نزار حسين راشد - كنت في أوروبا: ثقافة الإستنساخ

تقول صديقة لي أتمت طوافها مثلي في العواصم الأوروبية، أنها نمط مكرر،أو استنساخ كربوني من بعضها البعض، هذا إيجاز تعبيري يصلح عنواناً، أما التفاصيل فهي أكثر إيلاماً،صديقي الذي فرح بحصوله على اللجوء في النرويج قال انه اضطر لغض بصره عن النساء اللاتي يتشمّسن عاريات على مقاعد الحدائق حتى لا يلبسوه تهمة التحرش،لاجئة في السويد رفعت عقيرتها بالشكوى لأن الرعاية الإجتماعية اختطفت طفلتها بعد شكوى من المدرسة لأنها رفضت إشراكها في حفلة رقص مختلطة، وذلك الذي اعتقل في عاصمة أخرى لأنه ضرب ابنه المراهق حين ضبطه يتعاطى المخدرات، أما الأنكى فهو ذلك الشاب الذي أحسن الظن بالديمقراطية فخاض نقاشاً مع فتاة مثلية الجنس استنكر المثلية فرفعت عليه دعوى كراهية وسجن بالفعل..
في أوروبا ويا للعجب تساوت دعوى إستنكار المثلية بتهمة اللاسامية القاتلة التي تودي بصاحبها للدرك الأسفل من العقاب، ويمكن أن تفصله من عمله أو حتى تحرمه من الجنسية!
تعسف مفضوح وعلني وصل في فرنسا إلى تحريم الحجاب والطعام الحلال كونها رموز دينية لا تتفق مع قيم الجمهورية الفرنسية،أما الكوشير فيبقى مبجلاً ولا يعد إخلالاً بتلك القيم..
فهل تقف الإسلاموفوبيا وراء تلك الظواهر، أم أنه ميراث الحروب الصليبية الذي لم يمت في الذهنية الأوروبية، أم أنه الإستعلاء الإستعماري الذي لا يقبل بالندية مع الآخر..
في أوروبا تجد نفسك في مشادّة مع الدولة، فماذا عن الأفراد، يحكي لي صديق مسلم أن اسرة فرنسية دعته إلى العشاء، وعندما رفض تناول لحم الخنزير نظر إليه الجميع باشمئزاز ورمقوه شزراً حتى اضطر إلى الإنسحاب دون أن يحاولوا استبقاءه إكراماً للضيف، وهي القيمة التي لا يعرفون عنها شيئاً، علماً بأن اليهود يحرّمون الخنزير ولو كان الضيف يهودياً لما تجرّأ أحد على انتقاده أو توجيه نظرة جارحة أو كلمة مازحة إليه..
فهل خدعنا رفاعة الطهطاوي صاحب "الذهب الإبريز في تلخيص باريز"،
ولماذا تعشق غادة السمان شوارع باريس ومقاهيها، وتجد نفسها فيها، أو لا تجد نفسها إلا فيها، ولماذا عشق سهيل إدريس الحي اللاتيني؟
وهل يبحث المهاجر الإفريقي في هذه العواصم عن ركن يأوي إليه ولقمة تسد جوعه،فإذا وجدهما أطمأنت نفسه وسكنت لديه نوازع الإحتجاج؟
يغرق المهاجرون ومع ذلك تستمر أفواجهم بالتدفق،فأي حُب قاتلٍ هذا،أم أنه إلحاح الحاجة ووطأة الضرورة والأوطان الطاردة الضائقة بأبناءها؟
في عالمنا الثالث أو الرابع او العاشر،أصبح العيش مغامرة واقعة بين حدّين، موت أو نجاة، فمن كتبت له الحياة هنأناه بالسلامة، ومن سقط على الدرب أبّناه ورثيناه بوجع الكلام، ومع ذلك يستمر النهر في الجريان وكما عبّر شاعر معايش للحدث "حسن ابو عرقوب" المجزرة أمامهم وخلفهم المقبرة!
أيام اليسار المتمرد كانت الفتاة الأوروبية تصادق أسوداً أو تتزوجه كتعبير عن رفض العنصرية، اليوم أصبح ذلك عارا ً وشناراً أن تٌرى برفقتهُ! ولكنها بالمقابل لا تخجل من مصاحبة فتاة سوداء على سبيل التباهي بالقيم المثلية الجديدة التي لا تفرّق بين الألوان،فهل هو اختلال القيم أم انحرافات السياسة؟
في جنوب إفريقيا وقبل مانديلا قتلوا محامياً يسارياً أبيض لأنه ترافع دفاعاً عن قضايا السود.. وقف صديقه المقرب فوق جثته وأعلن بلا خجل: لقد كان رجلاً رائعاً ولكنه تحول إلى كتلة من الأوساخ بمناصرته لأولئك السود!
فهل هي العنصرية المتجذرة في الثقافة الغربية برغم كل الطلاءات والدهانات التي تتساقط قشورها بالاحتكاك ؟
أصل العلة كما أراه أنك لو كنت محترماً في وطنك لاحترمك الآخرون خارجه،أما أن تكون في وطنك لا حق منصور ولا سعي مشكور ولا ضعف معذور، فهم لهذا يطلبون منك التنازل، فلكي تُحصّل حقّاً عليك أن تُقدّم باطلاً على مذبح الدين الجديد، وها هم طائفة من مثقفينا هناك يلتمسون الرضا بتقديم القرابين، فلا أسهل من القدح في الذات والذمّ في الآيات البينات، ومن سلمان رشدي الذي شيطن الآيات إلى يوسف زيدان الذي لم يرض بأقل من المسجد الأقصى أقدس المقدسات ليستهدفه بالبهتان و الإتهامات، وإذا ذكرت فاذكر طه حسين الذي لم يجد غير صرح اللغة التي يكتب بها ليهدم أقدس الكلمات، شاهداً على نفسه بالتهافت والافتراءات،فلو كانت منحولة فكيف وصلت إليك وجرت بها على لسانك البلاغات؟
وإنما هي جملة من المتناقضات تتصارع فيما بينها جاعلة التصالح من المستحيلات.
فكما قال الحق سبحانه وتعالى"لكم دينكم ولي دينُ"!
أما هذه الدماء التي تهرق على مذابح الثقافات، فإنها دماء مهدورات، فغلي الأحجار لا يصنع حساءً، فانج بقلمك أيها المثقف، ولا تنحن للبدع والمسلمات، وإن خدعوك بالقول أطع السلطان ولو جلد ظهرك وغصب مالك، فأنا أتيتك بالخبر اليقين من حديث النبي الأمين:
روي أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال لكعبِ بنِ عُجرةَ: أعاذك اللهُ من إمارةِ السفهاءِ قال: وما إمارةُ السفهاءِ؟ قال: أمراءُ يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبِهم وأعانهم على ظلمِهم فأولئك ليسوا مني ولستُ منه ولا يردونَ عليَّ حوضي ومن لم يصدقْهم بكذبِهم ولم يعنْهم على ظلمِهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون عليَّ حوضي. يا كعبُ بنَ عجرةَ الصيامُ جنةٌ والصدقةُ تطفئُ الخطيئةَ والصلاةُ قربانٌ أو قال: برهانٌ – يا كعبُ بنَ عُجرةَ الناسُ غاديان: فمبتاعٌ نفسَه فمعتقُها وبائعٌ نفسَه فموبقُها.
واعلم أن الحياة خيارات ،والخيارات حدّية وجدّية لا تقبل التنازلات والمساومات والتسويات،ففي هذه السوق تباع وتشترى المقلّدات والمستنسخات لأنهم ببساطة يريدون أن يصوغوك على هيأتهم تماماً ودون رتوشٍ أوشذرات.[/HEADING]
الحق أقول لك لولا مشايعة بعض مثقفينا للسلاطين، والذين تقمّصوا دور مفتي البلاط من قدماء المحدّثين، ربما لتبدّل الحال، لأنها في البدء كانت الكلمة، فاحفظوها صادقة نقية، ولا تدخلوها سوق الجواري والغلمان والجوائر السلطانية.

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى