين.والثابت أن وفاء بوعتور في هذه الكتابة ابتكرت قالبا جديدا ورمزية حدثية في وصف هذا (النهد) المثير للجدل وبكل جرأة حذفت عن الكلمة قشورها وتمردت على سلطة النص مشبهة علم البلاد الشاحب بالنهد البائس المفتوق , وقد قالت :
(...كان الزّمن مُتَغَضِّنًا
عَفِنًا...
لا يتَعدَّى قُفَّةَ عِظامٍ
أوْ مبْغى ...
وكُنْتُ ألْحظُ ,
من طابِقِ كِتابٍ بارِق
عَلَم بلادي الشّاحِب ,
كأنّه في تدَلِّيهِ
نهدٌ بائس...
مفْتُوق...
لا طَعْم له أو مغْزًى ...).
وفي موقع أخر جعلت للنهد كرمة تماما مثل العنب واستعرضت كيف يعصرالعاشق خمرة النهد في كأس الغروب ليكون وليمة لشكسبير والبؤساء وبخلاء الجاحظ ومجانين السيدة واو .حتى أنها قالت :
(...من كرم نهدي
يعصر عاشقا...
كُلَّ خلوة...
في كأس الغروب
ويسقيه لــِ:
لشكسبير
والبؤساء
وبخلاء الجاحظ
والإخوة كارامازوف.
ومجانين السّيّدة واو!...).
وفي موقع ثالث تقدم نهدها على أنه حي اللسان وسيد الأديان فتقول :
(...هذا نهدي في جانب اللّيل
هشّ....
بشّ...
خَضِل...
ذَرِبٌ...
حيّ اللّسان...
وادع إلى فروته في إبطِكَ...
يتنشّق حِمْضه التّرابيّ المُزّ
ويُكبِّرُ ماتِعًا:
هو الحبّ سيّد الأديان ...).
هكذا نلاحظ تنوعا وثراء في " نهديات السيدة واو" ونلمس اشتغالا جادا وعميقا على (النّهد) حتى صارغرضًا صوريّا ومادّة شِعريّة مبنيّة على الانزياح الإيحائي والمراوغات التي تدهش القارئ, ولا نقرأ هراء وكلاما خادشا للحياء كما يدعي البعض ,لا لشيء وإنما لكون صاحبة النهديات إمرأة . والحقيقة المرة أنهم لا يريدون أن يفهموا كيف يدخلون إلى عالمها الذي لايدركونه بسهولة . لأنها ,وهذا ثابت في كل كتاباتها , تحاكي عالمها بأسلوب خلاق لا يفهمه غير أهل النخبة ,وبالتأكيد لا يعيبون عليها ولا ينعتونها بالفسق والمجون .
وقبل أن أنهي هذه القراءة لا بد أن أذكر ما قالته الشاعرة إثر الحملة التي شنها عليها بعض الرافضين لكتاباتها , بحيث ردت عليهم ردّ الحكيم الواثق من نفسه والمؤمن بعمق الرسالة التي تتضمنها كتاباته :
(...فلتعلموا أنّني أحترم القارئ الشّبقيّ البسيط الذّي يتمثّل النّصّ بأَيْرِهِ لأنّه بلا منازع وفيٌّ لغرائزه وطينه حتّى أنه من صدقه يضاجع في مخياله صاحبة النص لذلك أقابله بالحِلم واللّطافة في حدود الأخلاقيات العامّة الظّاهرة وفي ميزان تحمّلي ضريبةَ جرأتي ونهجي الشّائك في الكتابة. ..).
وأختم بهذه اللوحة الساحرة التي شكلتها الشاعرة بأجمل الكلمات في الغلاف الرابع للكتاب :
(...أتُدرِكون مذاق نهدي
في فم الشِّعر ؟
له حرافة ينتصبُ لها :
لِسانُ العرب ...).
فعن أي خدش للحياء تتحدثون وقد مصصتم ذات النهد الذي تغنت به الشاعرة في أشعارها ؟




1656063342170.png 1656063366082.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى