أ. د. عادل الأسطة - حراسة الذاكرة: في ذكرى الشاعر توفيق زياد

تمر في الخامس من تموز ذكرى رحيل الشاعر توفيق زياد، وغالباً ما لا يحتفل بها الفلسطينيون والعرب احتفالهم بذكرى غسان كنفاني.
في ذكرى الثاني تكتب المقالات وقد تعقد الندوات وفي ذكرى الأول قد يكتب مقال أو مقالان أو ينشر خبر وقليلاً ما تقام ندوة.
وإن أردت أن أتذكر ما قمت به شخصياً في ذكرى رحيل الاثنين فإنني أعزز ما سبق. كتبت مقالات كثيرة في ذكرى غسان وشاركت في غير ندوة وقليلاً ما كتبت في ذكرى وفاة توفيق، والشيء نفسه يصلح لأن يقال عن ذكرى وفاة محمود درويش وسميح القاسم وعبد اللطيف عقل الذين تمر ذكرى رحيلهم في شهر آب.
كل عام أكتب عن الأول وألتفت إلى الثاني والثالث كل بضعة أعوام، ولا يقتصر هذا علي، ففي ذكرى درويش تدبج المقالات ويعاد نشرها وقليلاً ما يكتب عن القاسم ونادراً ما يتذكر عقل.
ما سبق حثني على التفكير في الأسباب: أتعود إلى جانب أدبي أم إلى فعل الاستشهاد أم إلى العلاقات الشخصية أم إلى الجهة السياسية التي تقف وراء كل واحد من هؤلاء أم إلى تقارب ذكرى كنفاني وزياد وتقارب ذكرى الثلاثة المذكورين أم أن المحتفين يرون أن احتفاءهم بواحد يعني احتفاءهم أيضاً بالآخرين وأن ما يقومون به هو أقرب إلى فرض الكفاية؟
عندما كتب درويش قصيدته «سنة أخرى فقط» لاحظ أنه تحول إلى شاعر رثاء فأراد أن يكتب قصيدة رثاء واحدة فقط.
لقد أدرك أيضاً أن الرثاء تعب من الضحايا، وقد أخذ على شعره بعد مغادرته الأرض المحتلة أنه غدا شاعر رثاء لكثرة قصائده في الموضوع.
وأنا شخصياً صرت ألاحظ أن كثيراً من كتاباتي صارت تحفل برحيل الرموز، ما دفع مرة قارئاً إلى التعبير عن ضجره، فهي مقالات تلوك في أسماء محددة.
وأعود إلى السبب الذي يكمن وراء كتابتي عن كنفاني ودرويش أكثر من كتابتي عن زياد والقاسم وعقل وجبرا وفدوى وغيرهم وأرده إلى قوة تأثير نصوصهما فيّ شخصياً وإلى ثرائها المعرفي وتفرغهما للأدب الذي صار مع القضية الفلسطينية قضيتهما الأدبية والحياتية والإنسانية، ففي القضية الوطنية تتشابه علاقة الأسماء المذكورة بها وتتقارب وقد يكون بعض المذكورين أولى السياسة أكثر بكثير من الأدب، بل إن الأمر كذلك.
حين نقارن اهتمام كنفاني بالأدب وتنوع إنتاجه فيه باهتمام زياد نلحظ ما سبق، وحين نقارن عطاء درويش الشعري بعطاء زياد الشعري نلحظ أيضا ما سبق. كتب كنفاني القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة والمقالة وكثرت نصوصه في هذه الأجناس، وقلت نتاجات زياد في القصة القصيرة أو المقالة الأدبية والدراسات وإن أصدر عدة دواوين شعرية، ثم إنه انقطع عن كتابة الشعر لسنوات طويلة لتفرغه للعمل السياسي في الحزب ورئيساً لبلدية الناصرة.
كل ما سبق حقيقة ولكن تبقى هناك القيمة الأدبية وتفاوتها بينه وبين كنفاني وهذا ما جعلني أفكر ملياً في طبيعة أشعار زياد.
حقاً إنني أنجزت عن مجموعته القصصية الفولكلورية «حال الدنيا» (١٩٧٤) دراسة مطولة إلا أن ما كتبته عن أشعاره قليل جداً قياساً بما أنجزته عن أشعار درويش.
مرة كتبت مقالاً عنوانه «توفيق زياد ناقداً» أتيت فيه على موقفه من مجموعتَي درويش «أوراق الزيتون» و «عاشق من فلسطين» ورأيت أن ما كتبه يمثل خلاصة رأيه في الشعر وينطبق على أشعاره التي تبدو فنياً قصيدة واحدة تختلف مناسباتها وأنها - أي أشعاره - لا تدفع المرء إلى الكتابة المتعددة المتنوعة عنها، وأنني إذا ما أردت أن أكتب عنها مراراً فسوف أكرر الكتابة.
يكتب زياد، حين يتناول تعدد مدلولي الأب والقمر في المجموعتين، ما يعزز الرأي السابق.
كان درويش يستخدم الدال الواحد لغير مدلول، فدال الأب ودال القمر لم يردا في المجموعة اللاحقة بالمعنى نفسه الذي وردا فيه في المجموعة السابقة، وهذا ما لم يعجب زياد فخاطب درويش مقدما له النصائح الآتية:
«خلك على أبيك الأول يا محمود! إنه حقيقي أكثر»
و:»أنصحه أن لا يظلم القمر هذا الظلم الصارخ. لا تحط عقلك في عقله يا محمود! فهو طول عمره جميل ولا مقل له» (أنظر مقالتي «توفيق زياد ناقداً: في الذكرى الثالثة لوفاة الشاعر» (١٩٩٧) في الأيام الفلسطينية).
كما لو أن نصائح زياد لدرويش تطلب منه ألا يتطور وأن يستخدم المفردة الواحدة استخداماً يقتصر على معناها القاموسي، وهذا ما لم يرق لاحقاً لدرويش فكتب عن تجربته في الأرض المحتلة وعن موقفه من اللغة الشعرية «المهم أن القيمة الاستعمالية للغة يجب أن تتمرد باستمرار، وإلا سيصبح الشعراء متشابهين» وأنه لو ظل يكتب على غرار قصائد «أوراق الزيتون» لكتب ديواناً واحداً مكرراً ولما تطور شعرياً «هل أن أكون صدى مكرراً لما كنت؟ هل أحافظ على الصورة القديمة، أم أبحث عن لغة جديدة وقصيدة جديدة؟» و»طالبني النقد الماركسي الرسمي بالعودة إلى ماضي، وأي ماض كان لي؟ وليس سوى كتاب واحد. عند كل ديوان أجد نقاداً يطالبونني بالعودة إلى ديوان مضى...».
هل عرف السبب الذي من أجله احتفل بأسماء أكثر من أخرى؟
كتب زياد القصيدة الواضحة التي تحتمل قراءة واحدة، وكانت مجمل أشعاره كما لو أنها قصيدة واحدة ولم يكن يرى الشعر أكثر من تعبير عن موقف سياسي أو حزبي أو وطني ولم يكن ليهتم بسؤال مكانته شاعراً في خارطة الشعر الفلسطيني أو العربي أو العالمي، ولم تكن أسئلة اللغة لتعنيه كثيراً، ثم إنه مال إلى السياسة وانشغل بها عن الشعر، و... و.... والموضوع قابل للنقاش.

أ. د. عادل الأسطة
2022-07-03

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى