أ. د. عادل الأسطة - جوخة الحارثي: "سيدات القمر" الجزء الثاني (21 - 45)

21- جوخة الحارثي : المثل الشعبي

ترد الأمثال الشعبية في الرواية ورودا لافتا ، وغالبا ما ترد على لسان ظريفة التي تستحضرها في المواقف التي تريد إبداء رأي فيها في شيء أو سلوك قد لا يروق لها يرتكبه شخص من شخوص الرواية.
يبدو المثل الشعبي استعارة تمثيلية - مشبها به لقول رأي بطريقة تبريء المتكلم أو تعفيه من القول المباشر . إنه خلاصة تجربة تستحضر حين يشاهد المرء حالة مشابهة ليقول قائل المثل لصاحب التجربة الجديدة حكمة ما يتعظ إن كان هناك مجال للاتعاظ أو ليطابق بين حالتين متشابهتين.
لن أقوم بإجراء الاستعارات التمثيلية في كل مكان ورد فيه المثل الشعبي ، ولكني أورد مسردا فيها للقاريء العربي ليقارنها بالأمثال الشائعة في بيئته أو ليلحظ إن كانت هذه الأمثال شائعة فيها . وهذه هي الأمثال التي استطعت رصدها:
- لكن قال المتوصف ( كناية عن قائل المثل ) :" تمشي الريول تخب مين الفؤاد محب ومين ما أشتهي علي كود وتعب " / تمشي الأرجل مسرعة حيث يحب الفؤاد ، وحيث لا أشتهي أشعر بالتثاقل والتعب . 22 ( الرجل بتدب محل ما بتحب )
- ويقول المتوصف :" اللي يودك وده واللي يباك ابغيه واللي يصد بروحه عليك ادعيه " / من يودك بادله الود ، ومن يردك رده ، ومن يصد بنفسه عنك أشير عليك أن تتركه . 22( كما تدين تدان )
- يقول المستوصف :
" أعط المريض شهوته والمعافي الله "22 ( كل وتوكل على الله/ المعافي الله )
- " الحمار لما يشبع يرفس "22 ( نقوله نفسه )
- يقول المتوصف :" المحبوب محبوب جاء ضحى وجاء غروب ، والرامد رامد جاء حاش وسامد " / المحبوب يظل محبوبا مهما كان الوقت الذي يجيء فيه : ضحى أو عند الغروب ، وغير المحبوب يظل غير مرضي عنه مهما اجتهد في الحصاد والسماد . 24 ( وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئا )
- لحم الصغر يأكله الكبر" 25 (تقريبا : قرش الصغر ما بتعوض ) .
- " الشمس ما تغطيها كف "48 (الشمس ما بتتغطى بغريال )
- قال المتوصف :" اللي ينقد يطيح المنقود فيه " /من ينقد الناس يصاب بمثل الشيء الذي انتقده فيهم 59 ( اللي بعاير الناس في اشي بطب فيه )
- " آفتي معرفتي ، وراحتي ما أعرف شي "71 ( ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الشقاوة في الجهالة ينعم )
- " كاسر جارك ولا تنام عصر " / من الأفضل أن تشاجر جارك بدل أن تنام عصرا . 76
- " دابة الشقاء الشقاء " 96
- آه ، صدق المتوصف : الوالد شقي " 105
- " ويقول المتوصف :" أنفك منك ولو خاس " 110 ( الدم ما بيصير مية و الظفر أو العظم ما بطلع من اللحم في المثل الشعبي الفلسطيني )
- يقول المتوصف :" النهار حال حد ، والليل حال حد /النهار للإنس والليل للجن " 128.
وأما قاريء الرواية فلا بد أنه سينظر في السياق الذي أورد فيه قائل المثل مثله وحكمته من وراء تذكره.

***

22- جوخة الحارثي : البطيخة الجاهزة ووصايا أعرابية لابنتها ليلة زفافها :

في معتقداتنا الشعبية الفلسطينية يطلب أهل العريس من ابنهم أن يري في ليلة الدخلة عروسه العين الحمراء ، فيطلبون منه أن يقطع أمامها رأس القط ، حتى تخاف منه وتحسب له حسابا ولا تتجرأ لاحقا عليه .
هل كان هناك من يفعل ذلك حقا أم أن الأمر ضرب من المجاز ؟
في المدارس علمونا نصا أدبيا قيل على لسان امرأة بدوية تنصح ابنتها ليلة زفافها بما عليها أن تسير عليه في حياتها إزاء زوجها ؛ أن تحفظ سره وأن تتزين له فلا يرى منها إلا أطيب ريح وأن تكون له أمة حتى يكون لها عبدا ...إلخ...إلخ .
المرأة العمانية تحتلف عن المرأة البدوية التي حفظنا وصاياها ، فهي ليلة زواج ابنتها تطلب منها ألا تكون بطيخة جاهزة ، حتى لا يعتقد أنها امرأة سهلة فتذهب به الظنون مذاهب شتى ، علما بأن وصايا الأعرابية لا تغيب عن رواية " سيدات القمر " ففي الصفحة الثانية تأتي أسماء على ذكرها لتكرر على مسمع أختها ميا - التي ستخطب - وصايا الأعرابية التي وردت في كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " .
والد أسماء حين يزوجها لا يبالغ في المهر ، فقد رفض أن يشترط على الخطيب أي مهر " قال بغضب :" وهل بنتي سلعة حتى أبيعها ؟ مهرها مهر اللي مثلها " .
وحين تنظر أسماء في جهازها الذي اشترته لها أمها تستغرق في الضحك وتتذكر حكاية أرملة القاضي يوسف " مع هذا النوع من الأساور التقليدية " وتتذكر حكاية مريم فقد حكت لأسماء الحكاية بنفسها.
كان عمر مريم يوم زفت إلى القاضي يوسف أربع عشرة سنة ولم تكن تفهم في الأمر كثيرا حين قالت لها أمها إن الليلة عرسها " وعند الباب كسرت أمي البيض على رجلي وهمست لي : اسمعي يا مريم إياك أن يجدك الرجل بطيخة جاهزة ، دافعي عن نفسك وارفعي رأسنا ، وقاتليه بهذي الأساور اللي في ايديك وضاربيه ، لا تكوني بطيخة جاهزة " .
تأخذ مريم بنصيحة أمها وتظل تضارب القاضي يوسف وتخرمشه كما أوصتها أمها شهرا كاملا .
كان القاضي يوسف كبيرا ومتعلما وظل يلاطف عروسه ويحادثها بالتي هي أحسن ، ويسألها إن كان أهلها أكرهوها على الزواج .
تترحم مريم على زوجها وتعترف لأسماء أنها لم تكن تكرهه وأنه كان رجلا محترما " كان أحسن من أبوي ومن إخوتي ومن كل الناس ، كان راعي علم ودين الله يغفر له ويوسع قبره مثلما وسع دنياي ، لكن يا بنتي كنت أسمع كلام أمي وما أكون بطيخة جاهزة " و "مات صغير يا عيني " ف " دايما الناس الزينين يا بنتي يا أسماء ما يبقوا في الدنيا "
وتظل مريم مخلصة لذكرى زوجها.
إن "سيدات القمر " تحفل بالمعتقدات الشعبية لعمان وهذا لا شك يجعل منها رواية ذات بعد معرفي في هذا الجانب وفي جوانب أخرى ، ولعلني أتوسع أكثر في هذا .

***

23- جوخة الحارثي: المرأة الأفعى

غالبا ما تنعت المرأة الماكرة في ثقافتنا الشعبية بالأفعى . وإذا ما أمعن المرء النظر في كثير من خطابنا المجازي ؛ الذكوري والإناثي ، فإنه يلحظ أن الأفعى تغدو مشبها به لكثيرين ممن يأتون " من طرف اللسان حلاوة " و" يروغ منك كما يروغ الثعلب " وإذا ما آذاك شخص ما فقد تشبهه بالأفعى ." فلان أو فلانة أفعى " نقول أو "مثل الحية ، بقرص وبتخبى " أو " مثل أفعى التبن " وأحيانا نقولها دون استخدام أداة التشبيه " حية " وسياق الكلام يفصح عن المقصود .
وللأفعى حضور في الأدب العربي القديم ، وهي التي سممت أبناء أبي ذؤيب الهذلي ، وكلنا يردد بيت الشعر الذي يستحضر استحضارا مجازيا غالبا :
" لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا " .
مؤخرا قرأت رواية ليلى الأطرش " أبناء الريح " والتفت إلى حضور الأفعى فيها ، فقد كتبت ليلى عن الأفعى في الأسطورة وفي معتقدات الشعب أيضا ، وأتت على فكرة القرين ، فلكل أفعى قرين يثأر ممن يقتل أفعى و.... .
تحضر الأفعى في رواية جوخة حضورا حقيقيا ومجازيا .
كادت أفعى حقيقية تلدغ عبدالله فانتبه إليها والده سليمان وقتلها بعصاه ، وتقتلع والدته شجرة الريحان لأن رائحتها ، كما يعتقد الناس ، تجلب الأفاعي ( في فلسطين يعتقد أهلها أن رائحة الشمام تجلب الأفاعي).
على أن حضور الكلمة غالبا ما يرد على لسان ظريفة قاصدة بها المرأة والمرأة فقط ، ولا ينعت بها في الرواية الرجل . إن الكلمة تقال لتنعت بها حواء .
لقد تتبعت هذا الدال ولاحظت أنه يحضر في الصفحات 21 و22 و23 و31 و71 و135 و 199 و 207. وربما ورد في صفحات أخريات.
" الأفعى ولدت لسنجر بنت " تقول الحماة ظريفة و " نسيت لما كانت ما لاقية حتى دشداشة تلبسها قبل أن يتزوجها ولدي...يا عيني عليك يا ولدي سنجر...طاح حظك في الأفعى " وتعود ظريفة التي التحقت بابنها سنجر وزوجته في الكويت ، تعود إلى عمان وأخذت تسب " الأفعى " زوجة ابنها .
في أماكن أخرى نقرأ أن لندن لم تزرع ريحانا لأن " رائحته تجلب الأفاعي " ويتكرر هذا الاعتقاد في الرواية مرتين .
هل ثمة ترميز في حكاية اختفاء والدة عبدالله زوجة التاجر سليمان ؟
لقد شاهدت عمة عبدالله زوجة أخيها سليمان " هي وسليم عبد الشيخ سعيد تحت شجرة الريحان".
هل جذبت شجرة الريحان المرأة لتمارس الخطيئة كما تجذب الأفاعي؟
في صفحة 29 من الرواية يسأل عبد الله ، بعد أن كبر ، عمته عن موت أمه فتجيبه بأن شجرة الريحان قتلتها . ويستغرب ويتساءل ." يضعون زهورا في طاولات المؤتمرات ولا يضعون الريحان. "كيف يا عمتي ؟ كيف تقتل شجرة الريحان؟ ".
في رواية ليلى الأطرش المذكورة كتابة عن أسطورة عالمية تجسد " العداء الأزلي بين البشر والحية ، فأم الأفاعي جميعها حرضت حواء أم البشر جميعهم على مخالفة المقدس وتجربة المحرم .وحواء بدورها أغوت آدم بتذوق التفاحة المحرمة فطردهم الله من فردوسه " .
ماتت والدة عبدالله واختفى سليم عبد الشيخ سعيد .

***

24- جوخة الحارثي : معتقدات وأساطير

كما لاحظنا ترصد جوخة الحارثي المجتمع العماني والتطورات التي طرأت عليه خلال فترة تربو على المائة والثلاثين عاما .
كان المجتمع مجتمعا إقطاعيا يعتمد على تجارة الرق والسلاح ، ثم منع الرق في 1926 وتحرر العبيد ، ولكن ثقافة تلك الفترة لم تنته بإعلان انتهاء تجارة العبيد وتحريرهم ، فبعض العبيد ظلوا أسرى ما نشأوا عليه ، وهو ما جسدته ظريفة زوجة حبيب وأم سنجر ، وظلت تلهج بالثقافة التي تربت عليها .
كان المجتمع مجتمعا بسيطا وساذجا وكان يحيا حياة فقيرة يسودها الجهل والتخلف والإيمان بالخرافات والأساطير والمعتقدات المشوهة .
تحضر تلك الثقافة في الرواية حضورا لافتا .
إن الإيمان بالجن والسحر جزء من حياة الناس يحيلون إليه كل ما لا يستطيعون تفسيره تفسيرا علميا.
في الصفحات الأولى نقرأ عن إطعام الجن خوفا من العواقب الوخيمة .
حين تلد المرأة يجب أن يذبح لها أربعون دجاجة - في مكان من ثلاثة أمكنة ورد فيها حديث عن الذبح كان الرقم عشرين لا أربعين - ، وحين يطبخ للمرأة النفساء فيجب أن تأكل الجنية من طعامها حتى لا يحل بالأم ومولودها مرض خطير .
تلد ميا ابنتها لندن ، فتطلب ظريفة وميا من زوجها عبدالله أربعين دجاجة (ص13 ) /عشرين (ص14) حتى تقوى المرأة النفساء .
في صفحات لاحقة نقرأ عما كانت ظريفة تفعله في حالات ولادة امرأة .
كانت ظريفة تسند الصينية الثقيلة على رأسها بيدها وتواصل طريقها إلى الخلاء القريب من الصحراء وهناك تنادي الجنية بصوتها الجهوري :" يا بقيعوه...يا بقيعوه...هذا أكلك ودعي لنا أكلنا ، هذا نصيبك ودعي لنا نصيبنا ، هذا من حراثة ميا بنت سالمة - النفاس وما يستتبعه من طعام خاص - دعيها في حالها ، ولا تضريها ولا تضري المولودة " .
وكانت ظريفة قبل يومين من قيامها بهذا المشوار فعلت الشيء نفسه وقامت بمشوار مشابه " من أجل أن تبعد الضرر عن زوجة ابنها النفساء وحفيدتها ، وقامت به أيضا قبل ذلك مرات ومرات وكان النجاح حليفها دائما " .
لقد كان أهل العوافي يعرفون أدق الأسرار "عن بقيعة الجنية التي تحتضن بافتراس كل نفساء لا تطعمها من طعامها " وهو ما فعلته - حسب اعتقاد ظريفة - مع أم عبدالله .
إن رصد المعتقدات والأساطير في الرواية يبدو أمرا طريفا ، مثله مثل القراءة عن ولادة المرأة في عمان قديما وحديثا .
في الرواية كتابة تبرز صورتين لحدث ولادة المرأة ، الأولى في بدايات القرن العشرين والثانية منذ تأسيس المشافي التي يشرف عليها الأوروبيون التبشيريون أولا والدولة لاحقا ، والثانية هي الولادة في البيوت زمن " الداية/ القابلة " ، والولادة في المشافي التي يختارها الجيل الجديد تكون موضع سخرية ممن ولدن عن طريق "الداية " أو ولدن أنفسهن أنفسهن ، ولا تستسيغ والدة ميا إقبال ابنتها على الذهاب إلى المشفى للولادة فيه ، وتقص على ابنتها أنها ولدت كل أبنائها وبناتها في البيت وهي واقفة دون أن تصرخ ، فقد كانت "الداية " مرية تطلب منها ألا تصرخ في أثناء الولادة ، إذ ماذا سيقول الناس عن ابنة الشيخ . "يا فضيحتك يا بنت الشيخ ؟ " ، ولم أقل كلمة واحدة غير :" يا ربي " واليوم يلدن راقدات وصراخهن يسمعه الرجال من آخر المستشفى .. ذهب الحياء..ايه والله " .
ميا تختار مشفى الإرسالية لتلد فيه - تعبير عن توجهها للثقافة الغربية هي التي سمت ابنتها لندن وأعجبت بعلي بن خلف .
لقد تغير المجتمع العماني وهو ، كما لاحظنا ، ما ترصده جوخة وساردوها وشخصياتها ، وليس غريبا أن تصدر العبارة الآتية عن إحدى الشخصيات :" هذا البلد. هذا البلد. كل شيء فيه يتغير بسرعة هائلة".

***

25- جوخة الحارثي : معتقدات شعبية

أعرف قريبا لي له اسمان غلب أحدهما على الآخر ، حتى كاد أقرباؤه ينسون الاسم الأصلي المسجل في شهادة ميلاده ، ولم يعد ينادى به إلا في المؤسسة الرسمية .
مرة سألت والديه عن سبب ازدواجية الاسم فأخبراني به .قالا لي إنه كان نكدا جدا في طفولته وعذبهما فاقترح عليهما بعض معارفهما أن يغيرا اسمه ، وهذا ما فعلاه واختارا له اسم أحد الأنبياء.
من الشخصيات الرئيسة في "سيدات القمر " شخصية الراوي عبدالله الذي يقص فصولا عديدة ، كما لاحظنا ، ويأتي فيها على ماضيه في العوافي .
تختلف حياة عبدالله عن حياة كثيرين فهو يقر بأنه كان محظوظا حقق ما أراد ؛ سافر وكون عائلة وامتلك ثروة وبيتا ونال حظا من العلم .
عبدالله هذا لم يكن منشرحا في طفولته ، فلقد فقد أمه وأرادت عمته بعد أن تصالحت مع زوجها أن تربيه ، لكنها اصطدمت برفض والده الذي أوكل المهمة إلى سريته ومحظيته ظريفة ، فكانت له هذه بمثابة الأم .
يروي عبدالله عن طفولته ونكده ولجوء ظريفة إلى ممارسة بعض الأساليب الاجتماعية السائدة في عمان في تلك الفترة .
لقد اشترى له والده عددا من الشياه الحلوب ، لكن حليبها لم يكن كافيا " لتهدئتي " مما دفع ظريفة "لحشو أنفي بالسعوط أحيانا لأنام ، كما كانت تسكب بعض قطرات القهوة في أذني حين تحدس بأني أبكي لوجع في أذني ، أو تأخذني للمرضعات ليعصرن حليبهن في عيني إن اعتقدت أن سبب بكائي هو ألم في عيني " .
تخشى ظريفة على عبدالله من الحسد ، وما إن يكبر قليلا "حتى علقت الخرز في عنقي لحمايتي " وتقنع أباه أن يثقب أذنه "لتعلق فيهما حلقا فضيا كي لا يعرف أحد من " أهل الليل " أني صبي فيخطفني كما خطف أمي " وتطرز ظريفة لعبدالله طاقياته بيديها ولم تخف فخرها لكونه الطفل الوحيد في العوافي الذي يرتدي في الأعياد نعالا وجبة مزينة بمرايا دائرية صغيرة مجلوبة من الهند.
وعلى الرغم من أنني هنا أكتب عن الطقوس والشعائر والمعتقدات والطب الشعبي إلا أن الفقرة الأخيرة تشير إلى حب بعض العبيد أسيادهم وأولاد أسيادهم أكثر من حبهم أبناءهم ، وإذا ما توقفنا أمام علاقة ظريفة بابنها سنجر وعلاقتها بابن سيدها لاحظنا أنها تحب الأخير أكثر ، وأنها تخلص لسيدها سليمان أكثر من إخلاصها لزوجها حبيب .
في مجتمع الإقطاع تكون ظريفة ملكا للتاجر وهو من يقرر مصيرها .
لقد كانت العلاقة بينها وبين سيدها علاقة حميمية ثم حدثت " الغضبة الكبرى" التي لم تفصح لعبدالله عن سببها .
حين يغضب السيد سليمان من ظريفة يهجرها ويزوجها من حبيب الذي يصغرها بعشر سنوات وهي كارهة له .
شخصية ظريفة تستحق حقا الوقوف أمامها منذ ولادتها حتى إصابتها بالسكر وقطع رجليها .إنها شخصية ظريفة مثل اسمها وهي تعكس نموذجا من نماذج المرأة العمانية في المائة وخمسين عاما الأخيرة ، ومن خلال قصتها يتعرف المرء على تشكل المجتمع العماني .
من المعتقدات الشعبية أيضا ما نعت في الرواية ب " القاشعة " وتعني الأخ الذي يموت إخوته بعده ، بعد ولادتهم فورا . وهذا ما حدث للتاجر هلال بعد ولادة ابنه سليمان .
لقد تهامس الناس أن سليمان مصاب بالقاشعة " الداء الذي يؤدي لقشع أو قتل إخوته من بعده " ، وعليه يأخذه والده إلى الحكيم المختص " الذي أقعد الصبي أمامه باحثا في عظام جمجمته عن العرق الثائر الذي أدى بشدة ثورانه إلى قتل كل صبي يولد بعده ، وأحمى حديدة على النار وكوى بها رأس سليمان في موضع العرق أو القاشعة ، حتى خمدت تماما ولم تعد ثانية لقتل إخوته الذكور ، وهكذا عاش للتاجر هلال بكره سليمان وولده الأخير اسحق " .

***

26- جوخة الحارثي : الطبع والتطبع ؛ الصلاة والسرقة :

من الشخصيات الثانوية في الرواية ، وما أكثرها ، شخصية مروان الطاهر .
يتذكر عبدالله وهو في الطائرة طفولته واصطحاب أبيه له في الزيارات وموائد الطعام والدروس التي أراد أن يعلمه إياها ." أراني طفلا صغيرا ، أنا صبي متنكر في خنجر رجل ، ومصر متقن ، ونعل جديد ، ويد أبي تأخذني إلى مكان بعيد..." " وأنا صبي متنكر في ملابس الكبار الرسمية ، أمثل النسل الوحيد لأبي أمام شيوخ عبري .." ، ويذكره صراخ ابنه محمد بصراخ امرأة عمه اسحق حين دخلت حمام بيتها في وادي عدي لتتوضأ لصلاة الفجر ، ووجدت ابنها مروان الطاهر مقطوع الشرايين بخنجر أبيه ، وهو الصراخ الذي صدر عن ظريفة حين أسلم أبوه الروح في مستشفى النهضة ، وهو ما لم يفعله عبدالله قط إلا منكسا في بئر .
فما هي قصة مروان الطاهر هذا ؟
أشير ابتداء إلى أن القاريء ، أول ما يقرأ قصة مروان ، يتساءل إن كان له أهمية في البناء الروائي.
هل ذكر القصة يخدم العمل الروائي أم أنها حشو يمكن حذفه دون أن يؤثر هذا على الرواية ؟
القراءة الأولى جعلتني أكتب " ماذا لو حذفنا هذه القصة ؟ " ثم اختلف رأيي في القراءة الثالثة .
يقارن عبدالله بين طفولته الحزينة التي عاشها وحيدا بعيدا عن أمه وبين طفولة مروان هذا .
كان مروان الابن الرابع من إخوة ذكور ستة ، ومنذ كان صغيرا وهو يسمع أمه تروي قصة المنام الذي رأته وهي حبلى به ، والتأويل الذي ساقه القاضي يوسف :" تلدين صبيا صالحا طاهرا له شأن".
أرادت أمه أن تسميه محمد أو أحمد ، غير أن أخوين له كانا يحملان الاسمين فسمته تيمنا بأخيها الذي رباها ، وربته على أساس قناعة راسخة بصدق منامها ، فلقبته - ولقبه الناس بعدها - بالطاهر ، واجتهدت أن تغرس في نفسه حب العلم والدين .
اعتزل مروان الآخرين وانصرف إلى الأمر العظيم المنذور له ، ولكنه وهو في الثالثة عشرة من عمره " تسلل في الليل إلى غرفة والديه وسرق النقود من حافظة أبيه " وأخذ يواصل السرقة ويسرق ما لا يحتاج إليه.
عاقبه أبوه وعاقب هو نفسه على ما قام به ، فصام وأفرط في الصيام عقابا حتى " لم يعد يتكلم إلا نادرا ، وحين شحب وجهه من فرط الصيام لم يعد أحد يشك في أنه ولي من أولياء الله الصالحين"
ولكنه واصل السرقة وحين أتم السادسة عشرة أيقن أنه لن يتوقف عن السرقة كما عرف أنه لا يحتاج بكل تأكيد لأي شيء يسرقه " .
وهكذا جمع مروان في نفسه الضدين ، ولم يستوعب أبدا صدمته في ذاته الطاهرة .لم يصدق أنه هو نفسه المعتكف في المسجد من يتسلل ليسرق هذه الأشياء التافهة " .
"وبعد وفاة أبيه وخروج أمه من العدة ، تسلل إلى غرفتها وسرق عطرها الجديد وخنجر أبيه الفضي ومبلغا زهيدا وجده على الطاولة ، وقبل أن يطلع الفجر بقليل قطع شرايين يده السارقة بنصل الخنجر ونزف في خلوته الطاهرة حتى الموت " .
هل أراد عبدالله أن يوازن بين تربيتين ؛ تربية أبيه له ، وهي تربية عادية وتربية رجل لطفل تربية متوازنة بين الناس ، وبين تربية والدة مروان له القائمة على المبالغة في التدين والعزلة والوحدة ؟
هل أرادت جوخة الحارثي أن تقول لنا إن المبالغة في التدين تقود إلى ما انتهى إليه مروان ؟
بعض الناس يصلون ويمارسون ما مارسه مروان وأكثر ، وربما يروي كثيرون ممن يصلون إقدام بعض المصلين على سرقة الأحذية الجديدة من الجامع ولصديقي الدكتور يحيى الشعار رواية عنوانها "حذاء إبليس " لعلني أكتب عنها ذات نهار تقوم على فكرة سرقة الحذاء في الجامع

***

27- جوخة الحارثي : نهايات سوداوية

لو نظرنا إلى نهايات حياة أبرز الشخصيات في الرواية ، فماذا نجد ؟
ابتداء أشير إلى أن نهاية الرواية أقرب إلى نهايات الواقعية النقدية الغربية ،ولا يمكن الزعم بأن نهاية الرواية نهاية تفاؤلية على الرغم من أن الشخصية الساردة فيها ، وهي شخصية رئيسة ترجع دون أن تبتل .
تنتهي الرواية بالفقرة الآتية :
" أظلمت الدنيا ، سمعت صوت سيارتي وهي تنطلق مبتعدة ، لمحت لندن خلف المقود ، حملت محمدا بين ذراعي ، وفكرت أنه مثل السمكة ، اقتربت من البحر الهائج ، وغصت فيه حتى صدري ، حين فتحت ذراعي انزلق محمد مثل السمكة ، ورجعت دون أن ابتل " .
يفقد عبدالله ابنه أو أنه هو يغرقه بقصد ، وينجو .
ولكن حين يمعن المرء النظر في مآل شخصيات كثيرة ، فماذا يلحظ ؟
هنا يمكن التوقف أمام الشخصيات الآتية :
والدة عبدالله ، ونجية القمر ، وظريفة ، وابن عزان الذكر ، وحبيب ، بل ومصير والدة ظريفة عنكبوتة وأولادها .
تحتفي والدة عبدالله وتربيه ظريفة ، ويقتل معاذ اخو سالمة نتيجة انفجار قنبلة تحت قدميه في أثناء مهمة استكشافية في حرب الجبل الأخضر ، وتعيش أمه بعد فقدان ولدها الوحيد عشر سنوات ميتة في عداد الأحياء لا تتذوق طعما جميلا للحياة ، ويختفي حبيب زوج ظريفة ولا تعرف عنه شيئا وإن ارتاحت لفقدانه ، وتكون نهاية ظريفة نهاية مأساوية فقد استفحل السكري في جسدها وبتروا ساقيها وتخلى عنها أقرباؤها وجيرانها ، فمن سيجر هذا الجسد الضخم بلا قدمين ؟ والوحيد الذي لان هو مدير المستشفى فتركها نزيلة دائمة تخدمها الممرضات .
مصير نجية القمر البدوية العاشقة لم يكن أفضل حالا .تختفي هذه وتكثر الأقاويل حول اختفائها ، ومن هذه الأقاويل أن أخاها الذي عملت على شفائه متفرعة له حتى يصح ويتخلص من كساحه هو الذي قتلها ، بعد أن دربه الناس على إطلاق الرصاص و " أفهموه أن أخته عار عليهم كلهم ، وعلموه كيف يتحكم بالمسدس ، ودفنوا جثمانها سرا بالليل تحت عرق الرمل " .
ومات سنجور في الأربعين من عمره بالسل وكان خلف بنتين ماتتا بالسل أيضا وصبيا تزوج وأنجب صبيانا وبنتا واحدة قبل أن ينضم لعصابات قاطعة للطريق ويختفي ، لتنشأ ابنته عنكبوتة بعد أن بيع إخوتها جميعا " يتيمة في بيت الشيخ سعيد الذي استلم للتو مقاليد المشيخة من أبيه وهو لما يصل السادسة عشرة من عمره المديد جدا " .
كما لو أن لا شيء يفرح . وحتى لندن خلعت خطيبها ، وصديقتها حنان تعرضت للاغتصاب وخولة انفصلت عن زوجها ناصر ، وناصر طردته صديقته الأجنبية ، وعلي بن خلف رجع من لندن بلا شهادة و ... و .. ويا لوحشة الطريق !
ربما يبدو استخدام مصطلحات نقدية تعود إلى حقبة ما قبل ثمانينيات القرن الماضي ، ربما يبدو استخدامها الآن مستهجن ، وربما ما عاد يستخدمها إلا النقاد الذين تربوا على نقد الستينيات من القرن العشرين ، ولكن رواية " سيدات القمر " تفرض نفسها وتسترجع تلك المصطلحات النقدية .

***

28- جوخة الحارثي : حول العنوان

هناك دراسة للدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة تناول فيها سيميائية الخطاب الروائى العماني معتمدا على رواية "سيدات القمر نموذجا " ، وتوقف أمام دال العنوان والعتبات وسيميائية الأسماء ، ويمكن للقاريء أن يعود إليها فهي مدرجة على الإنترنت .
هنا سوف أقدم قراءتي للعنوان ، وقد تتشابه مع ما ذهب إليه صاحب الدراسة وقد لا تتشابه .
أشير ، ابتداء ، إلى أن دال قمر تردد في الرواية بكثرة على النحو الآتي :
- ص37 " آنسه اكتمال القمر وهو يطلع ظلالا أليفة على الكثبان الرملية " - القمر كوكب في السماء.
- ص38 "أنا نجية وألقب بالقمر ، و أريدك أنت " " لقد لاحت له تحت ضوء القمر كأنها من الحور العين"
- ص39 وقد تكرر الدال ست مرات لنعت نجية به ؛ منها ما تنعت نجية نفسها به ، ومنها نعت صديقتها حزينة لها " تعرف أنها تلقب بالقمر " وتخاطبها صديقتها بالقمر لا باسمها نجية
- ص 40 يتكرر الدال مرتين .
- ص41 " ولما تفتحت أنوثتها ووصل خبر عبيرها القاصي والداني لقبها الناس بالقمر ، استهزأت بخطابها الكثيرين وتفرغت لأخيها وثروتها "
- ص 78 " هل بدأ الناس يحسون بالقمر ! .. نجية القمر " - إشارة إلى علاقتها بعزان المتزوج .
- ص102 و 103 و 105 و 153 و 163 و 164 " رأس عزان في حجر القمر " " همست القمر " "غصت القمر بريقها " " تساءلت القمر " " تساقط الدمع من عيني القمر " "ضمها عزان بقوة .. آه يا نجية ... يالقمر " " يا قمري "" وخلاخيل القمر الفضية " والدال في كل ما ورد واضح . إنه دال مجازي .
- ص176 " يا أسماء إنه يستند على أسطورة قديمة : كان الناس جنسا واحدا : ذكرا وأنثى في الوقت نفسه وهم أبناء القمر ، لكل إنسان أربع أيد وأربع أرجل ورأسان ، ولكن الآلهة خافت من نفوذ هؤلاء الناس فشطرتهم شطرين وبقي مكان السرة في البطن تذكيرا لهم بهذا الانفصال ، وهكذا أصبح الناس جنسين ويبحث كل شطر عن شطره الضائع ليتحد به من جديد " /حديث خالد وزوجته أسماء عن رأي ابن حزم في "طوق الحمامة "
- ص 182 كتابة عن الأبراج السماوية
" كان زحل مستقيما وكان الرجل الواقف وحيدا في الصحراء مستعدا.
أعد دخن زحل : الزعفران ، وقشور الكتان ، ووسخ الصوف ومخ السنور . كان قد تأكد من قبل أن الطالع برج متقلب ، والقمر أيضا في برج متقلب ، وزحل والمريخ ناظران إلى القمر ، تنفس الرجل الصعداء ، ومض بخاطره وجه المرأة في الظلام خارجة من بيته وهو يناديها بعروس الفلج .
أصبح زحل الآن في وتد السماء ناظرا إلى النيرين ، وأسقط النيرين بعضهما عن بعض .
مزج الرجل الدخن : الزعفران والقشور والمخ ووسخ الصوف و أحرقه بخورا بين يديه ، ثم ارتدى ثيابه مستعدا للاتصال بزحل .... حتى " ص183 " " إلا قطعت نجية بنت شيخة عن عزان بن ميا بحق هذه الأرواح الروحانية ، وفرقت بينهما كافتراق النور والظلمة ، وألقيت بينهما العداوة والبغضاء كعداوة الماء والنار..."
- ص198 مما كتبه القاضي يوسف بن عبد الرحمن حيث تقرأ أسماء على مسمع أبيها :
" اعلم أن الكواكب كلها تفرغ جواهرها في القمر ، والقمر يفرغها في الماء ، ومن الماء ينقسم في الجواهر كلها ، والقمر هو الخازن لما في العلو والسفل ، وينقل من الأعلى إلى الأسفل ، والقمر أشبه الكواكب بأمور الدنيا ولشدة مشابهته بها صار دليلا على كل الأمور ، واحفظ حال القمر فإن صحته صحة كل شيء وفساده فساد كل شيء ، وذهاب القمر إلى كوكب يقوي ما يدل عليه ذلك الكوكب ، وانصراف القمر عن كوكب يضعف ما يدل عليه ذلك الكوكب ، وإذا كان القمر زائد النور متصلا بالمريخ فهو أجود ما يكون ، وإذا كان القمر ناقصا في النور واتصل بزحل أو ذهب إليه فهو أردى ما يكون "
- ص 208 عبدالله وهو في الطائرة ينتظر وصوله إلى فرانكفورت يتذكر نفسه في حجر مربيته ظريفة " في الحوش الشرقي من البيت الكبير ، عيوني مفتوحة على القمر المكتمل في السماء، وظريفة تمسد شعري وتحكي :
كانت عنزة تسكن ... "
وربما كان السؤال الأول هو : من هن سيدات القمر ؟ وهل دال القمر هنا دال حقيقي أم أنه دال مجازي ؟ هل القمر في العنوان هو الكوكب في السماء أم أنه شخص بعينه ؟ فالدال ورد في الأدب العربي القديم وفي القرآن مستخدما تارة استخداما حقيقيا وطورا استخداما مجازيا ، ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر .. ) و :
أمانا أيها القمر المطل
فمن جفنيك أسياف تسل "
و:
غاب قمير كنت أهوى غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر "
وفي الرواية ورد أول ما ورد بمعناه الحقيقي ، فعزان كان عائدا في ليلة اكتمل فيها القمر إلى بيته ، وآثر المشي لا ركوب سيارته التي ركنها عند البدو ، وفي أثناء عودته تعرضت له نجية الفتاة البدوية التي شبهت لجمالها بالقمر ، وأخذ الناس ينادونها بالقمر لا باسمها ، وفي الصفحات 37 حتى 41 يستخدم دال القمر للدلالة عليها أكثر من استخدام اسمها نجية . هل نجية هي سيدة القمر لأنها ظهرت في الليل لعزان واعترضت طريقه وكل من تسلك سلوكها في الليالي المقمرة تكون سيدة من سيدات القمر . إن كانت نجية ومن يشبهنها هن سيدات القمر فهن إذن النساء الجميلات الحرات اللاتي لا يخضعن إلا لإرادتهن ، وهن بذلك النساء القويات المعتدات بأنفسهن .هذا احتمال ، وأن أخذنا به فلا ضرورة لاجتهادات أخرى ، ولكن العلاقة بين العنوان والنص لتحديد معنى العنوان لا تنتهي إلا بنتهاء قراءة النص قراءة عميقة وجادة ومفكر فيها .
ولو افترضنا أن نجية هي المقصودة بالعنوان فإن السؤال هو من هن السيدات اللاتي تدور في فلكهن؟
في حديث الفنان خالد مع زوجته أسماء يأتيان على كتاب ابن حزم الأندلسي " طوق الحمامة في الألفة والألاف " وما قاله عن المحبين وأن كل نصف يبحث عن نصفه ، فقد كان الاثنان أصلا روحا واحدة انشطرت إلى شطرين ، ثم أخذ كل نصف يبحث عن نصفه.
يروي خالد لزوجته أسطورة قديمة تقول إن الناس هم أبناء القمر ، وأن الانسان الواحد كانت له أربعة أيدي وأربعة أرجل ثم انقسم إلى شطرين ، وأن كل شطر أخذ يبحث عن نصفه الآخر . هكذا يكون خالد وأسماء عادا حين تزوجا إلى ما كانا عليه .
العلاقة بين عزان ونجية القمر فاحت رائحتها وأحس بها الآخرون وتركت أثرها على علاقته بزوجته وبناته لدرجة أنه لم يكترث كثيرا لخطبة أسماء وزواجها ، فقد آثر السهر مع عشيقته على عرس ابنته . هذا الذي وصلت إليه العلاقة بين رب الأسرة وأسرته دفع بالعائلة إلى اللجوء إلى السحر لفك علاقة عزان بنجية وهنا يستعان بالأجرام السماوية .
حين يمرض عزان ويصاب بالحمى بعد انفصاله عن نجية القمر التي اختفت يطلب من ابنته أسماء أن تقرأ له قصيدة المتنبي التي مطلعها :
" ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل "
ثم يشير بيده إلى كتاب / دفتر قديم للقاضي يوسف ويطلب من ابنته أن تقرأ له في صفحة محددة توقف أمامها من قبل .
النص الذي ورد في كتاب/ دفتر القاضي يوسف يتحدث عن علاقة الأجرام السماوية بالقمر ، وأعتقد أن ما ورد عن القمر بالأجرام اقترابا وابتعادا تعبير مجازي عن حالته هو ونجية القمر . اقتربت منه فصح جسده واستقام ، ثم اختفت من حياته فاصابته الحمى .

***

29- جوخة الحارثي : المجتمع العماني ومظاهر الحياة الجديدة :

وأنا أقرأ " سيدات القمر " تذكرت الشاعر العراقي مظفر النواب وهجاءه السلطان قابوس بن سعيد.
هجا مظفر النواب الحكام العرب كلهم إلا جمال عبد الناصر وربما قلة قليلة جدا أخرى .
حاكم الشاعر الحكام وسخر منهم وتهكم على بعضهم ، وكان للسلطان قابوس نصيب ، حين قال مظفر:
وقابوس هذا سلطان وطني جدا جدا ، ولذلك تسامح في لبس النعل ووضع النظارات ، فكان أن اعترفت بمآثره الجامعة العربية يحفظها الله " وفي موطن آخر سخر مظفر من السلطنة التي ثلاثة أرباعها لحية مظلمة .
مظفر النواب شاعر ايديولوجي صاحب موقف ولا خلاف على هذا ، ولست هنا في سبيل تحديد موقف شخصي من الشاعر أو السلطان ، وإن كنت كفلسطيني أميل إلى مواقف شعراء الرفض .
ما يهمني هنا هو لبس النعل ووضع النظارات في سلطنة عمان وصلة الرواية بهذين الأمرين .
تأتي جوخة الحارثي على لسان شخصياتها الروائية على مواقف أهل عمان من الجديد القادم من الغرب ، وتنظر إليه بعض الشخصيات على أنه بدعة وضلالة ، ويمكن التوقف أمام الآتي :
- لبس النعل
- التعامل مع السيارة
- الموقف من المكيفات
- الحلاق
- مواد التجميل .
يتم ذكر النعل في الرواية غير مرة ، فبعض الشخصيات تتنازل أحيانا عن لبسه ونجية مثلا لا تذهب إلى المدرسة وتفخر بهذا وتفخر بعدم انتعاله مثل الفتيات اللاتي ذهبن إلى المدرسة .
وتشتري بعض الشخصيات السيارة للتباهي وترفض أن تسخرها لخدمة الناس للذهاب بها من أجل معالجة الطفل المريض ، بل إن صاحب السيارة لا يؤمن بالدخاتر / الدكاترة ، وهكذا يموت الطفل.
وتنظر ظريفة إلى السيارة والمكيفات على أنها بدعة ، وأما الحلاق فإنه يشتري ماكنة الحلاقة ويحلق بها الشعر كله فهو ليس فنانا ولا يحسن استخدام ماكينة الحلاقة . وبخصوص مواد التجميل فإن إحدى الأخوات الثلاثة ترغب فيها ولكنها تخشى من أمها ، فتلجأ إلى السر .
طبعا لا تخلو الرواية من الإتيان على تقبل هذه الأشياء في فترة لاحقة ، فتسوق الفتاة السيارة وتتزين وتملك الهاتف المحمول وما شابه .
في الحديث عن القديم والجديد والفرق بين الجمال الطبيعي والتجمل ، بين جمال البدويات الطبيعي وتجمل بنات الحضر ، غالبا ما يستحضر رافضو التجمل أبيات المتنبي :
"أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا زج الحواجيب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وللبداوة حسن غير مجلوب "
إن أبيات المتنبي هذه تحضر في الرواية حين كان عزان ، بعد حفل زفاف ابنته أسماء ، مع نجية يتقلب على الرمل البارد ويتأمل وجهها الذي لم ير في حياته شيئا أجمل منه .
لكن ما لا يجب أن ننساه هو أن كثيرين من أهل عمان تقبلوا الجديد وساروا في ركابه ، كما لو أن الحياة تنتصر دائما لما هو جديد ، وإن ظل بعض المحافظين يرون في الجديد بدعة " فالمراوح الكهربائية بل المكيفات في بعض البيوت قد أغنت عن ذلك - أي الذهاب إلى المزارع وترك البيوت هربا من الحر - ، " المكيفات البدعة " كما تسميها ظريفة ، وحين اشترى الشيخ سعيد السيارة وأتى بها إلى العوافي "خرج الناس من بيوتهم لمشاهدتها ، أمه العجوز توكأت على عبداتها وخرجت لتراها " وحين سمعت صوتها رجمتها بالحجارة ، صرخت لأهل العوافي أنها من عمل الشيطان وكسرت إحدى نوافذها بحصاة ضخمة" ...إلخ إلخ.
هل كان مظفر النواب تجنى؟

***

30- جوخة الحارثي : سيدات القمر ، عبيدات القمر

اتضح مما سبق أن الرواية تأتي على ثنائيات عديدة في حياة المجتمع العماني ويمكن حصرها عموما في الثنائيات الآتية :
- الماضي والحاضر
- القديم والجديد
- الأسياد والعبيد
- البدو والريف
- الرجل والمرأة
- الوطن والمنفى
- الآباء والأبناء
- الواقع والأسطورة
وكل ثنائية من هذه الثنائيات قابلة لأن يخاض فيها بتفصيل أكثر .
اليوم كنت أحاضر حول مدلولات العنوان ، وهو ما توقفت أمامه عموما ، وقد أصغيت إلى اجتهادات الطلاب التي كنت كلفتهم بها وقادني الحوار إلى أكثر مما كتبت تحت عنوان " دال العنوان " .
ما خطر في بالي في المحاضرة هو الآتي :
إن العنوان " سيدات القمر " يفترض غيابا واضحا يتمثل في نقيض دال سيدات وهو عبدات ، والرواية لا تتحدث عن السيدات وحسب ، فهي تأتي على العبدات ، ومقابل نجية على سببل المثال هناك ظريفة التي ترضى بأن تكون عبدة تماما ، ولا تتمرد على عبوديتها إلا في حالة واحدة وذلك حين تذهب إلى حفل الزار .
حين يكون هناك زار تذهب إليه ظريفة غير آبهة لأحد حتى لسيدها سليمان التاجر ، ودون الزار هي عبدة عبودية مطلقة لا تقتصر عليها فهي تستاء حين يتمرد زوجها حبيب وابنها سنجر على عبوديتهما .
تذكرت تحليل ( يوري لوتمان ) للنصوص الرومانية القديمة والثنائيات التي حفلت بها ووجدتني أطبق ما قاله عنها على شخصيات " سيدات القمر " وتحديدا على نجية وظريفة ، باعتبار الأولى تشكل طرفا هو الأسياد والثانية تشكل الطرف الثاني وهو العبيد .
يحضر دال سيدات في العنوان ولا يحضر دال عبدات ، وهنا أشير إلى ثنائية الحضور والغياب باعتبارها خصيصة من خصائص البنيوية .
وكنا لاحظنا أن الشخصية الوحيدة التي نعتت بالقمر ، من طرفها ومن طرف الآخرين ، مثل صديقتها حزينة ورجلها عزان وآخرين ، ولم تنعت أية شخصية أخرى غيرها بهذا ، وهذا دفعني إلى سؤال الطلاب السؤال الآتي :
- ما دامت نجية فقط هي التي وصفت في الرواية بالقمر ، فلماذا لم تختر جوخة الحارثي دال سيدة عوضا عن سيدات ؟ ولماذا لم يكن العنوان " سيدة القمر " لا " سيدات القمر " ؟ إن شخصية واحدة فقط هي التي وصفت بهذا ، فلم توصف به ميا أو أسماء أو خولة أو لندن ؟
وقادنا الحوار إلى الوقوف أمام دال السيد ودال القمر وما يعنيه كل منهما ، وقادنا الحديث إلى الفرق بين مجتمع البدو ومجتمع الريف . إن نجية هي امرأة بدوية والبدو يختلفون عن مجتمع الريف ، والمجتمع الأخير يقوم على فكرة التملك التي رفضتها نجية . وافقت ظريفة على أن تكون خادمة وممتلكة لسيدها ورضيت بهذا ، ورفضت نجية أن يمتلكها أحد وأرادت أن تكون سيدة .
بقي طبعا استخدام الجمع لا المفرد . لماذا سيدات القمر مثلا لا سيدة القمر ما دمنا لم نقرأ أي وصف لأية امرأة أخرى بالقمر ؟
نجية تمثل نفسها وتمثل غيرها من البدويات اللاتي يتصرفن تصرفها . وهي التي تختار رجلها وترفض أن يتملكها وتريد علاقة حرة وتفضل حريتها على أي شيء ، ولما كانت رأت عزان في ليلة اكتمال القمر ، فقد أرادته هو ورفضت غيره وسلكت سلوك الأسياد لا سلوك العبيد ، واختلفت عن ظريفة التي حين غضب منها صاحبها زوجها إلى عبده حببب دون موافقتها ووافقت ولم ترفض .
إن نجية البدوية واحدة قد نجد مثلها في الواقع وإن لم نجد في الرواية ، وهؤلاء النسوة هن سيدات القمر ويبدو أن جوخة الحارثي رأت أنهن هن من يستحققن أن يتسيدن العنوان الروائي ؟
هل شططت؟

***

31- جوخة الحارثي : مرايا الآخر . مصر والمصريون

يحضر الآخر غير العماني في الرواية مجسدا في المصريين والانجليز من خلال شخصيات مصرية وانجليزية أكثر من حضور هؤلاء في ذهن العمانيين ، فعمان التي بدأت تنشيء المدارس ابتداء ، قبل تأسيس جامعة السلطان قابوس ، كانت بحاجة إلى المدرسين ، وحضر هؤلاء في الرواية مجسدين بالأستاذين ؛ المصري ممدوح والانجليزي بيل . وحضرت مصر في الرواية من خلال لجوء بعض العمانيين المعارضين سياسيا إليها ، مجسدين في العماني عيسى المهاجر وعائلته . أما بريطانيا التي درست الكاتبة في جامعاتها فلم تحضر ولم نقرأ عن حياة عمانيين فيها يقطنون في بيوتها ويخالطون سكانها . لقد حضرت بريطانيا من خلال الحديث عن أشخاص عمانيين درسوا في جامعاتها وعادوا فاشلين ، ومن خلال إطلاق اسم عاصمة بريطانيا على ابنة عبدالله وميا .
تبدو الصورة التي ظهرت في الرواية للمعلم ممدوح طريفة ، وقد تكررت الكتابة عنه في صفحات عديدة ( 19 و41 و 53 و66 ) .
ولكن قبل تجسده في الرواية كان ثمة فكرة عن مصر والثقافة المصرية في أذهان بعض العمانيين ، فحين يسأل عبدالله زوجته ميا إن كانت تحبه تسأله عن مصدر كلامه من أين أتى به . هل أتى به من المسلسلات المصرية :
" - من أين جاء لك كلام المسلسلات هذا يا رجل... أم أن الدش والأفلام المصرية خربت عقلك ؟" .
وحين يقترح عبدالله على أبيه فكرة الدراسة في مصر يرفض والده ويحلف بلحيته أنه لن يسمح له بالخروج من عمان ، فالسفر إلى مصر أو العراق يعلم المرء السفالة :" تريد تتسفل ؟ وترجع من مصر والعراق حالق لحيتك تدخن وتشرب ؟ " ، ويصر سليمان على عدم السماح لابنه بمواصلة التعليم ، فالتعليم مفسدة والتجارة أربح .
الأستاذ المصري ممدوح يرفع الكلفة بينه وبين طلابه ويبدو دنيء النفس ، فهو يسأل عبدالله عن الحلوى العمانية :
" بكرة هات حلوى؟ " وكان الأستاذ يطلب طلبه من غير طالب .
اللهجة المصرية ومثلها اللهجة السودانية على لسان المعلمات تضايق نجية التي لا تحب أيضا المدرسة ، وبهذه اللهجة يتكلم الأستاذ ممدوح ( ص 53 ) .
لقد ذهب الأستاذ ممدوح إلى عمان "خدمة للقومية والعروبة " ( ص٢٨ ) كما يقول ، ويبدو أن ذهابه كان في الفترة الناصرية التي طغى فيها الحس القومي العروبي الذي آمن به جمال عبد الناصر وعمل على تحقيقه وانتشاره ، ففتح مصر على مصراعيها للعرب وعاملهم معاملة المصريين ، فتعلموا في جامعاتها وذهب المعلمون المصريون إلى البلدان العربية ليعلموا في مدارسها . حقا إن ذلك لم ينقطع في فترات لاحقة ولكن البعد القومي والاشتراكي كانا طابع الخطاب السائد في حينه ، وعن هذا الخطاب يصدر كلام ممدوح .
لقد كان الأستاذ ممدوح متأثرا بالفكر الاشتراكي ، فحين يدرس الطلاب سورة ( الهمزة ) يفيض في " شتم الأغنياء وتكديس المال والتجار الذين يكنزون الذهب " وحين يسأل الطلاب عن مهن آبائهم يفتخرون بأنهم أبناء مزارعين وحدادين ونجارين و..." ويخحل عبدالله لأنه ابن تاجر " لكني أحسست بالخزي والعار وتمنيت لو كان أبي مزارعا كمعظم الآباء " ، والطريف أن عبدالله مع أنه ابن تاجر إلا أن والده لم يكن يعطيه المال وهو ذاهب إلى المدرسة ، خلافا لبقية زملائه الذين أعطاهم آباؤهم . كما لو أن الأستاذ ممدوح كان ناصريا متأثرا بالأفكار التي سادت في مصر بعد العام 1952 .
خالد ابن عيسى المهاجر يقص على زوجته أسماء عن الفرق بين عمان والعوافي والقاهرة وينحاز وهو في القاهرة إليها وإلى الحياة فيها ، وإن تغير موقفه من بلده عمان حين عاد ليستقر فيه .
حين كان خالد في القاهرة تسكع في شوارعها وكان له هناك أصدقاء حقيقيون يهتفون في المظاهرات ، ويرسمون ، ويحلمون ، ويعاكسون . إن صورة الوطن لمن هو في المنفى وصورته لمن عاد إليه لجديرة بكتابة خاصة.
كيف بدت صورة الانجليزي بيل في "سيدات القمر " ؟
هذا ما سوف أضيئه لاحقا ؟

***

32- جوخة الحارثي : مرايا الآخر ، الانجليز

على الرغم من أسفار عبدالله الكثيرة ، حيث يقص صفحات عديدة وهو في الطائرة ، إلا أننا لا نعرف منه الكثير عن سكان البلاد التي حل في سفراته فيها . إنه مثلا يذكر مطار فرانكفورت ولكنه لا يقول لنا شيئا عن الألمان .
عموما يبدو السؤال المهم هو :
- هل هناك في الرواية آخر يمكن الكتابة عنه ؟
لا تحفل الرواية ، في هذا الجانب ، بما يمكن أن يشكل اضافة للرواية العربية . فالآخر يبدو فيها أشبه بشبح مع أن السلطنة كانت تخضع للاستعمار وكانت يده فيها طولى .
ثمة شيء دفين لدى بعض الشخصيات مثل ميا يدفع بها إلى التطلع نحو الغرب ، ولهذا اختارت لابنتها الاسم لندن ، وكانت ترفض أن تلد في البيت وتصر على الولادة في المشفى ، ما يعني انحيازها للعالم الجديد ؛ العالم العصري ، وحين تتردد على مكتبة العائلة في مسقط تشتري منها كتبا مكتوبة باللغة الانجليزية على الرغم من أن لغتها الانجليزية عادية ، فهي تعلمت وهي كبيرة في العمر في صفوف تعليم الكبار .
تطالعنا في الرواية شخصيات انجليزية قليلة هي المعلم بيل والمبشر طومس ، ونقرأ عن دور الانجليز في تحديد شكل السلطنة السياسي ، فطائرات الانجليز تتدخل في الحرب لصالح طرف ضد آخر . لكن الاستعمار البريطاني لم يكن له وجه واحد . وجه سلبي ، فثمة وجه ثان له يبدو ايجابيا .
ينشيء الانجليز المشافي والمدارس ويفتتحون المكتبات وإن كانت الكتب التي تباع فيها هي الأناجيل بقصد تنصير العمانيين وتحويلهم إلى المسيحية .
أحد المسؤولين الكبار في اربعينيات القرن العشرين يبدو مذعورا من فكرة تعليم العمانيين ، ولذلك نجده يقول لحليفه الانجليزي :" هل نعلم العمانيين كما علمتم الهنود فثاروا عليكم ، وعما قريب سيطردونكم ؟" ، ويؤدي هذا الكلام إلى إجهاض مشروع المدرسة في صور ( ص147 ) .
من الشخصيات الانجليزية اللافتة شخصية المعلم بيل . يتكلم هذا بلغة عربية سليمة ويطلب من صديقه العماني أن يتعلم الانجليزية ، فهذه لغة عالمية وهي لغة ضرورية حتى يسير المرء أموره في الفنادق والمطاعم ، فما من مطعم في البلاد العربية المحيطة إلا ويجيد موظفوه الانجليزية وينطقون بها .
بيل الانجليزي هذا يبدو ذكيا ويشع ذكاء ، وهو يبدو مخلصا في عمله ويتقن العربية. " كانت عيناه زرقاوين ولا تشفان عن شيء ، لكن ابتسامته تنم عن ذكاء شديد " . و " لكن بيل كان يبتسم ، فيشع الذكاء من ابتسامته وحدها " ( 137 ) .
في الصفحات الأخيرة من الرواية نقرأ عن طومس ، فحين يتحدث عبدالله وابنته لندن عن موت والدته يأتيان على المبشر الانجليزي المشهور الذي كان يعالج الناس مجانا من الفجر حتى آخر الليل".
ما لا ينبغي أن يغيب عن الذاكرة هو النموذج النسوي الغربي الذي نعرف عنه من خلال الشخصيات العربية ويتمثل في صديقة ناصر زوج خولة لاحقا .
يقيم ناصر بعد سفره من عمان إلى الغرب ليواصل دراسته علاقة مع فتاة أجنبية تنتهي بالانفصال ، ولا يبادر هو بهذا الفعل . إن المرأة الأجنبية هي من تطرده ، وتبدو شخصية مستقلة تعتمد على ذاتها ولا يمارس سلوكها في الرواية إلا الجيل الجديد من الشابات العمانيات مثل خولة ولندن ، فهاتان تبادران إلى الانفصال عمن ارتبطتا به . لا نصغي إلى المرأة الأجنبية تتكلم وإنما نعرف كما ذكرت من خلال الشخصيات العربية .
حين كتبت جوخة الحارثي روايتها كانت تعد للدكتوراه في بريطانيا ، ولا أعرف إن كانت رواياتها الأخرى تأتي على شيء من حياتها هناك وعلاقتها بالانجليز وتصوير نماذج أخرى مختلفة عن النماذج التي قدمتها في " سيدات القمر " .
ما بقي من كتابة عن آخر ثالث يبدو قليلا ، وربما كانت كتابة عابرة ، بخاصة فيما يخص الأفارقة أو الهنود أو.... .

***

٣٣- جوخة الحارثي : لوحة الغلاف

في النقاش الذي دار بيني وبين طلاب مساق " موضوع في الأدب الحديث " لطلبة الماجستير ، ونحن نأتي على العنوان سأل أحد الحضور عن لوحة الغلاف ودلالاتها .
لقد كنت أمعنت النظر في لوحة غلاف الطبعة الأولى الصادرة عن دار الآداب في بيروت في العام ٢٠١٢ ، وبحثت عن اسم صاحب اللوحة ، ولكني لم أعثر على اسم .
يخيل إلي أن النسخة التي بحوزتي نسخة مصورة عن طبعة دار الآداب لا النسخة الأصلية ، والصورة غير الأصل عموما .
يبدو العنوان " سيدات القمر " بحرف مضيء ، خلافا لاسم جوخة الحارثي المكتوب باللون الأسود على خلفية ثلثها أسود وثلثاها بيضاوان . وثمة قسم من جسد امرأة لا يظهر فيه رأسها وإنما تظهر فيه يد امرأة ترتدي ملابس بدوية أو ريفية قبضة يدها مبسوطة تقريبا مع انحناءة في الأصابع التي تلبس في بنصرها وسبابتها وإبهامها خواتم ويمتليء القسم الأول من الذراع بالذهب ، وتبدو يدها محناة ، والحناء يحضر في الرواية غير مرة وهو جزء من تقاليد الأعراس في فلسطين ، وفي أغاني الأعراس يقول المغني في الزفة مخاطبا العريس :
" يا عريس تهنى
جبنالك غزال محنى " .
إذا انتقلنا من لوحة الغلاف إلى المتن الروائى فماذا نقرأ مما يتطابق مع الصورة ؟
يمكن النظر في الصفحات الآتية على سبيل المثال :
ص١١٥ وص ١١٩ وص ١٥٥ وص ١٦٤ وص ١٨٨ ولنقرأ ما ورد فيها :
- يروي عبدالله عن عمته " ويدها النحيلة البيضاء مزينة بعدة خواتم ذهبية ، ويحيط بكلا معصميها نصف دستة من الأساور الغليظة المشغولة التي تصدر رنة مميزة كلما رفعت يدها لتشير بأصابعها بعدائية في وجه شخص ما..."
- في ص ١١٩ قرأنا عما فعلته زوجة القاضي عبد الرحمن به بناء على وصية أمها. تقص مريم كيف زفت إلى القاضي محملة بالملابس والذهب وتروي ما قالته لها أمها ومنه :
" دافعي عن نفسك وارفعي رأسنا ، قاتليه بهذي الأساور اللي في ايديك وضاربيه. لا تكوني بطيخة جاهزة " وهو ما فعلته مريم " ومع أن القاضي دللها الا أنها لم تخلع الأساور من يدها " وكانت تهوي بها على وجه القاضي كلما اقترب منها .
- في ص ١٦٤ سرد عن نجية و عزان الذي " كانت الكثبان الرملية من حولهما صامتة ، تردد في أذن عزان بقايا أصوات طبول عرس ابنته " وخلاخيل القمر الفضية..."
- وفي صفحة ١٨٨ تقرأ عن أسماء التي مالت في شبابها إلى العلم ثم انشغلت بالصغار . ما إن بلغت الأربعين من العمر حتى غدا جسدها منبتا فقد خلفت الكثيرين ورضيت لذلك " عاشت كلها للضوء واللون ، وأنبت ١٤نبتة و " عاشت كلها للضوء واللون في بيت الفنان وإن تناءت عن ريشته المسكونة بسبك الخيول "
- في الصفحة ١٨٨من تأتي إحدى بنات عزان على ملابسها الهندية وتصف القامة الطويلة لامرأة عمها قبل أن ينتقلوا إلى وادي عدي ، " والأساور الذهبية الغليظة في يد عمتي " ص١٨٨ .
فماذا يقول كل ما سبق عن غلاف الرواية وعلاقته بالمتن الروائي؟
إن التحليل السابق يعتمد على طبعة دار الآداب الصادرة في٢٠١٢ - هناك من يذهب إلى أن الطبعة الأولى كانت في ٢٠١٠
- لا الطبعات الأخريات اللاتي لم أطلع عليها ، فقد لفتت إحدى طالباتي نظري إلى طبعتين أخريين اختلفت فيهما لوحدة الغلاف .
لقد اطلعت على لوحة غلاف طبعة جديدة صدرت عن دار الآداب تختلف اختلافا كليا عن لوحة غلاف الطبعة الأولى ، إذ نلحظ فيها واحة من الأشجار ، بينها أشجار نخيل ، وصورة سيدة تجلس على مقعد فيها ترتدي عباءة ذات لون عنابي ، ولعل اللوحة مستقاة مما ورد في الرواية عن بيت التاجر سليمان ، فقد كانت تحف به الأشجار ، ونقرأ ما يرد على لسانه بخصوص العبد سنجر الذي كان يعاقب على سرقاته بصلبه على شجرة النخيل .
ما يلفت النظر هو لوحة غلاف الطبعة الانجليزية من الرواية ، فاللون الأزرق السماوي كان خلفية لها ، وفي اللوحة ثلاث شابات يسرن على طريق ترابي يرتدين العباءات ولا يظهر لنا منهن الوجوه ، وإنما يظهر القفا ، والرواية كما لاحظنا تأتي على ثلاث أخوات يقمن في منطقة ريفية شوارعها غير معبدة . كما لو أن الشابات الثلاث هن الأخوات ميا وأسماء وخولة .
وأرى شخصيا أن لوحة الغلاف الأولى مستقاة من شخصية نجية .
نجية وعمة عبدالله وزوجة القاضي يوسف مريم و .. و ... و ...
إن لوحة الغلاف لا شك لها صلة واضحة بالمتن الروائي ، وهناك من لا يروق له هذا الاجتهاد وقد يسخر منه ، غير أن نقاد الأدب في عصرنا أولوه اهتماما جديا .

***

34- جوخة الحارثي : ثنائية الوطن والمنفى

تجري أحداث الرواية في منطقة العوافي ، ولا أدري إن كانت الكاتبة منها ، ويتنقل أبطال الرواية في بيئة مكانية أخرى ، فتحضر مسقط وتحضر مدن وأماكن عمانية أخرى تشمل صلالة ، وتذكر الكويت التي سافر إليها سنجر ، وتذكر دبي كمكان متطور قياسا إلى عمان وتكون دبي مكانا يتطلع إليه العمانيون ليقيسوا عليه ، وحين يسرد عبدالله عن ظريفة يذهب بنا إلى افريقيا التي يجلب منها العبيد ، وهكذا تحضر بيئات أخرى غير البيئة العمانية . بل إن الرواية تأخذنا إلى القاهرة التي يعيش فيها اللاجئون السياسيون وأولادهم بعد أن انهزم المعارضون في حربهم .
إن ثنائية الوطن والمنفى تقودنا ابتداء إلى ثنائية السيد والعبد ، وهذه الثنائية تلفت نظرنا إلى الغربة في الوطن ، وهي غربة تظهر أوضح ما تظهر لدى حبيب زوج ظريفة ولدى سنجر ابنهما ، فحبيب وسنجر يشعران بالغربة كونهما عبدين في زمن نادى به القانون بتحرير العبيد . ولشعورهما بالغربة في عمان التي استقروا فيها وصاروا يحسبون عليها فإنهما يغادران العوافي محتجين على عبوديتهما .
يترك حبيب زوجته ظريفة ويختفي ، ويهاجر ابنه سنجر إلى الكويت باحثا عن عمل هناك رافضا الاستمرار في العبودية ، وكلما طلبت منه أمه احترام سيده وعدم الاحتجاج والتمرد يغضب ويستاء ، وهكذا يسافر رافضا الخنوع والإذعان لعله يخرج من غربته في الوطن ، ولا تقول لنا الرواية شيئا عن حياته في الكويت لنعرف ما ألم به وإن كان وجد حلا لغربته أم أنها اتخذت شكلا آخر أقسى أو أخف ، ليصبح الوطن الذي تركه الجنة المفتقدة . هل عاش سنجر في الكويت غربة أحرى؟ ربما نقرأ الإجابة في قصة غسان كنفاني " موت سرير رقم ١٢ " حيث الفقير العماني الذي ترك عمان بسبب الفقر يموت في الكويت دون أن يلتفت إليه أحد . هل اختلف حال سنجر في الرواية عن حال محمد علي أكبر ؟
إن كل ما نعرفه عن سنجر أنه استقر في الكويت وعمل حمالا في السوق وأن زوجته شنة عملت عاملة نظافة في مدرسة ، وأن أمه ظريفة زارته هناك وعادت ولم تستقر فالعلاقة بينها وبين كنتها شنة لم تكن على ما يرام ، ثم إنها لم تطق الحياة في الكويت لتعود وتموت وحيدة في مستشفى منسي ، فقد استفحل بها مرض السكر وتخلى عنها أقرباؤها الذين قالوا:"لن نعول امرأة كسيحة " .
القصة الثانوية الثانية التي تجسد الغربة في الوطن بأقسى أشكالها هي قصة زايد ابن منين . وكنت أشرت إليها من قبل . ظل زايد فقيرا محتقرا في العوافي ، وعندما التحق بالجيش وصارت له مكانة ظل أهل العوافي ينظرون إليه على أنه ابن منين ولم يوقروه ولم يحترموه ، وحين قتل منين ما عاد زايد يعود إلى العوافي .
الغربة عن الوطن يجسدها عيسى المهاجر وأسرته ، ويعبر عنها خالد زوج أسماء ببوح أشبه بمونولوج داخلي يمتد إلى سبع صفحات تعد أجمل صفحات الرواية من حيث شاعريتها ( ص ١٩٠ - ص ١٩٦ ).
يروي خالد قصته وقصة أبيه عيسى وقصة المعارضين الذين انهزموا ففروا خارج عمان .
عيسى المهاجر كان واحدا من المعارضين ، ولما انهزم اختار القاهرة منفى له ، ولكنه ظل يحلم بالوطن وظل يعيش على الذكرى ، ولم يفكر في الاستقرار النهائي في مصر ، ولذلك حث ابنه خالد على دراسة الهندسة لأن مستقبله هناك ، في وطنه عمان ، ولم يشجع عيسى ابنه على الارتباط بفتاة مصرية . لقد ظلت عينا عيسى تنظران إلى العوافي .
" نحن نعيش هنا ، ولكننا لسنا من هنا ، وامتدادنا لن يكون هنا ، وحين نموت ستحمل توابيتنا إلى عمان لندفن هناك " .
يرفض خالد دراسة الهندسة ويدرس الفن ولم تكن عيناه تنظران إلى وطنه ، فذكرياته فيه قليلة وقد نشأ في مصر وانسجم فيها وصارت وطنه .
كان خالد يرى أن العودة إلى عمان تكون فقط في لحظة الموت ، حيث يعودون ليدفنوا في العوافي . وقد تخيل عودتهم تابوتا وراء تابوت ، فما الذي جعله يعود حيا؟
تموت غالية وتوضع في تابوت وتسافر العائلة لدفنها هناك . إن موت غالية كان نقطة التحول في حياة العائلة كلها . لقد عاد عيسى وأسرته إلى وطنهم ليدفنوا غالية ثم استقروا . لقد شرع خالد في الاستقرار في مصر وفي نسيان بلد اسمه عمان وهنا تموت غالية وبعد موتها انهارت عوالم الأسرة كليا " عوالمنا كلنا ، أبي وأمي وأنا وأخي ، وأمام السؤال البسيط حول مكان دفنها تكشفت لي ، أنا الفنان الحر ، الذي توهم حريته ، كم كانت الأواصر الخفية بيننا عميقة ، وكم ينهار عالمي بانهيار عالمهم " ، ويعود خالد وتعود الأسرة ويتزوج من ابنة العوافي أسماء .
ماتت غالية وكان موتها الثمن الذي حرر العائلة . لقد كانت القربان والجسر الذي مشى عليه عيسى إلى عمان ومشى أبناؤه خلفه عليه :
" وكانت جثة غالية ، تابوتها الذي حمل إلى مقبرة العوافي الجرداء ، تابوت الابنة التي ولدت في القاهرة ، وعاشت فيها ، هذا الجسر " .

***

٣٥- جوخة الحارثي : ابن حزم وانقسام الأرواح

يحضر التراث العربي القديم في " سيدات القمر " حضورا لافتا ، وقد كلفت أحد طلابي في مساق الماجستير " موضوع في الأدب الحديث " أن يكتب فيه بحثه .
حين يقرأ المرء السيرة الذاتية لجوخة الحارثي فإنه يعرف أنها أعدت رسالة الدكتوراه في جامعة ادنبرة في بريطانيا في الأدب القديم ، وأنها تدرس في جامعة السلطان قابوس بن سعيد ، وهكذا لا يستغرب حضور التراث الأدبي العربي ؛ شعرا ونثرا أدبيا وأدب رحلات ، في روايتها ، ويبقى هنا السؤال عن توظيفها توظيفا فنيا .
هل وظفت الروائية مخزونها المعرفي في الرواية توظيفا فنيا أم أن ما ورد من مقطوعات لشعراء قدماء معروفين وللشاعر العماني أبو مسلم البهلاني كان استعراضيا وكان له قصد هو تذكير القاريء الملم بهذه الأشعار أو تثقيف القاريء الذي لا يعرفها .
كانت الرواية العربية في نشأتها تحفل بالنماذج الشعرية ، وواصل روائيون كثر النهج نفسه ولكنهم اختلفوا عن الروائيين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في أن الروائيين الجدد كانوا أكثر نجاحا في جانب توظيف الموروث توظيفا فنيا ، ويخطر ببالي هنا اميل حبيبي في " المتشائل " ١٩٧٤ وممدوح عدوان في " أعدائي " ٢٠٠٠ .
وفيما رأيت فإن الكاتبة توظف النصوص المقتبسة إلى حد كبير توظيفا فنيا وتوظيفا اقتضاه السياق.
لن أعالج هذا الجانب بالتفصيل وسوف أترك معالجته للطالب معتصم غوادره أبو عيد ، ولكني سأتوقف أمام الكتابة عن فكرة انشطار الأرواح التي تكرر حضورها في مواطن عديدة من الرواية لتكون محور حديث بين زوجين أو محبين انسجما معا كما لو انهما كان جسدا واحدا انشطر ثم اتحد ثانية ، وقد أوردت من قبل الكتابة عن الأسطورة القديمة التي تقول إن البشر كانوا أبناء القمر وكان الانسان يتشكل من رأسين وأربع أيدي وأربع أرجل ثم شطرته الآلهة إلى شطرين تحسبا .
ترد الكتابة عن فكرة الانشطار في الصفحات ٣٦ و ١٥٦ و ١٧٧ ، وربما تكون وردت في صفحات أخرى.
في ص٣٥و٣٦ سرد عن مكتبة البيت التي احتوت غالبا كتبا تراثية مثل " العقد الفريد " و" زهر الآداب " و " كليلة ودمنة " وثمة اقتباس من الأخير ، وهنا ثمة سرد عن " الكتيبات الإنجليزية " التي كانت ميا قد اشترتها من " مكتبة العائلة في مسقط قبل أن تتزوج ، لا أحد يستطيع قراءتها ، لكن ميا دأبت على تصفحها " - مع أن ميا لا تتقن الإنجليزية وإن عرفتها ، ولكنها معجبة بالانجليز ، ولذا سمت ابنتها البكر لندن لا سالمة .
تتصفح أسماء الكتب وتقلب الوريقات القليلة التي بقيت من كتاب لا تعرف اسمه و آثرت إبعاده عن الكتب التالفة وتقرأ النص الذي حفظته رغم أنها لم تفهمه تماما : " وزعم بعض المتفلسفين أن الله جل ثناؤه خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة ثم قطعها أيضا فحمل في كل جسد نصفا ، وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه كان بينهما عشق للمناسبة القديمة ، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طباعهم " .
الوريقات في كتاب انجليزي فهل وردت الفقرة المقتبسة فيه ؟
في ص١٥٥ وما بعدها سرد عن زواج أسماء وعرسها يذكر أمها سالمة بعرسها هي .
تتأمل أسماء عينيها في المرآة وتختلج في ذهنها فكرة أنها على وشك أن تتحد بشطرها المفصول عنها منذ بدء الخليقة ، وأنها استعادت نصها المفضل عن كون الناس أشطارا مقسومة ، فلا يرتاح كل شطر ويكتمل حتى يتحد بشطره الآخر " ، وخين تتزوج وتقيم مع خالد في بيت وتكون في لحظة انسجام يأتيان على الفكرة نفسها ويقول خالد إن النص ورد في كتاب عربي قديم " لعله طوق الحمامة " وتهمس أسماء لخالد :
" وأنا شطرك المنفصل عنك " .
إن تكرار هذه الفكرة دفعني للتفكير في علاقات الشخصيات في الرواية ببعضها وفي ظاهرة الاتصال والانفصال ، وإلى التساؤل عن مدى صحة الفكرة .
لقد لاحظت أن العلاقات بين كل اثنين يلتقيان تنتهي غالبا بالانفصال . خولة/ناصر و ظريفة/حبيب و لندن/ أحمد و أن كثيرا من العلاقات التي ظلت قائمة شكليا كانت علاقات نفور وهجران مثل علاقة عزان بزوجته سالمة ، وحتى علاقة ميا بزوجها لم تقم على الحب ، فالنصف الآخر الذي رغبت ميا فيه هو علي بن خلف .
الموضوع يستحق أن يفكر فيه أكثر .

***

٣٦- جوخة الحارثي : معاناة المرأة العربية

حين يقرأ القاريء الفلسطيني الفصل الذي يأتي على زفاف أسماء يتوقف أمام مقولات الأم تصف حالتها يوم تسليم ابنتها لأهل عريسها .
لا تذهب سالمة مع ابنتها إلى بيت أهل عريسها ، فهذا ما تقره العادات والتقاليد وتبقى في بيتها ما يجعلها تشعر بالأسى والحزن وهنا تكرر سالمة العبارة "نربيهن ليأخذهن الأغراب " .
ما تلفظت به المرأة العمانية تتلفظ به المرأة الفلسطينية ، ولهذا يقول أهلنا أيضا :" ابن بنتك مش إلك ، ابن ابنك إلك " ، وعرفت مؤخرا الفرق بين الحفيد والسبط .
في هذه الأثناء تربط الكاتبة بين الأحداث فتجعل سالمة في ليلة زفاف ابنتها تتذكر ليلة زفافها ، فالشيء بالشيء يذكر ، وهذا أسلوب قصصي مألوف في السرد العربي القديم والحديث عموما .
في ليلة عرس أسماء تفرش سالمة فرشتها في الغرفة الوسطى التي أصبحت تنام فيها منذ هجر عزان فراشها وتعود بها الذاكرة إلى عرسها ويوم زفافها .
كانت في الثالثة عشرة حين اوعزت زوجة عمها الشيخ سعيد له أن يرسلها لأمها ، فترك الشيخ سعيد أرملة أخيه تتوسل إليه لمرة أخيرة قبل أن يوافق على أن تعيش سالمة معها على أن يبقى أخوها معاذ في بيت عمه - لنلاحظ عدم التفريط بالذكر - وتعيش سالمة في بيت خالها الذي لا ينجب ، فرعاها وأحسن تربيتها ، ولكن فرحها لم يدم طويلا ، إذ يقرر عمها تزويجها لعزان ، ولم تكن والدتها ترغب في ذلك .
يقف خال سالمة إلى جانب أخته ، فعزان شاب طري العود ثم قد يعود إلى زنجبار ، ولكن العم يصر على تزويج ابنة أخيه ، وهنا يرسل رجاله إلى بيت خال سالمة ليحضرها بالقوة ، ويفتح رجال الشيخ سعيد الباب ويهاجمونه من الفلج لتصبح سالمة عروس عزان بعذ بضع ساعات وتلقب ب "عروس الفلج " وهو لقب سيظل يرافقها طيلة حياتها .
تعاني سالمة في طفولتها معاناة كبيرة ، فبعد موت أبيها تتربى في بيت عمها ، وكانت معاملة زوجة عمها لها معاملة قاسية ، إذ كانت حين يجلسون إلى الطعام تنظر إلى سالمة والأخيرة تأكل ، فتصوب نظراتها إلى يدها ما يجعل سالمة تشعر " أن يدها كبيرة جدا كلما امتدت إلى الصحن ، وأن فمها ضخم وقبيح " وفي ببت عمها تعرف الجوع " إن لم يكن هناك ضيوف سيدق الفاشغ ويخلط بالبصل والليمون والماء ويقدم مع التمر للغداء ، فالأرز كان غاليا لدرجة أنه لا يقدم لغير المرضى . كانت تكره رائحة الفاشغ لكن بطنها يؤلمها غالبا من شدة الجوع فتأكل.
نعم ، الجوع . هذا ما تتذكر من حياتها في بيت عمها " .
عانت سالمة إثر وفاة أبيها وعانت في بيت عمها ، وعرفت الفرح في بيت خالها لفترة ، ثم أجبرت على الزواج فانتقلت إلى بيت عزان ، وهجرها هذا وأقام علاقة مع نجية وصار ينفق لياليه في البادية مع البدو ولاحقا في حضن نجية ، واستمرت معاناة سالمة وتوجت بموت أخيها معاذ وهو شاب في الحرب .
وأنت تقرأ عن رحلة الجوع التي عاشتها سالمة في بيت عمها تتذكر بدر شاكر السياب وقصيدته " أنشودة المطر " وسطره " ما مر عام والعراق ليس فيه جوع " . إن موضوع الفقر والجوع لتحفل به أدبيات عربية كثيرة .
المهم فيما سبق أيضا الجانب الفني الذي تتسم به الرواية في بعض أقسامها ، فالحكاية تستحضر الحكاية والحاضر يسترجع الماضي .
في أثناء زفاف ميا تستحضر وصايا الأعرابية لابنتها ، وفي أثناء زفاف مريم تستحضر أمها الموروث الشعبي ، وفي أثناء زفاف أسماء تستحضر سالمة حكاية عرسها وليلة زفافها .
من النساء اللاتي تظهر معاناتهن وصمتهن والدة شنة ، فمنذ فتحت شنة عينيها على هذه الدنيا وأمها محنية " عيونها منتفخة بلا أهداب ويداها يابستان متشققتان ، " وقد تقوس ظهرها - كما قيل لشنة - من شدة انحنائها على مكنسة الخوص ، ومن حمل الحطب ، وقد قضت حياتها تحتطب وتكنس الأرض ، ومع ذلك كانت تقضي الليالي مع زوجها الذي كان يعطف عليها يتسامران ويضحكان . كان الزوج / والد شنة قويا وكان يمكن أن يتزوج وينجب إخوة وأخوات لشنة ولكنه لم يفعل .
واللافت أن علاقة شنة بأمها وبأهل العوافي كلهم لم تكن حسنة ، فقد كانت تنفر من أمها وتمقت أهل العوافي كلهم .
وقد جنت والدة شنة بعد وفاة زوجها .

***

٣٧- جوخة الحارثي : البيئة المكانية

يذهب نقاد القصة القصيرة وكذلك نقاد الرواية إلى أن القصة تركز على عنصر من العناصر الأربعة الآتية :
- الشخصية
- الحدث
- الفكرة
- المكان .
ويرون أن العناصر الأربعة قد توجد معا ولكن لا بد أن يغلب عنصر على بقية العناصر .
في الرواية توجد هذه العناصر الأربعة ولكنها تتعدد ، فمن المعروف أن من الفروق بين القصة القصيرة والرواية ، فيما يخص العناصر الأربعة ، هو أن هذه العناصر في القصة القصيرة تكون محددة ، فتقتصر على مكان وشخصيات قليلة جدا وحدث واحد وفكرة واحدة ، فيما يتسع المكان ويمتد في الرواية وتتعدد الشخصيات وتكثر الأحداث والأفكار ، وتتسع الفروق كذلك في الزمن واللغة ، وليس القصد هنا الكتابة عن الفروق جميعها بين القصة القصيرة والرواية .
لقد تساءلت عن عنصر الغلبة في " سيدات القمر " لأي من العناصر الأربعة الواردة .
هل الغلبة هي لعنصر الشخصيات أم أنها للأفكار أم أنها للأحداث أم أنها للمكان ؟
لقد طلبت من طلابي أن يحصوا لي عدد الشخصيات التي ذكرت في الرواية ، وهي كثيرة ، وقالت لي الطالبة نوال الستيتي إنها بلغت ال ٧٠ شخصية ، فهل الرواية رواية شخصيات إذن؟
إن عنوان الرواية ، كما لاحظنا ، يتكون من مكون فاعل /شخصي ، بالإضافة إلى المكون المكاني وهو القمر ، ولا تخلو الرواية من الأحداث والأفكار ، ولكن الغلبة فيها يقوله حقا العنوان : الشخصيات والمكان ، وهو ما يقوله المتن الروائي من أول الرواية حتى نهايتها .
في الرواية شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية وثالثة عابرة جدا ، وحجم الكتابة عن الشخصيات ومدى حضورها يميزان بين كون الشخصية شخصية رئيسة أو شخصية ثانوية .
يكون هناك حضور أساس لعزان ونجية وظريفة وميا وعبدالله ولندن وخولة وأسماء ، ويكون هناك حضور ثانوي لعيسى المهاجر وولديه ، بل ويحضر أحدهما أكثر من ثانيهما ، فنصغي إلى خالد ولا نصغي إلى أخيه ، كما يكون هناك حضور ثانوي لابن ظريفة سنجر وزوجته شنة ولزوج ظريفة حبيب ، ويكون حضور والدة عبدالله قليلا وإن كان مؤثرا ، كما يكون هناك حضور قليل لمنين وابنه زايد ، ويكون الحضور ضعيفا جدا وعابرا لحزينة وشريك عبدالله في التجارة صالح ولشنة وعنكبوتة .
إن هذا الاكتظاظ بالشخصيات في الرواية التي لا تتجاوز ٢٢٣ صفحة من الحجم المتوسط يلفت نظر القاريء والناقد معا ، وسرعان ما يبحثان عن سبب مقنع يبرر هذا الحضور . وغالبا ما يرتبك القاريء ويخلط بين الشخصيات ، وهو بذلك يحتاج إلى رسم خريطة لها حين يكتب عنها وعن تاريخها وصلتها بالأحداث .
هنا ينظر المرء في المكون الثاني للعنوان وهو القمر - أي المكون المكاني .
المكان الرئيس للرواية هو منطقة العوافي - في مقابلة للكاتبة في مجلة نزوى قالت إنها مكان متخيل غير موجود ولكنه قد يكون أي قرية في عمان - وهنا قد يتساءل القاريء إن كانت العوافي هي القمر ، وهذا التأويل لدال القمر لم يخطر ببالي وأنا أكتب عن دال العنوان ، فهل مدلول العنوان " سيدات القمر " هو سيدات العوافي ؟
هذا احتمال عموما ، ولا أدري إن كان أحد ممن درسوا العنوان وسيميائيته توصل إلى هذا .
ولكن الرواية لا تتحدث عن السيدات فقط وإن غلب حضورهن ، ولم أحص الشخصيات النسوية والشخصيات الذكورية على حدة .
إن الرواية تحفل بشخصيات ذكورية ويكفي أنها ، في الغالب ، تسرد من ذكر هو عبدالله في الغالب ، وأقول في الغالب لأننا نصغي إلى صوت خالد بحدود أربع صفحات وإلى سارد آخر غير محدد المعالم ، وهو ما سأتوقف أمامه بإيجاز .
كما لو أن الرواية هي رواية العوافي ممتدة مائة عام وأكثر في الزمان - أي رواية قرية عمانية ؛ أية قرية .
إن الحضور الأساس في الرواية هو للعوافي وللصحراء التي تتصل بها ، ومن ثم لمناطق أخرى في عمان أهمها مسقط ، ويتسع المكان الروائي ليشمل مسقط وصلالة والجبل الأخضر والقاهرة وتذكر مدن أخرى عربية وأوروبية ذكرا عابرا .
وإذا استعرنا مصطلحات نقد الرواية فيما يخص الشخصيات ، حيث توجد شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية ، فإننا يمكن أن نتحدث أو نكتب عن مكان رئيس ومكان ثانوي .
والخلاصة فيما يخص هذه الفكرة هي أن الرواية رواية شخصيات ومكان معا - بعبارة أخرى إن الرواية هي رواية العوافي وناسها .

***

٣٨- جوخة الحارثي : طرق القص وصعوبة القراءة

حين أنظر في تعقيبات القراء على الكتابات السابقة ألحظ أن كثيرين كتبوا إنهم يجدون صعوبة في قراءة الرواية، وأن قسما من القراء لم يواصل إتمام القراءة بسبب عدم التركيز وتشتت ذهنهم الناجم عن عدم سير الزمن سيرا خطيا ، وقد أتيت على شيء من هذا وقارنت بين " سيدات القمر " و " ما تبقى لكم " لغسان كنفاني .
كنت أصغيت إلى الروائية تتحدث في فضائية الجزيرة في برنامج " المشاء " عن روايتها ، كما أصغيت أيضا إلى مقابلات أخرى بعد فوزها بالجائزة ، وقد سئلت إن كانت تفكر في القاريء وهي تكتب : أيفهم ما تكتب أم لا يفهم ؟ أيجد صعوبة في القراءة أم لا يجد ؟
أجابت جوخة الحارثي محاورها قائلة إنها وهي تكتب لا تفكر في هذا ، فهدفها أن تكتب نصا تراعي فيه الجانب الفني والجمالي .
كان غسان كنفاني بعد نشر "ما تبقى لكم " لاحظ أن قلة من القراء يستطيعون فهمها وأن الكثرة منهم يجدون صعوبة في القراءة ، فقرر أن يكتب روايات أوضح وتصل إلى القاريء ، فهو لا يكتب من أجل النقاد فقط ، وقال إنه يمكن أن تكتب الأشياء العميقة بأسلوب بسيط وواضح ، فالبساطة لا تعني السذاجة ، وكتب بعد ذلك روايتين هما " أم سعد " و " عائد إلى حيفا " ، وكانتا موجهتين لقاريء الرواية ، فالرواية تكتب لجمهور عريض من القراء ، وكان كنفاني معنيا ككاتب ينتمي إلى شعب صاحب قضية ، كان معنيا بالتواصل مع الجماهير ، فهو يكتب عنها ولها .
ما عنى كنفاني بخصوص وصول رواياته إلى جمهور عريض من القراء لم يعن الكاتبة الحارثي .
من المؤكد أن تعقيبات القراء على المقالات ال ٣٧ السابقة مهمة جدا وقد تلتفت الكاتبة إليها لمساءلتها ، ولها بعد ذلك أن تقرر ، فقراء الرواية - أية رواية - هم الجمهور العريض ، والآن ما سبب صعوبة القراءة ؟
كنت أقرأ مع طلاب الماجستير ثلاث صفحات من " سيدات القمر " لتتبع أسلوب السرد وتوضيح مقولة " تعدد الأصوات " لهم ، ووجدتني أقارن بين الرواية ورواية كنفاني " ما تبقى لكم " وقلت للطلاب إنني يمكن أن أعيد طباعة كنفاني ، مع إضافات قليلة ، حتى تزول عنها صعوبة القراءة. وغالبا ما أقول الكلام نفسه لطلاب البكالوريوس أيضا . كل ما في الأمر أن أحدد المتكلم في الرواية وأكتب قبل كلامه جملة واحدة هي " قال حامد / قالت مريم /قال زكريا /قالت الصحراء " . وما لم يفعله كنفاني قامت به الحارثي فهي تكتب اسم المتكلم قبل إيراد كلامه ، وبخاصة أنها تلجأ إلى تداخل الأصوات وتعددها في الصفحة الواحدة ، وهذا التداخل يؤدي إلى تداخل الزمن الذي غالبا ما لا يتحدد القول فيه هنا .خذ مثلا الصفحتين ٢٨ و ٢٩ ، ففيهما ، ومثلهما صفحات أخريات ، تتداخل الأزمنة وتتعدد الأصوات ، ولكن الروائية تمهد للكلام بتحديد الجهة الصادر عنها . وعلى الرغم مما سبق تبقى قراءة الرواية صعبة ويبقى ملاحقة أحداثها وتتبع مصائر شخصياتها صعبا ومربكا ويحتاج إلى تركيز شديد .
وأنا احاضر تذكرت المرحوم الشاعر أحمد دحبور واستشهاده دائما برأي الشاعر الانجليزي ( ت.س.اليوت ) الذي اتهم شعره بالغموض .
كان ( اليوت ) يطلب من القراء أن ينفقوا ست ساعات في قراءة القصيدة التي يكتبخا في ستة أشهر وربما أكثر ، فالأمر يستحق من القاريء أن يبذل جهدا كما يبذل المؤلف جهدا في التأليف .
وعموما فإن طريقة القص التي لجأت إليها الروائية هي ما جعلت قراءة الرواية صعبة ومملة لقراء معينين.
لم توظف الكاتبة أسلوبا واحدا ولم تعرض أحداث روايتها بضمير واحد ، فقد وظفت غير طريقة معتمدة غير ضمير . لجأت إلى القص بضمير الهو والقص بضمير الأنا وأحيانا القص بضمير الأنا / أنت ، وتارة كان السارد معروفا محدد الملامح ، وطورا كان غير محدد الملامح ، وأحيانا في المقطع نفسه نلحظ الانتقال من ضمير إلى ضمير ثان . كل هذا ، بالإضافة إلى بنية الزمن المتداخل والمحطم حيث التقديم والتأخير والانتقال بين الأمكنة دون إشارات أو تمهيد أربك القراء .
بعض قراء مقالاتي عقبوا قائلين إنها - أي المقالات - هي ما جعلهم يفهمون الرواية .
في فترات سابقة كان المهتمون بالنقد يقولون إن وظيفة الناقد هي أن يفسر النص ويوضحه . ولقد كتب قسم من القراء إن من يستحق الجائزة هي مقالاتي فقد فهموا الرواية منها لا من قراءتهم العمل نفسه.
هل أتوقف أمام السرد أم أن الكتابة فيه ستبدو مملة للقاريء العادي غير المتخصص ؟
سوف أوجز كثيرا.
- في الصفحات ٧ حتى ١٣ نحن أمام سارد غير محدد المعالم يروي بضمير الغائب ، ومن المؤكد أنه ليس عبدالله.
- في المقطع الثاني ص ١٤ يتم السرد في بدايته بضمير الهو ثم ينتقل إلى ضمير الأنا حيث يروي عبدالله وفي نهاية المقطع يكون السرد بضمير الغائب .
- ص ٢٠ إلى ص ٢٦ لا تعرف هوية السارد .
- ص ٢٧ يتم السرد من خلال الضمير الأول ، حيث نقرأ سرد عبدالله وهو في الطائرة .
ولو انتقلنا إلى ص ١٩٠ حتى ص ١٩٦ فإن السرد يبدأ بالضمير الثالث ، ثم يتحول بعد سطر إلى الضمير الأول حيث نصغي إلى خالد يقص على أسماء ، وقد التفت طلابي إلى خطأ في ص ١٩٠ إذ ورد اسم علي والحوار كله هو بين أسماء وزوجها خالد .
وفي الصفحات التي يروي فيها عبدالله ، وهو في الطائرة ، يتحول السرد إلى الضمير الثاني حيث نقرأ لمخاطب / اسم فاعل وهو عبدالله ، يتوجه بخطابه إلى مخاطبة / اسم مفعول وهي المضيفة (ص ٤٣ و ٤٨ و ٦١).
كل ما سلف يرفده ، كما كتبت ، تعدد الأصوات وتداخلها .
فيما يخص الزمن فإن معاينته تتطلب دقة كبيرة ورسومات يمل القاريء منها .
إن الزمن في الروية يحدد في أماكن كثيرة ويبدو في أماكن غير محدد المعالم .

***

٣٩- جوخة الحارثي : الزمن الروائي

صدرت الطبعة الأولى ل " سيدات القمر " في العام ٢٠١٠ كما تقول أكثر المراجع والمقابلات والمقالات ، مع أن الطبعة التي لدي ، وهي نسخة مصورة عن طبعة دار الآداب ، تورد العام ٢٠١٢ تاريخا للطبعة الأولى .
عموما إن زمن النشر زمن خارجي فما يهم هو الزمن الداخلي للرواية ، وهذا الزمن ينقسم إلى زمن السرد وإلى الزمن الروائي .
إن تحديد زمن سرد الأحداث يبدو أمرا صعبا وقد لا يفلح المرء في القبض عليه ، وخلافا له الزمن الروائي الذي بدا أحيانا كثيرة محدد المعالم ، فقد ذكرت تواريخ بعينها ، مثل تاريخ صدور قرار تحرير العبيد ومنع الرق في العالم ومثل تاريخ بعض المعاهدات والحروب في عمان . هذه التواريخ ذكرت والتأكد من صحتها يحتاج فقط إلى العودة إلى كتب التاريخ ، وأظن أن الروائية قبل أن تثبتها عادت إلى مصادر ومراجع علمية وتاريخية ، وقد قالت هذا في مقابلة أجريت معها في العام ٢٠١٠ في مجلة نزوى العمانية ، حيث عادت إلى الأرشيف في أثناء دراستها في بريطانيا .
ولكن الرواية التي بدأت بالكتابة ، عن ميا كبرى بنات سالمة وعزان الثلاثة ، تتوقف أمام ميا في زمن تقدم عبدالله لخطبتها ، وإذا كانت ميا ولدت لندن في أوائل الثمانينيات ، وإذا كانت الرواية أتت على تخرج لندن من كلية الطب في جامعة السلطان قابوس في مسقط ، فإن الرواية تمتد زمنيا لتقارب العام ٢٠٠٦ تقريبا ، وهذا يعني أن سرد أحداثها بدأ بعد هذا العام . هذا يعني أن زمن السرد يمكن تحديده ومطابقته تقريبا مع الزمن الكتابي أو قبل ذلك بقليل ، ولنفترض أن الكاتبة بدأت تكتب روايتها في العام ٢٠٠٦ فإنها انتهت منها في عام نشرها الذي يصر كثيرون على أنه العام ٢٠١٠ .
ولكننا في الرواية نقرأ العبارة الآتية :
" أما الآن في أوائل الثمانينيات فلا حاجة لهذه الهجرة اليومية الجماعية ، فالمراوح الكهربائية ، بل المكيفات في بعض البيوت قد أغنت عن ذلك ، " المكيفات البدعة " كما تسميها ظريفة " .
الفقرة السابقة يتم سردها حين كانت ميا نفساء - أي بعد ولادة لندن بأسبوع تقريبا " والتاريخ غير محدد . إنه أوائل الثمانينيات . والسرد يتم عن الثمانينيات ، ولكننا في الفصول التي يرويها عبدالله وهو في الطائرة نقرأ عن حوارات عبدالله مع ميا ونقرأ أيضا عن ابنه محمد وقد كبر .
هل كانت الروائية التفتت إلى البنية الزمانية لروايتها ؛ سرد أحداث وزمن أحداث ، التفاتا دقيقا ؟
في موطن آخر يبدو زمن السرد يبدو أحيانا أسبق من الزمن الروائي في نهاياته وهذا ما سأشير إليه تحت عنوان " رعب الريفيين من المدينة "
عموما إن الرواية تنبني على زمن مهشم متصدع متداخل يحتاج ضبطه وتحديده إلى جهد كبير ، وثمة قفزات زمنية لافتة وثمة تقديم وتأخير واسترجاع واستباق يعيدنا إلى روايات بني فيها الزمن بهذه الطريقة ، وهي روايات تيار الوعي ومنها في الرواية العربية "اللص والكلاب " وما تبقى لكم " و " شرق المتوسط " و " الزلزال " ... إلخ.
لننظر في الأزمنة أو العبارات الآتية - طبعا على سبيل المثال :
- أولا : أزمنة محددة :
- في ٢٥ سبتمبر ١٩٢٦ /ولدت عنكبوتة ابنتها ظريفة ، وفي هذا التاريخ وقعت اتفاقية إبطال الرق وتحريم تجارته .
- بعد ١٦ عاما من ولادة ظريفة سيبيعها الشيخ سعيد إلى التاجر سليمان لتصبح عبدته وسريته وحبيبته - يعني في ١٩٤١ .
- في سنة ١٩٢٠ وقعت اتفاقية السيب التي قسمت عمان إلى قسمين ، وهناك ذكر لاتفاقية أسبق وقعت في العام ١٨٤٥ .
- في ١٩٥٩ يهاجر عيسى المهاجر إلى مصر
- في ٢٠ مارس
١٩٨٦ كانت لندن في الخامسة من عمرها .
- في تسعينيات القرن التاسع عشر دفع التراجع الذي أصاب تجارة التمور ..
في ١٨٩١ أصدر السلطان فيصل إعلانا دعا فيه العمانيين إلى عدم تصدير الأسلحة إلى ميناء جواذر..
- في ٢٢ يناير عام ١٩٠٨ ...
- ثانيا : أزمنة غير محددة :
ومقابل هذه التواريخ التي تأتي على أحداث تاريخية لعمان هناك قفزات زمنية وإشارات تاريخية إلى فترات تاريخية يمكن تحديدها اعتمادا على معطيات خارجية منها مثلا وجود الأستاذ ممدوح المصري في عمان وغلبة الخطاب القومي الاشتراكي عليه . إنه مصر في زمن عبد الناصر ، وإليها هاجر عيسى المهاجر في ١٩٥٩ وأقام فيها .
في المراوحة في الزمن نقرأ عبارات مثل :
قبل خمسة عشر عاما ، بعد سنوات طويلة ، بعد أكثر من عشرين سنة ... إلخ ، وهي عبارات فيها قفز واضح عن سنوات طويلة .
تقع الرواية في ٢٢٣ صفحة ولكنها تأتي على حقبة زمنية طويلة جدا ، وإذا قسمنا ال ٢٢٣ صفحة على ١٢٠ عاما فإن نصيب العام الواحد يقارب ال صفحتين ، وإذا قسمنا ال ٢٢٣ صفحة على ٧٠ شخصية فإن نصيب الشخصية ٣ صفحات .
هل نقول إنها قسمة ضيزى ؟
من المؤكد أن قراءة الزمان والشخصيات بهذه الطريقة تبدو مستغربة ومضحكة ، ولكنها محاولة ، ولتكن مثل الليلة التاسعة عشرة في ليالي أبي حيان التوحيدي الأربعين في كتابه " الإمتاع والمؤانسة " لتكن ليلة مجونية .

***

40- جوخة الحارثي : الليلة الأربعون

لا أدري لماذا تذكرت كتاب " الإمتاع والمؤانسة " لأبي حيان التوحيدي ، وأنا أكتب هذه الفقرة ؟
لقد قررت فجأة أن أتوقف عن متابعة الكتابة . أهو الملل ، مللي أنا أم ضجر القراء ؟
سوف أتذكر أيضا بيت أبي نواس يخاطب النظام :
" فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء "
ولقد كتبت شيئا ولم أكتب أشياء ، وليس ما كتبته خاتمة القول في الرواية ، وكما يقول التفكيكيون ، فليس هناك قراءة نهائية لنص من النصوص ، وكل قراءة هي إساءة قراءه ، ومن يدري ، فقد أعود إلى الرواية فأكتب ما لم أكتبه ويستحق الكتابة مما غاب عني ، وقد أعود لأكتب ما أسأت قراءته ، فأكتب قراءة ثانية أهدم فيها القراءة السابقة .
إن ما كتبته في الليالي الأربعين كان قراءة دارس للنص لا قراءة قاريء ، ولقد كنت بدأت بقراءة الرواية قبل أن تفوز بجائزة مان بوكر ولم تأسرني ، ولم أكن الوحيد الذي ركن الرواية جانبا بعد القراءة الأولى ، فلقد عقب قراء كثر على ما كتبت وأبدوا رأيا مشابها .
أحد قراء المقالات ، وهو قاريء حصيف ، ربط بين الرواية ورواية ( غابرييل غارسيا ماركيز ) " مائة عام من العزلة " وقال إنه قرأ رواية ( ماركيز ) ولم يستمتع بها في قراءته الأولى ثم عاد وقرأها ثانية ، فاكتشف سحر عالمها . فهل حدث معي وأنا أقرأ رواية "سيدات القمر " ما حدث معه وهو يقرأ رواية الكاتب الكولومبي العالمي الذي فاز بجائزة نوبل للآداب على روايته المذكورة ؟
هل نتذكر ( ماكندو ) ونحن نقرأ عن " العوافي " ؟
تؤدي العزلة والانغلاق في رواية ( ماركيز ) إلى ولادة طفل بذنب خنزير ، إن لم تخني الذاكرة ، وتنتهي " سيدات القمر " بالتخلص من محمد الصغير المنغولي ، وكلتا الروايتين تحفلان بعالم غرائبي سحري ، وكلتاهما تكتبان عن مائة عام من حياة القرية .
عالم عجائبي غريب تملؤه الحكايات والأساطير ، ولكن جوخة الحارثي تستعير من ( ايزابيل اللندي ) الروائية الأمريكية اللاتينية مقولة عن غرابة الواقع الأغرب من الخيال ، فلم لا يحدث في عالم الواقع ما حدث في العوافي من أحداث وقصص وحكايات لا يصدقها قسم منا .
كنت أظن أن العوافي قرية موجودة على خريطة عمان ، ثم عرفت من مقابلة مع الكاتبة إنها قرية مخترعة ولكنها تمثل قرية عمانية ، وعرفت أن الكاتبة جمعت قصص روايتها مما سمعته من حكايات في بلدها وبحثت فوق ذلك في الأرشيف ، فالرواية تجمع بين القصص والحكايات وبين أحداث تاريخية مرت بها عمان .
أنهى أبو حيان كتابه بالليلة " الأربعين " ولسوف أتوقف مبدئيا عند الليلة الأربعين ، ولعلني قدمت إضاءات للرواية العربية الأولى التي فازت بجائزة مان بوكر للرواية العالمية ، ووقف اسم مؤلفة الرواية جوخة الحارثي إلى جانب أسماء عربية أخرى فازت بجوائز عالمية : نجيب محفوظ والطاهر بن جلون و..

***

41-

***

٤٢- جوخة الحارثي : رعب الريف من المدن والحياة فيها :

حين يمعن المرء النظر في رواية " سيدات القمر " يلحظ رعب الريفيين أهل العوافي من المدن الكبيرة ، وكنت أتيت على هذا حين ناقشت علاقة سليمان التاجر بابنه سليمان وحين أتيت على فكرة رعب المسؤولين والتجار من نشر التعليم ، ورفض التاجر سليمان أمر سفر ابنه عبد الله إلى القاهرة أو بغداد ليتعلم فيها : أن ترجع بلا لحية و " أن تستغل " وكان التاجر سليمان يرى الحياة في التجارة لا في التعليم ، ولهذا خبط على جيبه حين طلب ابنه منه أن يتعلم . إن ما ينفعك ويمنحك المكانة هو المال لا العلم .
شخصية مسعود في الرواية تحضر من خلال أذهان الآخرين ، ويختلف مسعود عن التجار والشيوخ في أنه كان "ولدا ذكيا شغوفا بالعلم " وقد " حاول الالتحاق بالمدرسة السعيدية في مسقط وهو فتى " ولكن أباه رأى أن الحياة في مسقط "خطرة على سليل قبيلة مثله " .
يتعلم مسعود على أيدي المشايخ وأئمة المساجد ويتنقل بين المراكز العلمية بين نزوى والرستاق " ولا ينسى حلمه القديم في المدارس العصرية .
حين كبر مسعود حاول مع آخرين تأسيس مدرسة جديدة عصرية ووضع حجر الأساس لها ولكن أوامر عليا صدرت له ولمن معه بالتوقف ، فالسلطة في عمان كانت مذعورة من فكرة التعليم.
يبدو الريفيون مذعورين من حياة المدينة ، ولكن في المقابل فإن من يعيش منهم في المدينة الكبيرة لا يستطيع لاحقا " احتمال الحياة في قرية صغيرة كالعوافي " وهذا هو حال عيسى المهاجر ، فحين يقرر العودة إلى عمان من منفاه في القاهرة يبحث عن مسكن له في العاصمة مسقط .
الجيل الجديد من سكان الريف يختلف عن الأجيال السابقة ، فالانتقال إلى مسقط يعني لأسماء " أن تتمكن من إكمال دراستها ، وربما بعد ذلك تتمكن من الالتحاق بالجامعة التي يقال إنها تبنى الآن .....وتتعلم وتتعلم " وهو عموما ما تحققه ابنة ميا لندن التي تدرس الطب في جامعة مسقط .
والفقرة الأخيرة عموما مهمة جدا لتحديد زمن السرد ، والسؤال هو : متى بديء ببناء جامعة السلطان قابوس ؟
أعتقد أن دراسة بنية الزمن في الرواية تحتاج إلى وقفة متأنية أكثر مما كتبته عنها ، وقد تكشف خللا في بناء الزمن في الرواية .
إن زمن السرد يبدو أحيانا أسبق من الزمن الروائي في نهاياته .

***

٤٣- جوخة الحارثي : أنت ومالك لأبيك :

أتيت من قبل على الأسماء وإطلاقها وتوقفت أمام طبقيتها
وذكرت أن السيد يسمي أيضا مواليد عبيده ، وتوقفت أمام العلاقة بين ظريفة وسيديها ؛ الأول والثاني ، وكيف كانت مشاعا للسيد الأول وأبنائه - ربما يتذكر قراء رواية الكاتب الفلسطيني أنور حامد " يافا تعد قهوة الصباح " ، ففيها يحب أحد أفراد الطبقة الإقطاعية مزارعة أحبها ، وهي من طبقة اجتماعية أدنى ، وأراد أن يتزوجها ، فصرخ أخوه في وجهه وقال له إنه يمكن أن ينام معها ، هي وآية امرأة أخرى من طبقتها ، أما أن يتزوجها ، فلا يمكن ! .
وكنت توقفت أمام الغضبة الكبيرة بين التاجر سليمان وظريفة سريته وحبيبته وخادمته ، واحتجاج أخته على هذه العلاقة وتردي علاقتهما معا لهذا ، وكيف قرر سليمان تزويجها من العبد حبيب ، على الرغم من أنها لا تريد ، فلم تحبه ولم ترتح له ولذلك تركها ومضى .
ما قام به التاجر سليمان مع ظريفة حدث مع أمها عنكبوتة من قبل .
لقد قرر سيدها سعيد أن يزوجها من عبده نصيب ، ورفضت النوم معه ، فسجنها في زنزانة قديمة في القلعة:
" ظلت عنكبوتة أشهرا في الزنزانة يصل إليها طعامها كل نهار وزوجها نصيب كل ليلة ، وحين ضج الناس من صراخها أطلق سراحها خاصة بعد أن تعب من ربط أطرافها كل مرة في أعمدة السرير الحديدي الصديء وحشو فمها بمصره لينال حقه الزوجي " .
وتخرج عنكبوتة من السجن حبلى بابنتها الوحيدة ، وبعد أن ولدتها بنفسها وربطت سرتها " قررت أن تكون داية منافسة للداية مرية المتخصصة في توليد بنات الشيوخ " .
كان عروة بن الورد يقول مخاطبا أم العيال حين كانت تلومه على صعلكته :
" دعيني للغنى أسعى ، فإني
رأيت الناس شرهم الفقير
وأهونهم وأحقر هم عليهم
وإن كان له نسب وفير "
و
" للغنى رب غفور ".
وعندنا يقولون " طب الجرة على تمها بتطلع البنت لأمها " و حظ البنت من حظ أمها .
زوج سعيد عبدته من أحد عبيده ، وكذلك فعل سليمان . ولم تكن كلتاهما موافقتين على زيجتها ، والطريف أن الأم خلفت طفلة واحدة والبنت طفلا واحدا .
أحيانا أفكر في كلام أبي : " أنت ومالك لأبيك " وفي " سيدات القمر " التي تبرز صورة للمجتمع العماني في زمن الإقطاع كان العبيد وكل ما على أرض الإقطاعي : الشجر والبشر والمباني والمحصول وكان هو من يطلق الأسماء ومن يزوج ويعاقب و ... .

***


٤٤- جوخة الحارثي : شجرة الريحان وموت أم عبدالله ، ( حول الشخصية في الرواية )

هل تعد شخصية أم عبدالله شخصية ثانوية أم شخصية رئيسة ؟
هذا يعيدنا إلى كتب النقد الأدبي الخاصة بالجنس الروائي لنقرأ عن الفرق بين الشخصية الرئيسة والشخصية الثانوية .
لا تحضر والدة عبدالله الراوي الرئيس في الرواية وإحدى شخصياتها الأساسية ، لا تحضر في الرواية حضورا لافتا ، فلقد اختفت ولم نصغ لها ولم نقرأ عن زواجها وأسرتها وحياتها مع زوجها أو عن ولادتها واحتضان ابنها كما قرأنا مثلا عن ميا زوجة عبدالله أو عن ظريفة وأمها وغيرهن من الشخصيات.
تحضر والدة عبد الله من خلال أسئلة ابنها عنها . مرة يسأل عبدالله عمته عن أمه فتشيح بإشارة ، وثانية يسأل عنها ظريفة فتتظاهر بعدم المعرفة ، ولا نعرف السر ، كما لاحظنا إلا من خلال مسعودة التي صارت تتذكر الماضي السحيق بسبب إصابتها بالزهايمر ، ولو لم تصب به لظل السر في أعماقها خوفا من أن يقتلها التاجر سليمان سيدها .
يلح طيف والدة عبدالله عليه ولا يستطيع أن ينسى أنه ولد من أم اختفت في طفولته . إن الأم تظل ملازمة له ، فهل هي إذن شخصية ثانوية ؟
يرى بعض النقاد أن ثمة روايات كان حضور بعض الشخصيات فيها حضورا عابرا ولكنه حضور حكم مجمل الرواية ، ويعد هؤلاء النقاد مثل هذه الشخصيات شخصيات رئيسة لا شخصيات ثانوية ، وأعتقد أن أم عبدالله البيولوجية واحدة من الشخصيات الرئيسة في الرواية ، على الرغم من أنها ظلت مجهولة الأصل والفصل والملامح الشخصية ، وعلى الرغم من أنها لا تتكلم ولا تحاور ولا تربي ابنها.
إن كان ما روي عن علاقتها بغير زوجها صحيحا ، فهي التي حكمت حياته كلها : تركته بلا أبناء إلا عبدالله وجعلته يعود ليتخذ ، من جديد ، من ظريفة ، وربما غيرها من الإماء خليلات له ، بعد أن تزوج نتيجة لوم أخته له لصلته بالعبدات .
وربما رأى عبدالله في ميا التي أحبها الأم التي افتقدها ، فهو لم يتزوج من خولة التي كانت أصغر منه ، وخولة هي من اختارها والده لتكون زوجة له ، وإنما اختار ميا الأكبر منه سنا والأقل من أختها جمالا .
يسأل عبدالله عمته حين تخبره أن شجرة الريحان هي من قتلت أمه :
" - كيف يا عمتي ؟ كيف تقتل شجرة الريحان ؟ "
ويعيد السؤال على ظريفة :
" - كيف ماتت أمي بشجرة الريحان يا ظريفة ؟ "
وتجيبه :
" - لا أعرف ".
لقد نشأ عبدالله طفلا لا يعرف شيئا عن أمه ، ولكنه ظل يسأل عنها وظلت تحضر في مواطن كثيرة.
يحضر الحديث عن وفاتها في الصفحة ١٩٩ ، وفيها تلميح إلى سمها من عمة عبدالله " قال الناس في العوافي إن امرأة شابة وقوية مثل أم عبدالله لا يمكن أن تموت خلال يومين أو ثلاثة بلا حمى نفاس " و " قالت أخت التاجر سليمان إنها حرصت على إعداد طعام النفساء بنفسها ، لكن لون المسكينة تغير إلى الأزرق الكامد خلال أيام " .
ويحضر في الصفحة ٢٠٦ و ٢٠٧ حين تتكلم مسعودة .
" كان وزوجه ينامان في غرفتين منفصلتين منذ ولادتها عبدالله قبل ثلاثة أسابيع ، دقت أخته الباب ودخلت مباشرة ، اعتدل في فراشه : " خير ؟
" ، رمقته بنظرة طويلة : " حرمتك " . " شفتها هي وسليم عبد الشيخ سعيد تحت شجرة الريحان".

***

٤٥- جوخة الحارثي : البنت البكر ومريد البرغوثي :

ترزق ميا وزوجها عبدالله بلندن وتكون هذه هي البنت الأولى ، فقد بكرت بها ، ولفظ الولد البكر والبنت البكر لفظ مستخدم وإن نعتت به البنت كان له معنيان ، فقد يدل على أنها بكر والديها وقد يدل على أنها غير متزوجة أو بنت غير متزوجة .
وغالبا ما يفرح الأهل ، بخاصة الأمهات ، إن بكرت ببنت ، فالبنت ستكون لها عونا في تربية بقية المواليد ، وهكذا ستكون البكر أما ثانية .
حين تلد ميا لندن وتبارك النسوة لها ولأمها يمتليء الحوش بالصوت الجهوري :" بسم الله .. ما شاء الله.. اللهم صل على النبي .. اللهم صل على الحبيب.. بسم الله .. عمى في عين الحاسد .. ما شاء الله .. البكر بنت ، والبنت تربي إخوتها .. عشرة صبيان يلحقوها إن شاء الله .. بسم الله .. اللهم صل على النبي " .
كان ذلك حين كانت المرأة تخلف عشرة وأكثر .
اليوم تخلف العائلة غالبا أربعة أو خمسة وأظن أن البنت البكر ما عادت تقوم بالمهمة نفسها التي كانت تقوم بها من قبل ، فنادرا ما تخلف العائلة عشرة صبيان .
فكرة المولود الأول فكرة تلح علي منذ زمن طويل ، فقد فكرت في أن أخصها بكتابة في زاويتي في جريدة الأيام " دفاتر الأيام/يوم الأحد " ثم انشغلت . وكان ما يلح علي في الكتابة أمران ؛ الأول شخصي ، فأنا من عائلة خلف الزوجان فيها أربعة عشر مولودا ، وكان الأب سائقا وآلام ربة بيت ، وكان أن قمنا نحن الذكور الثلاثة الكبار بمساعدة الأب في تربية بقية المواليد ، ولم يحظ البكر ومن تلاه باهتمام ، وكان أن خرجا من المدرسة مبكرا ليعملا . والثاني ما قرأته في كتاب مريد البرغوثي " رأيت رام الله " 1998 ، حيث أتى على فكرة الابن الاكبر في العائلة وتحدث عن أخيه منيف وكتب :
" إن كتبا كثيرة يجب أن تكتب حول دور الشقيق الأكبر في العائلة الفلسطينية ، منذ مراهقته يصاب بدور الأخ والأب والأم ورب الأسرة ، وواهب النصائح والطفل الذي يبتلى بإيثار الآخرين وعدم الاستئثار بأي شيء . الطفل الذي يعطي ولا يقتني .الطفل الذي يتفقد رعية تكبره سنا وتصغره سنا فيتقن الانتباه "
وحين مات منيف وهو في الثالثة والخمسين من العمر رثاه مريد وكتب فيه ما كتبه هنا نثرا .
من المؤكد أن الظروف اليوم اختلفت اختلافا كليا ، فما عادت البنت البكر أما ثانية ، ولا عاد الابن الأكبر يقوم بالدور الذي كان يقوم به . صارت البنت البكر تمارس حياتها ، فأكثر العائلات لا تخلف غير ثلاثة أو أربعة ، وصار الأولاد عبئا على أبيهم ، نظرا لقلة فرص العمل وازدياد الأوضاع الاقتصادية سوءا .صار الابن بحاجة إلى مساعدة أبيه حتى يبني ويتزوج .

***

- جوخة الحارثي : خريطة عائلة الرواية

بعض الروائيين صاروا يلجأون إلى رسم خريطة لعائلة روايتهم ، حتى يتذكر القاريء شخوصها ولا يخلط .
والصحيح أنني فكرت في رسم خريطة لعائلة رواية جوخة الحارثي ، والقيام بإحصاء سكاني للقرية ، ضربا من الفنتازيا ، فمن عاشر القوم أربعين يوما صار منهم وتخلق بأخلاقهم ، وأخلاق أهل العوافي ما شاء الله عنها !
من الشخصيات التي احصيتها مبدئيا
١ - هلال والد سليمان التاجر و عبدالله بن سليمان وسالم بن عبدالله ، وأخت سليمان وهذه مطلقة مرتين ومتعالية .
٢ - سالمة وزوجها عزان وبناتهما ميا وأسماء وخولة ، ولهما طفلان ماتا ( محمد ٩٨ و أحمد ١٠٢ ) .في ص ٢٣ إشارة إلى أن سالمة تزين كل شيء إلا جسدها . هل صادق زوجها عزان نجية لهذا .؟
٣ - ميا زوجة عبدالله وابنتهما لندن وابناهما سالم والمعاق محمد .
٤- عيسى المهاجر وابناه خالد وعلي وأختهما التي توفيت غالية . وخالد يتزوج من أسماء .
- نجية ووالدها وأخوها المريض ، وصديقتها خزينة .
- سعيد التاجر وعبدته عنكبوتة ص ٦٠ وابنتها ظريفة وابن ظريفة سنجر وزوجته شنة ( للشيخ سعيد أخ ميت اسمه مسعود ١٠٣ / ص ١٤٦ ) ولظريفة صديقة اسمها فطوم ص ٩٤ .
- منين وابنه زايد ص٦١ .
- والد شنة ص٩٥ ( صورة إيجابية للزوج المخلص الذي يحب زوجته والمرأة التي تكد وتعمل وتعاني ) ! وزوجته مسعودة .
- حبيب زوج ظريفة .
- حفيظة صديقة ظريفة .
- نصيب زوج عنكبوتة ص٦١ / قصة عنكبوتة حين رفضت الزواج من نصيب . .
- ممدوح الأستاذ المصري .
- بيل وطومس الانجليزيان .
- زوجة المؤذن .
- معاذ الذي مات بانفجار ، أخو سالمة ؟
- مريم وزوجها القاضي يوسف ووالدتها التي علمتها كيف تتصرف مع زوجها ليلة عرسها .
- الشاعر أحمد خطيب لندن ، يتظاهر بأنه شاعر حداثي .
- الدكتورة حنان صديقة لندن ، وقد تعرضت للاغتصاب وهي طبيبة وتسعى لمساعدة أسرتها .
- زوجة التاجر سليمان ، وحضورها يكون من خلال ذاكرة الآخرين .ص ٣٠ صفحة مهمة بالإضافة إلى صفحة٢٠٦ / ٢٠٧
- سنجور والد عنكبوتة وهو افريقي نشأ هناك .
- سويد وأخوه زعتر .
و هما العبدان اللذان يذبحان الخراف ، ولسويد عود يعزف عليه .
- الساحر في ص ١٨٢ و١٨٣ ولا نعرف شيئا عن هويته الشخصية ؛ اسمه وعائلته وملامحه .
- شخصيات تقول عبارة فقط :
صالح شريك عبدالله في البورصة.
أو تذكر فقط مثل علي بن خلف الذي تذكره ميا / حب أول ، ومثل عبد الرحمن الطفل الذي كان يلعب مع ناصر وخولة
- الداية ؛ داية العبيد وداية الأسياد .
الطباخة حفيظة ابنة سعادة /حفيظة باص الشعب التي لا تعرف الأب الشرعي لمولودها أهو زعتر او مرهون أو حبيب ؟
- ناصر زوج خولة .
- الشاب الذي تولع بسالم في المرقص ١٢٣
- مروان الطاهر /إخوته الذين قبله وهم أحمد ومحمد وقاسم ، وبعده هلال وعصام - خمسة مجرد ذكر .
- ( مروان اسم خال مروان الذي ربى أم مروان )
- مسعودة التي كشفت سر والدة عبدالله التي كانت على علاقة جنسية مع سليم عبد الشيخ سعيد ٢٠٧ وهي والدة شنة وزوجها زيد .
- فريج السكران الذي يضرب زوجته ص ٥٦
- الحلاق .ص ١٣٦ .
- حمدان صاحب دكان ص٥٨ .
- إشارة إلى خادمة أجنبية ص ١٨ .
( ينظر تعقيب الطالبة نوال الستيتي على الكتابة حيث ذكرت أسماء لم أذكرها )



*-*-*-*


٢١ - المثل الشعبي
٢٢ - البطيخة الجاهزة ووصايا اعرابية لابنتها ليلة زفافها
٢٣ - المرأة الأفعى
٢٤ - معتقدات و أساطير
٢٥ - معتقدات شعبية
٢٦ - الطبع والتطبع : الصلاة والسرقة
٢٧ - نهايات سوداوية
٢٨ - العنوان
٢٩ - للمجتمع العماني ومظاهر الحياة الجديدة
٣٠ - سيدات القمر .. عبيدات القمر
٣١ - مرايا الآخر : مصر والمصريون
٣٢ - الإنجليز
٣٣ - لوحة الغلاف
٣٤ - ثنائية الوطن - المنفى
٣٥ - ابن حزم وانقسام الارواح
٣٦ - معاناة المرأة العربية
٣٧ - البيئة المكانية
٣٨ - طرق القص وصعوبة القراءة
٣٩ - الزمن الروائي
٤٠ - الليلة الأربعون .
٤١ - خريطة عائلة الرواية .
٤٢ - رعب الريفيين من المدينة .
٤٣- الولد وماله لأبيه .
٤٤ - شجرة الريحان وموت أم عبدالله .
٤٥ - البنت البكر ومريد البرغوثي .


==================

الهيكلية شبه الأخيرة لدراستي عن رواية جوخة الحارثي " سيدات القمر " :
فهرس :
- خريطة عائلة الرواية

* القسم الأول :
- ( مان بوكر ) العالمية للرواية العربية
- مان بوكر العالمية للرواية .
المجتمع العماني :
- ثقافة الطعام .
- ثقافة الطعام 2 : " التالي للغالي " أم التالي لغير المعتبر .
- ثقافة الأسماء .
- ثقافة الأسماء 2 / أم طبقية الأسماء .
- عمان الفقيرة وقسوة المجتمع .
المرأة في المجتمع العماني
- سيدات وعبدات
- المرأة : باص الشعب والمخيلة الشعبية
- الحب المحرم
- عدم تقبل ضرب المرأة
- البطيخة الجاهزة ووصايا أعرابية لابنتها ليلة زفافها
- المرأة الأفعى
- معاناة المرأة العربية
- البنت البكر ومريد البرغوثي
- شجرة الريحان وموت أم عبدالله
الصراع الاجتماعي في المجتمع العماني
- التعالي المريض
- تطور المجتمع العماني
- الولد سر أبيه : عبيد ينشدون الحرية
- رعب الريف من المدن والحياة فيها
- أنت ومالك لأبيك
- المجتمع العماني ومظاهر الحياة الجديدة
المجتمع العماني : الحب والأخلاق
- مجتمع العشق والحب والزنا
- ابدأ صفحة جديدة
- ابن حزم وانقسام الأرواح
المجتمع العماني : معتقدات اجتماعية وشعبية
- معتقدات وأساطير
- معتقدات شعبية
المجتمع العماني : الذات والآخر :
- الطبع والتطبع : الصلاة والسرقة
- مرايا الآخر : مصر والمصريون
- مرايا الآخر : الانجليز
- ثنائية المنفى والوطن
محمود درويش والشعر العماني
- غسان كنفاني : توارد الأفكار

* القسم الثاني :
- لوحة الغلاف
- حول العنوان
- سيدات القمر .. عبدات القمر
- البيئة المكانية
- طرق القص وصعوبة القراءة
- الزمن الروائي
- عنصر التشويق في الرواية
- التعدد اللساني
- المثل الشعبي
- نهايات سوداوية
- الليلة الخامسة والأربعون .

تموز 2019
"أنجزت الكتابة في آيار وحزيران وتموز من العام 2019 "




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى