محمد السلاموني - مقاربة أوَّلية.. "الله" من الطبيعة إلى المعاصرة :

يميل القائلون بوجود "الله- بالمفهوم الدينى" إلى جعله محايثا أو مباطنا للوجود الإنسانى الطبيعى، أعنى أنهم يجعلون من الله الإسم المجرد للطبيعة، وبذا يذهبون إلى انغراسه فى الإنسان نفسه؛ بحكم كون الإنسان كائنا طبيعيا.
من هنا يتأتى الحديث عن "الفطرة- أى الحدس أو رد الفعل الإنسانى التلقائى"...
فكما يرتأون، "الفطرة" هى " لسان حال الظهور المحض للوجود فى الوعى؛ الوجود متخلِّصا من كل ما يمكن أن يحف به من تجربة أو خبرة سابقة".
الأمر هنا يتعلق بالبرمجة الطبيعية للإنسان، كما أمكن للمؤمنين أن ينتهوا.
// ملحوظة: الميتافيزيقا والتيولوجيا "اللاهوت" يؤسسان عالمهما كله على تلك البرمجة الطبيعية للإنسان...
لذا، فى المقال السابق، عندما كتبت:
[مفهوم "الله" فى الأيديولوجيا الإسلامية ، لا يزيد عن الإمساك بالجوهر الرمزى للصحراء الفارغة، الممتدة بلا نهاية، تلك التى كانت ولاتزال- على الأقل فى حدود ما- تحيط بهم من كل جانب، وتوفر لهم الحماية وتصيغ تجربة وجودهم على نحو خاص (فما يضمن وحدة وقوة وإستمرارية القبيلة هو الفراغ الصحراوى المحيط بها، هو نفسه، ذلك الفراغ المتحول إلى "إله" يبتهلون إليه؛ "بحكم كونه هو الذى منح كل قبيلة وجودها المنفرد - كقبيلة"؛ فهم أشبه بالجزر المتناثرة فى محيط صحراوى ممتد بلا نهاية؛ تلك اللانهائية هى التى تحولت لديهم إلى "إله" راعى التَّفَرُّد القَبَلى، وضامن لوجوده وإستمراريته) .].
حين كتبت هذا، كنت أحاول تجذير الإنسان العربى فى الطبيعة الصحراوية الخاصة به...
"الصحراء- الدَّهر- الله" :
الظهور المحض للصحراء فى وعى الشاعر العربى القديم، عادة ما كان مقترنا بـ "الأطلال"- الدالة على قسوة الزمن حين يمر... فـ "الطَّلَلُ : ما بقي شَاخصًا من آثار الدِّيار ونحوها"، وهو ما يضعنا قبالة "الدَّهر" مباشرة.
الدّهْرُ : مُدَّةُ الحَياةِ الدُّنْيا كُلُّها وَتُطْلَقُ على أَلْفِ سَنَةٍ الجاثية آية 24 "وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ "(قرآن)، وهو الزمان الطويل، والنازلة والهِمَّة والإرادة والغاية/ "أتَى عليه الدَّهْر: أفناه وأهلكه"/ بناتُ الدَّهر، صروف الدَّهر: شدائده/ تصاريف الدَّهْر: تقلُّباته، نوائبه ومصائبه/حِدْثان الدَّهْر/ أحداث الدَّهْر/ حوادث الدَّهْر/ أحوال الدَّهْر: نوائبُه ومصائبُه ودواهيه/ عصَف به الدَّهرُ: أهلكه ودَمَّره، أباده/ عضَّه الدَّهْرُ بنابه: أصابه بشرّه/ قرَعتهم قوارعُ الدَّهْر: أصابتهم نوازلُه الشَّديدة. / أكل عليه الدَّهر وشرِب: طال عمرُه وتأثّر بمرور الزَّمن عليه، "بلي من القدم...
حين نقارن الدلالات المتعلقة بالدهر بالأخرى المتعلقة بالصحراء، سنجد الآتى: الصَّحْرَاءُ : أرض فضاء واسعة فقيرة الماء والجمع/ ومن صفاتها أنها "جرداء، عوراء- ومصدرها "أعور" أى ذهب بصر إحدى عينيه/ صَحْرَاءُ قَذَفٌ: تَتَقَاذَفُ بِمَنْ يَسْلُكُهَا...
فى المعاجم اللغوية العربية لا نجد الكثير عن كلمة "الصحراء"، كأنما القحط الصحراوى امتد إلى المعاجم أيضا.
لكننا نعرف أنها فضاء متسع، فراغ مترامى، خراب ممتد، متاهة، تهديد- وعند المصريين القدماء هى موطن الإله ست، إله الشر...
أريد أن أنتهى هنا إلى أن مقاربة "الصحراء" بـ "الدَّهر"- من حيث "الشَّر"- توحى للوهلة الأولى، بأنهما يمثلان وجهين لشئ واحد، وجه مادى وآخر معنوى، كما أن الدهر يبدو كأنما هو "روح الشر القاطنة فى الصحراء"، أو عدمها الملتهِم للوجود...
و بعد ظهور الإسلام- جاء الحديث : [لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ.]...
[قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : " يا خيبة الدهر " فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله تعالى هو الدهر الذي يصونه ويسندون إليه تلك الأفعال.].
يذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام»، أن مرحلة الجاهلية الأخيرة شهدت اتجاهًا فكريًا متميزًا سُمِّي «الدهرية»، وأشير إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
[اعتقد الدهريون بإسناد الحوادث إلى الدهر، فنسبوا كل شيء إلى فِعل القوانين الطبيعية، أي الأبدية، مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم، ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير إلى وجود هذا التأثير، مثل «يد الدهر»، و«ريب الدهر»، و«عُدواء الدهر»، و«أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه»، و«أبادهم الدهر».
والدهر بمفهومهم غير مخلوق ولا نهائي، أي أنهم يعتقدون بقدمه وعدم فناء المادة، والدهر أيضًا هو حركات الفلك، وذهبوا إلى أن العالم يُدار بمقتضى تأثير هذه الحركات، كما نسبوا الإماتة إلى الدهر، فقالوا «وما يهلكنا إلا الدهر»، أي ما يميتنا إلا الأيام والليالي، أو مرور الزمان وطول العمر، ورأوا في الزمان السبب الأول للوجود، والزمان هذا غير مخلوق ولا نهائي أيضًا.]، ويضيف: بأن الدهرية تعد تطورا عن العقائد الوثنية الأقدم [وتجلّت صور هذا التطور في عدة ملامح، منها تطور القوى المنتجة، وقيام صلات حضارية بين العرب والعالم الخارجي، إلى تطور في مستوى الوعي الديني تمثل في تراجع الظواهر الدينية البدائية (عبادة الأسلاف والأحجار والنباتات) دون زوالها نهائياً.].
[في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، يقول الدكتور جواد علي، إن لقب الزنادقة أُلصق أيضًا بالدهريين القائلين بدوام الدهر، ولا يؤمنون بالآخرة، ولا وحدانية الخالق.].
[وكان من المنطقي أن يختفي الدهرية بعد ظهور الإسلام وامتداد التوسعات في فترة الخلفاء الراشدين، لكنهم عادوا للظهور مرة أخرى خلال الفترة الممتدة من أواخر عصر الدولة الأموية إلى أوائل عصر الدولة العباسية (724 – 775)، وبالتحديد من فترة حكم الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك (724 – 743) حتى حكم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (754 – 775).]
الحديث عن الدهريين يطول، وما يعنينى من أمر "الدهر" هنا- أنه كان هو الإله الضمنى الذى يجمع فى طياته جميع الآلهة الأخرى- التى كان العرب فى جاهليتهم يقدمون لها الأضاحى مبغاة مرضاتهم.
وحين نعود إلى "الحديث": [لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ.]... سنجد أن الله صار هو "المجاز اللغوى الكبير، الجامع لقوى الهلاك التى عانى منها الإنسان العربى القديم".
// ربما أمكن بتلك المقاربة العابرة، بين "الصحراء والدهر والله" إضاءة بعض جوانب ظاهرة "العنف" فى المجتمع الإسلامى، تجاه بعضه البعض وتجاه المجتمعات الحضارية الأخرى. فالأمر هنا يعود إلى "محاكاة الطبيعة"، بخلع سماتها القاسية على "الله" بجبروته اللامتناهى، ومن ثم تقمص المسلم لذلك الجبروت.
ــــ خاتمة:
ليس بإمكان الإنسان تقديم تصور ما عن الله بعيدا عن تصوُّره عن نفسه.
من هنا، فما يتحدث عنه هذا المقال، ليس إنعدام وجود الله- كما يمكن للمتعجِّل أن يظن- لا، إطلاقا، بل ولم يخطر لى هذا على بال. كل ما فى الأمر هو أننى أتحدث عن أن المفهوم العربى "الصحراوى- الدَّهرى" القديم عن [الله] فقد مبررات وجوده، نظرا لأن العالم تغير، كما أننا "نحن" لسنا العرب القدماء... وهو ما يعنى ضرورة إعادة بناء تصوراتنا عن الله وعن الإسلام كدين، على نحو أكثر معاصرة؛ ليتلاءم مع تصوراتنا عن أنفسنا وتطلعاتنا المستقبلية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى