الإسكندرية في 19 / 7 / 1941.
أخي وصديقي العزيز...إنك تعرف رأيي في "عجر" وفي أراء "عجر" حينما يشطح عن تدريس العربي إلى أفكاره الفلسفية. ولكن حدث ما قد خيب ظني، لقد كان "عجر" دائمًا ينفخ كرشه العظيم ومن أعمق أعاميقه يقول: "جورج ده ولد مستهتر" لم أكن أعني بالتعليق على هذه الجملة.. ولكن حدث أخيرًا ما جعلني أؤمن بأنه كان على حق. فقد بلغ من استهتاري أنني استهترت بالحياة. هذا هو الفصل الأول من تلك القصة.
في اليوم الذي انتهى فيه الامتحان اللعين ذهبت إلى مصطفى باشا، وهناك كان كشف الهيئة فوجدوها لا بأس بها. وبعد أيام تلقيت خطابين أحدهما من الأميرالية تطلب إلي التوجه إلى مطار الدخيلة، والآخر من سمير يتمنى لنا النجاح ويسأل عن أرقام جلوسنا. وضعت أحد الخطابين في جيب والآخر في جيب آخر.
وفي اليوم التالي توجهت إلى مطار الدخيلة حيث أوصلتني سيارةٌ إلى الباب الخارجي وقال لي السائق : هنا مطار الدخيلة. سرحت الطرف فرأيت عدة معسكرات تمتد على جانبي طريق صحراوي، والمدافع منصوبة من كل الأشكال والألوان منها الرفيع ومنها السميك ومنها الطويل ومنها القصير كما رأيت الطائرات جاثمة من كل الأشكال والألوان منها الرفيع ومنها السميك ومنها الطويل ومنها القصير تصعد وتهبط مما يسمونه المطار وكم كان منظرٌ ظل الطائرة على الأرض رهيبًا. لم أشعر بشيء سوى لسع حرارة الشمس. وقد وسوس لي الشيطان أو وسوست لي نفسي الخبيثة أن أتجول قليلًا في تلك المنطقة. فخلفت المطار ورائي وتقدمت في الطريق أتفرج فطالعني من الجنود أصناف وأشكال. بعد مدة وصلت إلى باب أحد المعسكرات فتقدمت منه. وعندئذ رأيت قزمًا يقفز من أحد شقوق الباب هاتفًا "باس بورت".
كانت مفاجأةٌ ولم يكن لدي "باس بورت" فأبرزت للحارس الخطاب وأخبرته بأني أريد أن أصل إلى المطار الإنجليزي. ولكن الحارس لم يكن إنجليزيا بل كان بولنديا فلم يفهم إلا كلمة "إنجليزي" ولم يستطع قراءة الخطاب فأعطاه لي وأشار لي بيده وأخذ يتكلم بالبولندية وفي كل جملة كان يضع كلمة بريتش ففهمت أن البريتش معسكر في الاتجاه الذي يشير إليه. فدخلت.
كان أول ما صادفني جماعة من الهنود وقد جلسوا تحت ظل النخيل وخلعوا أقمصتهم وفردوا لباساتهم وأخذوا ينقونها من خيراتها. مررت بهم وتابعت سيري فإذا بي أجد نفسي في معسكر بولندي، تقدمت من أحد الجنود قائلًا : هل تعرف الإنجليزية فهز رأسه وأشار إلى زميل له وناداه، وكررت السؤال على الزميل ولكنه بدوره هز رأسه وأشار إلى زميل له، وناداه وتكررت هذه المهزلة بضع مرات إلى أن تقدم أحدهم وهو طويلٌ، طويل جدا ورفيع، رفيع جدا، وأطل على برأسه (من عل) قائلًا : ماذا تريد فأفهمته أنني أريد أن أصل إلى المطار الإنجليزي فتشاور قليلًا مع زملائه بالبولندية ثم أشار إلى حائط فاصل وقال : خلف هذا الحائط تجد المطار ولكن غير ممكن أن تقفز منه لذلك يجب أن تدور حوله حتى تصل إليه. هنا شكرته وخرجت وعند خروجي أشار لي الحارس محييًا كأنه أدى لي خدمة جليلة.
ذهبت إلى المطار وهناك تقدمت إلى حارسه وأطلعته على الخطاب فأذن لي بالدخول. سرحت النظر في المطار فإذا بالطائرات تنتشر على الأرض، فعولت على رؤيتها كلها وأخذت أتجول في أنحاء المطار زهاء الساعة حتى كلت قدماي وكاد الحر يهلكني ولكنني شاهدت العجب العجاب من طائرات مطاردة إلى أخرى قاذفةً للقنابل إلى أخرى بحرية كما شاهدت أعشاش المدافع ولم أر في حراستها غير البولنديين والفرنسيين، كما لاحظت أن معسكرات البولنديين والفرنسيين من الخيام. أما معسكرات الإنجليز فمبنية من الطوب وأمام كل ثكنة حديقة صغيرة. وأخيرًا تقدمت إلى الكابتن وكان أول ما لاحظته عليه ذقنه الغريبة فهي تبتدئ من تحت العينين وتنتهي قرب الذقن ولا يلتقي الفرعان ولا يتجاوزا الذقن أبدًا. وقد قابلني بكل احترام وأفهمني أن العمل على حاملة الطائرات فورميدابل غير متيسر الآن ولكن قد يكون من الممكن بعد مدة. وتمت جميع الإجراءات الرسمية وهكذا أصبحت عضوًا في سلاح الطيران التابع للأسطول، وقدمني الكابتن إلى أحد الطيارين الذي اقتادني إلى إحدى الثكنات، ووقف في وسطها صائحًا : أيها السادة لقد كسبنا زميلًا جديدًا متطوعًا. فأقبل على الجميع مرحبين مهنئين.
إنني لا أستطيع أن أصف لك مقدار غبطتي ولا مقدار سروري بين هؤلاء الزملاء الأوفياء ولكن الذي يحزنني هو أن أمرح مع أحدهم في أحد الأيام، ثم إذا سألت عنه بعد ذلك قيل لي لقد ذهب.. ذهب بغير رجعة.. وقد كان لي صديقٌ كنت أعزه أكثر من الجميع اسمه (إدورد) كان دائمًا بشوش الوجه، ودائمًا ضاحكًا، لا يحزنه شيءٌ. ودائمًا يغني، ومن الأغاني التي كان يغرم بها ويحبها الأنشودة التي تقول :
سوف ألتحق بالأسطول لأرقص فوق الأمواج، على نغمات الأمواج
وكان يمضي في أنشودته بصوت سحري وبنبرات فياضة تهز مشاعر القلب وفي بعض الأحيان كان يغني : سوف ألتحق بالطيران لأركب متن الريح وأهتف في أعماق السماء المجد لنا. ولكن هذا الصديق ذهب في إحدى طائرات المطاردة الأمريكية الجديدة ولم يعد....
لقد مرت بي ساعةٌ من أحرج الساعات. فقد كنت في إحدى المرات جالسًا مع بعض الزملاء من الطيارين في نادي الطيران وكانت الساعة زهاء العاشرة فإذا بالصفارة تدوي، وجلسنا في الظلام وأخذ أحد الزملاء - وكان مستجدا يقص ما صادفه وما قام به من جليل الأعمال، وإذا بنا نسمع صفير إحدى القنابل الهابطة فكان أول من انبطح على وجهه هو ذلك الطيار الجريء، ولكن لحسن الحظ لم تنفجر تلك القنبلة في هذه الساعة وأيقنت أن الله حق، ولعنت هتلر والحرب وأيقنت أنها نقمةٌ وليست بنعمة.
وبعد بضع دقائق مرت سيارة فظنوها طوربيدًا نازلًا فكان أسبقنا إلى الانبطاح هو ذلك الزميل.
إن لباسي الرسمي يتيح لي الكثير وقد تفهم معنى الكثير فإن الكثيرات يتهافتن على والكثيرات ينظرن إلي وهذا مما لم أحظ به من قبل. وفي أحد الأيام شاهدت منظرًا مؤلمًا. فبينما كانت إحدى الراقصات ترقص في أحد البارات إذ أسر في أذنها أحد الخدم بضع كلمات فتركت الرقص وخرجت هارعة فدفعني الفضول إلى تتبعها فإذا بي أراها وقد احتضنت ابنًا لها وأخذت تقبله بكل شغف وقد لوثت المساحيق التي تزين بها وجهها وجه الطفل وبكل براءة مد يده النحيلة وأزالها عن وجهه. ترى هل انف الطفل الصغير من أن تلطخه تلك المساحيق المشربة بالعار المدنسة بالقذارة؟، ترى هل فهم الطفل الصغير معنى تلك الحركة التي قام بها.. لقد كان منظرًا مبكيًا، وعندئذ تذكرت قول إسكندر ديماس إذا أردت أن تحكم على بغي ففتش عن سبب عهرها من يدري لعله أحد الأنذال قد غرر بتلك المرأة ثم رمى بها إلى عرض الطريق بعد أن خلف فيها ثمرته ومن يدري فلعلها هي التي غررت بأحدهم ثم تركته تحمل ثمرة إثمها ومن يدري لعل ذلك الطفل البريء هو ثمرة حب برئ...
والآن لأحدثك عن حالة المدينة فقد أصبحت خاوية خالية هجرها أبناؤها وصارت المدينة وكأنها مدينة الأموات. وقد أصيب منزل عمي بقنبلة وأصيبت مدرسته بقنبلتين وأصيبت المكتبة البلدية بقنبلة وأصيبت جميع أحياء المدينة بلا استثناء، وأصيب باب سدرة بطوربيد جديد أفني ما أبقاه سلفه. والغارات الآن لا تكون إلا في الليالي غير القمرية فإن الألمان يأتون معهم بكلوبات يعلقونها في السماء فيطغي نورها على نور القمر. وقد نزل طوربيد في حديقة المحافظة ولكنه لم ينفجر وقد قال أحدهم إن سيدي "أبو الدردار" صعد إلى السماء وأنزله على الأرض بسلام، وأن الذي رأى "أبوالدردار" وهو نازلٌ بالطوربيد هو يوناني فأسلم وبالأمارة كان سيدي "أبو الدردار" لابسًا لباسًا أبيض، فلعل أحدهم رأى الطوربيد نازلًا بباراشوت أبيض فظنه "أبو الدردار".
وأخيرًا نأتي إلى ألعن شيء في الحياة وهو نتيجة الامتحان الذي كنا فيه من الناجحين نجاحًا متفوقًا، وقد قابلت "عجر" فأراد أن يفتتح إحدى المحاضرات - وكنت بلباسي الرسمي، فتوعدته بطوربيد ألقيه عليه.
لقد انتشرت المدافع في الشوارع وفوق أسطح المنازل العالية كما انتشرت فيها المناطيد، التي سماها أحد الظرفاء (خنازير)، كما أخبرني أحد الظرفاء أيضًا أن الصفارة تنطلق قائلة : طابخين إييه.. طابخين إييه.. فيأتيها الرد العاجل "كرمب كرمب كرمب".
لم يبق لدي الكثير من الوقت فعلي أن أستعد اليوم للطيران للمرة الثانية منذ التحاقي. فعذرًا وأرجو أن تكتب إلي بهذا العنوان : 53 شارع دارًا برمل الإسكندرية وقد عملت الترتيبات اللازمة حتى تصل إلي الخطابات في يومها، لم أتلق خطابات من وفيق أبدًا فأرجو أن تدلني على عنوانه قريبًا.
وأخيرًا إلى اللقاء
المخلص :
جورج
إلى اللقاء؟
فهل التقينا حقا، بعد ذلك؟
لم ألتق، بعد ذلك، لا بسمير، ولا بجورج.
شطت بنا الطرق وانشعبت المسارات.
وها نحن نضرب -كل منا وحده- في آخر الدروب.
إذا كنا ما زلنا، بعد.
وخطر لي أنه بينما كان سمير قناوي -كالنبات المعتنى به جيدًا في صوبته المحمية- فيه براءة تشفى على الطفولة، كان وفيق -في تلك السنة- انضج منه ومني بكثير، وأكبر تجربةً. فهل كان وفيق أيضًا أكثر خبرةً بالنساء؟ هل كان قد تردد على البيوت السرية؟ أم كأن يكتفي بكتب مثل "بئر العسل" أو "اعترافات ساخطة" أو "مذكرات فاني" بالإنجليزية. في طبعاتها الرخيصة -بالبنط الكبير والأخطاء المطبعية الفاضحة- والورق الهش الأصفر وقد كانت تطبع عندئذ في مطابع شبرًا والفجالة خصيصًا لاستهلاك العساكر الإنجليز والأسترال الذين كانت تغص بهم شوارع إسكندرية في1940 و1941، والذين ذهبوا إلى موتهم في العلمين والبراري الغربية؟ هل كان يكتفي -فوق ذلك - بمجلات البورنو الإنجليزي اللامعة الصفحات - التي اسميتها ماجنة - والتي اشتراها سميرٌ أيضًا؟ وقرأتها منهما معًا، بافتتان ونفور مزدوج.
أما جورج فقد كنت عرفته - كما عرفت معظمهم قبل ذلك بأربع سنوات، ياه.. يعني في 1937 في سنة أولى أو ربما ثانية ثانوي حسب نظام التعليم حينئذ يعني ثلاث سنوات قبل التوجيهية التي لم يحصل عليها جورج قط.
كان جورج عندئذ فتى ضخم الجسم ولكنه رياضي، ممشوق الطول، قوي، على طريقة القبضايات، وجهه محمر مدور وكثيف على الطريقة الشامية، كان أبوه ناظر محطة ترام سيدي جابر (المحطة لا الحمامات).
عرفته عندما حاول اغتصاب رواية من درجي في الفصل. وإني لأذكر التفاصيل كما لو كانت بالأمس، فقد كنت حريصًا على روايتي، تلك الثمرة الشهية التي تتدلى من دوحة الفن والجمال، كنت غيورًا عليها، خائفًا من استلابها، لذلك خبأتها تحت الجاكت، وخرجت بها في الفسحة حذرًا مترقبًا.
وحدث ما توقعت، إذ فحص المغتصب درجي فلما لم يجدها استشاط غضبًا وانطلق يبحث عني مع أحد زملائه. وعثر بي عندما كان الجرس يدق، وقد ابتدأ الفناء يخلو من رواده بالتدريج، فلم يبق معي غير أحد أصدقائي واسمه إدوارد لست أذكر تمامًا كيف استطاع أن يجر شكلي، وإنما تتمثل لي صورة الموقف الذي تلا ذلك، في قوة وجلاء.
أمسك جورج بساعدي وحاول أن يثنيه (يعني أن يفرده عن صدري) لكي يخرج الرواية من مخبئها تحت الجاكت، وأخذ زميله يعاونه في تلك العملية، لكني كنت حريصًا عليها، فاستبسلت في الدفاع والمقاومة. وكنت خجولًا فلم أحاول الرد بسيل من الشتائم والسباب، كما يفعل المرء عادةً في مثل هذه المواقف.
أذكر أنه لم يفلح في الاستيلاء على بغيته، وذلك بمعونة صديقي إدوارد اللبق طلق اللسان. وارتد جورج على عقبيه محسورًا محبوطا ثم أذكر أخيرًا كيف أسرعت إلى الفصل وقد تدفقت الدماء فصبغت وجهي بحمرة الانتصار والنشوة والظفر.
من يوميات أخميمٌ، حوالي
الساعة الحادية عشرة مساء
19 أغسطس 1941
لماذا لم أكتب في تلك اليوميات التي اصفر ورقها (بعد أكثر من خمسين عامًا، إلا تريد أن يصفر ويصبح هشا مثل حياتك نفسها وتظل له مع ذلك سطوة؟) لماذا لم أحبك كيف إنني واجهته في البداية بلكمة على فكه، بالضبط كما كنت أقرأ في روايات أرسين لوبين (هل هذه حكاية داود وجوليات مثلًا؟) لكنني بالطبع لم أكن قد تلقيت أي نوع من التدريب على الملاكمة، فإذا بقبضتي، مهما بلغ من حماستها، واهنة، قاصرة لا تكاد تمس وجهه، وإذا هو يضربني بقبضة قوية -لم يضع فيها كل طاقته وإلا كانت قد أودت بي!- وإذا بالدنيا تدوربي، ولكني أحطت الجاكت -وتحتها الرواية- بذراعي كلتيهما، واستقتلت.
ترى ماذا كانت الرواية؟
في الفناء الرملي الذي أصبح الآن خاويًا تقريبًا وفي عز الشمس بين المبنى الذي أصبح كلية الحقوق فيما بعد والمبنى الذي أصبح كلية الآداب ولم يعرفهما جورج قط على هذا النحو، أذكر -حتى الآن- كيف كدت اختنق، وهو يجهد في أن ينتزع تلك الرواية العجيبة مني - وزميله الذي لم أعد أذكر لا اسمه ولا شيئًا عنه على الإطلاق، يجهد في أن يفرد ذراعي الأخرى التي ماتت على الجاكت، لا يهزها شيءٌ.
هذا الصبي -الطفل في الثانية عشرة من عمره هش الجسم، ضئيل الحجم، هل أذكر -مع هذا الصبي- حس الغرق وشهقة الغصص والاستماتة مع ذلك في الدفاع عن الذات؟
وهل انحسرت هذه الاستماتة أم هي -أو بقاياها- مازالت هناك؟
لست أدري كيف تصادقنا. وكيف وجدت فيه ميولًا نبيلة، وأفكارًا سامية وقابليةً للأدب، وميلًا لسماع آرائي المتطرفة والشعور بمثلها.
أذكر كيف كنا نسطو على حديقة المدرسة وحديقة الناظر لنسرق الزهور الجميلة الباسمة، وكيف كنا نبرز أعمالنا بآراء فلسفية رائعة، وندعمها بحيل شيطانية غريبة.
ثم ألفنا عصابةً تتكون منه ومني ومن صبي حرامي. تلميذ شقي في سنة أولى وكنا نسطو على أشجار النبق والعنب، ونملأ جيوبنا في فسحة الغداء نبقًا لذيذًا، وإن كان في الغالب فجا، ولكن تحليه لذة المغامرة وطرافة الأمر. وكنا نعقد في أثناء تلك الأعمال مؤتمرات عجيبة يتخللها الجد مع الهزل والدعابة مع الخطورة وتمتزج فيها الفلسفة بالسخرية وتشوقنا إليها رغبتنا في الخروج على التقاليد المتبعة والسخرية بكل ما هو مألوف وعادي.
اذكر كيف كنا قبل الامتحان بدقائق نسطو على كرمة العنب فنجني منها كمية كبيرة من ورق المحشي والحصرم، وطائفةً لا بأس بها من الأشواك والغبار والمتاعب المحبوبة التي تنتهي بابتسامة الخ الخ الخ... وكما كان يحدث لي في الطرانة، ها هو ذا التشبث في آخر حدود الاندفاع الصبياني بالخشب الهش الرقيق هيكل العنباية التي تقع في داخل حدود المحظور بين فناء المدرسة، وهو مباحٌ، وحديقة الناظر وهي ممنوعةٌ.
أهجوم باكر على الطابور، او مناوشة له واقتحام مرةً بعد مرة على طول السنين؟
الخدوش في الوجه والذراعين والساقين من غير ترف ومن غير جرح للروح.
كأنما الاشواك عقد خفي مضفور حول كل الجسم.
إدوار الخراط
فبراير 1996
أخي وصديقي العزيز...إنك تعرف رأيي في "عجر" وفي أراء "عجر" حينما يشطح عن تدريس العربي إلى أفكاره الفلسفية. ولكن حدث ما قد خيب ظني، لقد كان "عجر" دائمًا ينفخ كرشه العظيم ومن أعمق أعاميقه يقول: "جورج ده ولد مستهتر" لم أكن أعني بالتعليق على هذه الجملة.. ولكن حدث أخيرًا ما جعلني أؤمن بأنه كان على حق. فقد بلغ من استهتاري أنني استهترت بالحياة. هذا هو الفصل الأول من تلك القصة.
في اليوم الذي انتهى فيه الامتحان اللعين ذهبت إلى مصطفى باشا، وهناك كان كشف الهيئة فوجدوها لا بأس بها. وبعد أيام تلقيت خطابين أحدهما من الأميرالية تطلب إلي التوجه إلى مطار الدخيلة، والآخر من سمير يتمنى لنا النجاح ويسأل عن أرقام جلوسنا. وضعت أحد الخطابين في جيب والآخر في جيب آخر.
وفي اليوم التالي توجهت إلى مطار الدخيلة حيث أوصلتني سيارةٌ إلى الباب الخارجي وقال لي السائق : هنا مطار الدخيلة. سرحت الطرف فرأيت عدة معسكرات تمتد على جانبي طريق صحراوي، والمدافع منصوبة من كل الأشكال والألوان منها الرفيع ومنها السميك ومنها الطويل ومنها القصير كما رأيت الطائرات جاثمة من كل الأشكال والألوان منها الرفيع ومنها السميك ومنها الطويل ومنها القصير تصعد وتهبط مما يسمونه المطار وكم كان منظرٌ ظل الطائرة على الأرض رهيبًا. لم أشعر بشيء سوى لسع حرارة الشمس. وقد وسوس لي الشيطان أو وسوست لي نفسي الخبيثة أن أتجول قليلًا في تلك المنطقة. فخلفت المطار ورائي وتقدمت في الطريق أتفرج فطالعني من الجنود أصناف وأشكال. بعد مدة وصلت إلى باب أحد المعسكرات فتقدمت منه. وعندئذ رأيت قزمًا يقفز من أحد شقوق الباب هاتفًا "باس بورت".
كانت مفاجأةٌ ولم يكن لدي "باس بورت" فأبرزت للحارس الخطاب وأخبرته بأني أريد أن أصل إلى المطار الإنجليزي. ولكن الحارس لم يكن إنجليزيا بل كان بولنديا فلم يفهم إلا كلمة "إنجليزي" ولم يستطع قراءة الخطاب فأعطاه لي وأشار لي بيده وأخذ يتكلم بالبولندية وفي كل جملة كان يضع كلمة بريتش ففهمت أن البريتش معسكر في الاتجاه الذي يشير إليه. فدخلت.
كان أول ما صادفني جماعة من الهنود وقد جلسوا تحت ظل النخيل وخلعوا أقمصتهم وفردوا لباساتهم وأخذوا ينقونها من خيراتها. مررت بهم وتابعت سيري فإذا بي أجد نفسي في معسكر بولندي، تقدمت من أحد الجنود قائلًا : هل تعرف الإنجليزية فهز رأسه وأشار إلى زميل له وناداه، وكررت السؤال على الزميل ولكنه بدوره هز رأسه وأشار إلى زميل له، وناداه وتكررت هذه المهزلة بضع مرات إلى أن تقدم أحدهم وهو طويلٌ، طويل جدا ورفيع، رفيع جدا، وأطل على برأسه (من عل) قائلًا : ماذا تريد فأفهمته أنني أريد أن أصل إلى المطار الإنجليزي فتشاور قليلًا مع زملائه بالبولندية ثم أشار إلى حائط فاصل وقال : خلف هذا الحائط تجد المطار ولكن غير ممكن أن تقفز منه لذلك يجب أن تدور حوله حتى تصل إليه. هنا شكرته وخرجت وعند خروجي أشار لي الحارس محييًا كأنه أدى لي خدمة جليلة.
ذهبت إلى المطار وهناك تقدمت إلى حارسه وأطلعته على الخطاب فأذن لي بالدخول. سرحت النظر في المطار فإذا بالطائرات تنتشر على الأرض، فعولت على رؤيتها كلها وأخذت أتجول في أنحاء المطار زهاء الساعة حتى كلت قدماي وكاد الحر يهلكني ولكنني شاهدت العجب العجاب من طائرات مطاردة إلى أخرى قاذفةً للقنابل إلى أخرى بحرية كما شاهدت أعشاش المدافع ولم أر في حراستها غير البولنديين والفرنسيين، كما لاحظت أن معسكرات البولنديين والفرنسيين من الخيام. أما معسكرات الإنجليز فمبنية من الطوب وأمام كل ثكنة حديقة صغيرة. وأخيرًا تقدمت إلى الكابتن وكان أول ما لاحظته عليه ذقنه الغريبة فهي تبتدئ من تحت العينين وتنتهي قرب الذقن ولا يلتقي الفرعان ولا يتجاوزا الذقن أبدًا. وقد قابلني بكل احترام وأفهمني أن العمل على حاملة الطائرات فورميدابل غير متيسر الآن ولكن قد يكون من الممكن بعد مدة. وتمت جميع الإجراءات الرسمية وهكذا أصبحت عضوًا في سلاح الطيران التابع للأسطول، وقدمني الكابتن إلى أحد الطيارين الذي اقتادني إلى إحدى الثكنات، ووقف في وسطها صائحًا : أيها السادة لقد كسبنا زميلًا جديدًا متطوعًا. فأقبل على الجميع مرحبين مهنئين.
إنني لا أستطيع أن أصف لك مقدار غبطتي ولا مقدار سروري بين هؤلاء الزملاء الأوفياء ولكن الذي يحزنني هو أن أمرح مع أحدهم في أحد الأيام، ثم إذا سألت عنه بعد ذلك قيل لي لقد ذهب.. ذهب بغير رجعة.. وقد كان لي صديقٌ كنت أعزه أكثر من الجميع اسمه (إدورد) كان دائمًا بشوش الوجه، ودائمًا ضاحكًا، لا يحزنه شيءٌ. ودائمًا يغني، ومن الأغاني التي كان يغرم بها ويحبها الأنشودة التي تقول :
سوف ألتحق بالأسطول لأرقص فوق الأمواج، على نغمات الأمواج
وكان يمضي في أنشودته بصوت سحري وبنبرات فياضة تهز مشاعر القلب وفي بعض الأحيان كان يغني : سوف ألتحق بالطيران لأركب متن الريح وأهتف في أعماق السماء المجد لنا. ولكن هذا الصديق ذهب في إحدى طائرات المطاردة الأمريكية الجديدة ولم يعد....
لقد مرت بي ساعةٌ من أحرج الساعات. فقد كنت في إحدى المرات جالسًا مع بعض الزملاء من الطيارين في نادي الطيران وكانت الساعة زهاء العاشرة فإذا بالصفارة تدوي، وجلسنا في الظلام وأخذ أحد الزملاء - وكان مستجدا يقص ما صادفه وما قام به من جليل الأعمال، وإذا بنا نسمع صفير إحدى القنابل الهابطة فكان أول من انبطح على وجهه هو ذلك الطيار الجريء، ولكن لحسن الحظ لم تنفجر تلك القنبلة في هذه الساعة وأيقنت أن الله حق، ولعنت هتلر والحرب وأيقنت أنها نقمةٌ وليست بنعمة.
وبعد بضع دقائق مرت سيارة فظنوها طوربيدًا نازلًا فكان أسبقنا إلى الانبطاح هو ذلك الزميل.
إن لباسي الرسمي يتيح لي الكثير وقد تفهم معنى الكثير فإن الكثيرات يتهافتن على والكثيرات ينظرن إلي وهذا مما لم أحظ به من قبل. وفي أحد الأيام شاهدت منظرًا مؤلمًا. فبينما كانت إحدى الراقصات ترقص في أحد البارات إذ أسر في أذنها أحد الخدم بضع كلمات فتركت الرقص وخرجت هارعة فدفعني الفضول إلى تتبعها فإذا بي أراها وقد احتضنت ابنًا لها وأخذت تقبله بكل شغف وقد لوثت المساحيق التي تزين بها وجهها وجه الطفل وبكل براءة مد يده النحيلة وأزالها عن وجهه. ترى هل انف الطفل الصغير من أن تلطخه تلك المساحيق المشربة بالعار المدنسة بالقذارة؟، ترى هل فهم الطفل الصغير معنى تلك الحركة التي قام بها.. لقد كان منظرًا مبكيًا، وعندئذ تذكرت قول إسكندر ديماس إذا أردت أن تحكم على بغي ففتش عن سبب عهرها من يدري لعله أحد الأنذال قد غرر بتلك المرأة ثم رمى بها إلى عرض الطريق بعد أن خلف فيها ثمرته ومن يدري فلعلها هي التي غررت بأحدهم ثم تركته تحمل ثمرة إثمها ومن يدري لعل ذلك الطفل البريء هو ثمرة حب برئ...
والآن لأحدثك عن حالة المدينة فقد أصبحت خاوية خالية هجرها أبناؤها وصارت المدينة وكأنها مدينة الأموات. وقد أصيب منزل عمي بقنبلة وأصيبت مدرسته بقنبلتين وأصيبت المكتبة البلدية بقنبلة وأصيبت جميع أحياء المدينة بلا استثناء، وأصيب باب سدرة بطوربيد جديد أفني ما أبقاه سلفه. والغارات الآن لا تكون إلا في الليالي غير القمرية فإن الألمان يأتون معهم بكلوبات يعلقونها في السماء فيطغي نورها على نور القمر. وقد نزل طوربيد في حديقة المحافظة ولكنه لم ينفجر وقد قال أحدهم إن سيدي "أبو الدردار" صعد إلى السماء وأنزله على الأرض بسلام، وأن الذي رأى "أبوالدردار" وهو نازلٌ بالطوربيد هو يوناني فأسلم وبالأمارة كان سيدي "أبو الدردار" لابسًا لباسًا أبيض، فلعل أحدهم رأى الطوربيد نازلًا بباراشوت أبيض فظنه "أبو الدردار".
وأخيرًا نأتي إلى ألعن شيء في الحياة وهو نتيجة الامتحان الذي كنا فيه من الناجحين نجاحًا متفوقًا، وقد قابلت "عجر" فأراد أن يفتتح إحدى المحاضرات - وكنت بلباسي الرسمي، فتوعدته بطوربيد ألقيه عليه.
لقد انتشرت المدافع في الشوارع وفوق أسطح المنازل العالية كما انتشرت فيها المناطيد، التي سماها أحد الظرفاء (خنازير)، كما أخبرني أحد الظرفاء أيضًا أن الصفارة تنطلق قائلة : طابخين إييه.. طابخين إييه.. فيأتيها الرد العاجل "كرمب كرمب كرمب".
لم يبق لدي الكثير من الوقت فعلي أن أستعد اليوم للطيران للمرة الثانية منذ التحاقي. فعذرًا وأرجو أن تكتب إلي بهذا العنوان : 53 شارع دارًا برمل الإسكندرية وقد عملت الترتيبات اللازمة حتى تصل إلي الخطابات في يومها، لم أتلق خطابات من وفيق أبدًا فأرجو أن تدلني على عنوانه قريبًا.
وأخيرًا إلى اللقاء
المخلص :
جورج
إلى اللقاء؟
فهل التقينا حقا، بعد ذلك؟
لم ألتق، بعد ذلك، لا بسمير، ولا بجورج.
شطت بنا الطرق وانشعبت المسارات.
وها نحن نضرب -كل منا وحده- في آخر الدروب.
إذا كنا ما زلنا، بعد.
وخطر لي أنه بينما كان سمير قناوي -كالنبات المعتنى به جيدًا في صوبته المحمية- فيه براءة تشفى على الطفولة، كان وفيق -في تلك السنة- انضج منه ومني بكثير، وأكبر تجربةً. فهل كان وفيق أيضًا أكثر خبرةً بالنساء؟ هل كان قد تردد على البيوت السرية؟ أم كأن يكتفي بكتب مثل "بئر العسل" أو "اعترافات ساخطة" أو "مذكرات فاني" بالإنجليزية. في طبعاتها الرخيصة -بالبنط الكبير والأخطاء المطبعية الفاضحة- والورق الهش الأصفر وقد كانت تطبع عندئذ في مطابع شبرًا والفجالة خصيصًا لاستهلاك العساكر الإنجليز والأسترال الذين كانت تغص بهم شوارع إسكندرية في1940 و1941، والذين ذهبوا إلى موتهم في العلمين والبراري الغربية؟ هل كان يكتفي -فوق ذلك - بمجلات البورنو الإنجليزي اللامعة الصفحات - التي اسميتها ماجنة - والتي اشتراها سميرٌ أيضًا؟ وقرأتها منهما معًا، بافتتان ونفور مزدوج.
أما جورج فقد كنت عرفته - كما عرفت معظمهم قبل ذلك بأربع سنوات، ياه.. يعني في 1937 في سنة أولى أو ربما ثانية ثانوي حسب نظام التعليم حينئذ يعني ثلاث سنوات قبل التوجيهية التي لم يحصل عليها جورج قط.
كان جورج عندئذ فتى ضخم الجسم ولكنه رياضي، ممشوق الطول، قوي، على طريقة القبضايات، وجهه محمر مدور وكثيف على الطريقة الشامية، كان أبوه ناظر محطة ترام سيدي جابر (المحطة لا الحمامات).
عرفته عندما حاول اغتصاب رواية من درجي في الفصل. وإني لأذكر التفاصيل كما لو كانت بالأمس، فقد كنت حريصًا على روايتي، تلك الثمرة الشهية التي تتدلى من دوحة الفن والجمال، كنت غيورًا عليها، خائفًا من استلابها، لذلك خبأتها تحت الجاكت، وخرجت بها في الفسحة حذرًا مترقبًا.
وحدث ما توقعت، إذ فحص المغتصب درجي فلما لم يجدها استشاط غضبًا وانطلق يبحث عني مع أحد زملائه. وعثر بي عندما كان الجرس يدق، وقد ابتدأ الفناء يخلو من رواده بالتدريج، فلم يبق معي غير أحد أصدقائي واسمه إدوارد لست أذكر تمامًا كيف استطاع أن يجر شكلي، وإنما تتمثل لي صورة الموقف الذي تلا ذلك، في قوة وجلاء.
أمسك جورج بساعدي وحاول أن يثنيه (يعني أن يفرده عن صدري) لكي يخرج الرواية من مخبئها تحت الجاكت، وأخذ زميله يعاونه في تلك العملية، لكني كنت حريصًا عليها، فاستبسلت في الدفاع والمقاومة. وكنت خجولًا فلم أحاول الرد بسيل من الشتائم والسباب، كما يفعل المرء عادةً في مثل هذه المواقف.
أذكر أنه لم يفلح في الاستيلاء على بغيته، وذلك بمعونة صديقي إدوارد اللبق طلق اللسان. وارتد جورج على عقبيه محسورًا محبوطا ثم أذكر أخيرًا كيف أسرعت إلى الفصل وقد تدفقت الدماء فصبغت وجهي بحمرة الانتصار والنشوة والظفر.
من يوميات أخميمٌ، حوالي
الساعة الحادية عشرة مساء
19 أغسطس 1941
لماذا لم أكتب في تلك اليوميات التي اصفر ورقها (بعد أكثر من خمسين عامًا، إلا تريد أن يصفر ويصبح هشا مثل حياتك نفسها وتظل له مع ذلك سطوة؟) لماذا لم أحبك كيف إنني واجهته في البداية بلكمة على فكه، بالضبط كما كنت أقرأ في روايات أرسين لوبين (هل هذه حكاية داود وجوليات مثلًا؟) لكنني بالطبع لم أكن قد تلقيت أي نوع من التدريب على الملاكمة، فإذا بقبضتي، مهما بلغ من حماستها، واهنة، قاصرة لا تكاد تمس وجهه، وإذا هو يضربني بقبضة قوية -لم يضع فيها كل طاقته وإلا كانت قد أودت بي!- وإذا بالدنيا تدوربي، ولكني أحطت الجاكت -وتحتها الرواية- بذراعي كلتيهما، واستقتلت.
ترى ماذا كانت الرواية؟
في الفناء الرملي الذي أصبح الآن خاويًا تقريبًا وفي عز الشمس بين المبنى الذي أصبح كلية الحقوق فيما بعد والمبنى الذي أصبح كلية الآداب ولم يعرفهما جورج قط على هذا النحو، أذكر -حتى الآن- كيف كدت اختنق، وهو يجهد في أن ينتزع تلك الرواية العجيبة مني - وزميله الذي لم أعد أذكر لا اسمه ولا شيئًا عنه على الإطلاق، يجهد في أن يفرد ذراعي الأخرى التي ماتت على الجاكت، لا يهزها شيءٌ.
هذا الصبي -الطفل في الثانية عشرة من عمره هش الجسم، ضئيل الحجم، هل أذكر -مع هذا الصبي- حس الغرق وشهقة الغصص والاستماتة مع ذلك في الدفاع عن الذات؟
وهل انحسرت هذه الاستماتة أم هي -أو بقاياها- مازالت هناك؟
لست أدري كيف تصادقنا. وكيف وجدت فيه ميولًا نبيلة، وأفكارًا سامية وقابليةً للأدب، وميلًا لسماع آرائي المتطرفة والشعور بمثلها.
أذكر كيف كنا نسطو على حديقة المدرسة وحديقة الناظر لنسرق الزهور الجميلة الباسمة، وكيف كنا نبرز أعمالنا بآراء فلسفية رائعة، وندعمها بحيل شيطانية غريبة.
ثم ألفنا عصابةً تتكون منه ومني ومن صبي حرامي. تلميذ شقي في سنة أولى وكنا نسطو على أشجار النبق والعنب، ونملأ جيوبنا في فسحة الغداء نبقًا لذيذًا، وإن كان في الغالب فجا، ولكن تحليه لذة المغامرة وطرافة الأمر. وكنا نعقد في أثناء تلك الأعمال مؤتمرات عجيبة يتخللها الجد مع الهزل والدعابة مع الخطورة وتمتزج فيها الفلسفة بالسخرية وتشوقنا إليها رغبتنا في الخروج على التقاليد المتبعة والسخرية بكل ما هو مألوف وعادي.
اذكر كيف كنا قبل الامتحان بدقائق نسطو على كرمة العنب فنجني منها كمية كبيرة من ورق المحشي والحصرم، وطائفةً لا بأس بها من الأشواك والغبار والمتاعب المحبوبة التي تنتهي بابتسامة الخ الخ الخ... وكما كان يحدث لي في الطرانة، ها هو ذا التشبث في آخر حدود الاندفاع الصبياني بالخشب الهش الرقيق هيكل العنباية التي تقع في داخل حدود المحظور بين فناء المدرسة، وهو مباحٌ، وحديقة الناظر وهي ممنوعةٌ.
أهجوم باكر على الطابور، او مناوشة له واقتحام مرةً بعد مرة على طول السنين؟
الخدوش في الوجه والذراعين والساقين من غير ترف ومن غير جرح للروح.
كأنما الاشواك عقد خفي مضفور حول كل الجسم.
إدوار الخراط
فبراير 1996