آية الأتاسي - الطريق إلى قرطبة

كيف أعبر قرطبة؟
هل أبدأ بالجامع الكبير، حيث ارتفع صوت الأذان أول مرة في أوروبا وأقرأ الفاتحة على روح عبد الرحمن الداخل؟ أم أقف على الجسر الروماني أتأمل الناعورة وأترك نهر الوادي الكبير يأخذني إلى العاصي وناعورته الحموية؟ وهل أفتح جناحي الحلم فوق الجسر، كما فعل عباس بن فرناس يوماً وجعل الإنسان طائراً حراً.
أين أبدأ في مدينة أزورها لأول مرة ولكنني أحفظ خرائطها، بأي أسمائها أناديها هل أصرخ «القدس الصغيرة» أم «دمشق الأندلس» أم أكتفي «بقرطبة» مع التشديد على حرف الطاء الذي لا يتقنه غيرنا نحن أبناء سلالتها البعيدة، المولودين في أرض بعيدة والمصابين بلعنة الحنين إليها…
للأقدام ذاكرة وأقدامي تقودني إلى متاهة الطرقات الضيقة، البيوت تصطف بتواضع ولا شيء يشي بأسرار الساكنين، كل البيوت الأندلسية تتشابه، كل البيوت لها روائح شجر البرتقال والنارنج، وكلها تحفظ نوتات الماء والحجارة… وكلها تلعب مع الشمس لعبة البوح والإخفاء… ولها جميعها نافذة علوية واسعة بلون السماء، وأبواب تتلون أحياناً وتضيق وتتسع، كما أذواق أصحابها، ولكنها لا تستطيل إلا نادراً، هي محاولتها الذكية لدفع زوارها إلى الانحناء قليلاً، احتراماً لحرمة البيوت وخصوصيتها…
أحتاج لأن أقرص نفسي لأتذكر أنني في قرطبة لا في دمشق كما قال درويش:
أمر باسمك كي أخلو إلى نفسي
كما يمر دمشقي بأندلسي

للمدن شقيقات روح أيضاً، والروح هي السر في اختيار عبد الرحمن الداخل لقرطبة بعيداً عن البحر وقريباً من النهر… تماماً كما تحتفظ الذاكرة الأموية بمكان المدينة الأولى «دمشق». وها هي قرطبة اليوم لا تتوقف عن محادثتي بالعربية: الزيتون والنارنج والأرز والبركة والغزل… تبتسم وهي ترميني بهذه الكلمات العربية مدعية أنها إسبانية… وتخدعني بأزقة لا تفضي إلا إلى قلوب أموية… لا بأس إن أضعت طريق الرجوع… حسبي أنني في قرطبة وعلى ضفة نهر «الوادي الكبير» في سباحة عكس الزمن… الخرائط تقودني إلى نصب تذكاري ليدين متشابكتين، هو هدية المدينة إلى شاعرها ابن زيدون وأميرتها ولادة، بمناسبة انقضاء المئة التاسعة على وفاة ابن زيدون… أتذكر نزار قباني يرثي ولادة:
لم يبق من ولادة ومن مكان حبها
قافية ولا بقايا قافية

ولكنني أعثر أسفل النصب على قافية الحب مكتوبة بلغة الشعر التي لا تحلو إلا بالعربية:
ولادة تقول:
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني

ويجيب ابن زيدون:
يا من غدوت به في الناس مشتهراً
قلبي يقاسي عليك الهم والفكر
إن غبت لم ألق إنساناً يؤنسني
وإن حضرت فكل الناس قد حضر
هل أصدق «دمشق الأندلس» التي تخلد ذكرى الحب والشعر أم أصدق شاعر «دمشق» نزار قباني؟
من بعيد أرى مئذنة الجامع الأموي الأندلسي، مئذنة بمقطع مستطيل، هرّبتها ذاكرة عبد الرحمن الأول من دمشق إلى قرطبة، ولتنتقل بعدها إلى المغرب العربي وتستقر فيه. هي تلك المئذنة التي كتب عنها نزار يوماً:
أنا مئذنة حزينة من مآذن قرطبة
تريد أن تعود إلى دمشق

المئذنة الحزينة صارت بوصلة للمدينة، ترتفع فوق كل شيء ولا تصل إلى دمشق… دمشق التي كانت تتراءى لعبد الرحمن الداخل في كل مكان، ولم يتوقف عن الحنين لها ولبيوتها ومآذنها، وقد كتب يوماً مناجياً نخلة أندلسية:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التفرد والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

أتساءل هل هو الوقوف على الأطلال الغابرة ما يأخذني إلى الشعر في هذه المدينة، أم أن سحر المدينة يستحضر الشعر والشعراء فيّ؟ ويعود إليّ درويش ثانية، ولكن في نثره هذه المرة وهو يبحث عن شاعره الأندلسي لوركا: الذي علمه السير في غابات الزيتون ودلّه إلى طريق الخيل والمطر فوق منحدرات الجيتار وعلمه الرحيل إلى قرطبة. ولكن لوركا الغرناطي، رغم معرفته بالطرق فلن يصل أبداً إلى قرطبة، التي كتب عنها:قرطبة
نائية ووحيدة
مهرة سوداء
وقمر كبير
وحبات زيتون في جرابي
ورغم معرفتي بالطرق
فلن أصل أبداً إلى قرطبة

مدينة تستعصي على شاعر الأندلس العظيم، هل سأستطيع حقاً اكتشافها، هل أنا حقاً من يعبرها أم هي تعبرني كالحلم؟ لا أجوبة واضحة… ولكن محال ألا يأخذني الحلم إلى غرناطة لوركا.

جني غرناطة

كان لوركا في زيارة لكوبا عندما ألقى محاضرة عن روح المبدع الأندلسية، محاولاً شرح الاختلاف بينها وبين ربة الشعر أو ملاك الوحي في الثقافة الغربية. لا نحتاج كعرب إلى قاموس يترجم لنا ما قاله لوركا، فكل ما كتبه يختصره جن عبقر، جن الإبداع الشرقي الذي تقول الأسطورة أنه كان يسكن وادي عبقر وأنه كان قرين الشعراء ومصدر عبقريتهم. جني شرس لا يظهر إلا إذا كان على موعد مع الموت في بلاد مسحورة بالموت، ولا يكتفي بملامسة الروح بل يجرحها جرحاً غائراً، وفي اندمال هذا الجرح يتجلى الإبداع، وتتلاشى الحدود بين الجسد والروح وبين الغناء والرقص ومصارعة الثيران… ظهور الجني يفضحه إحساس المطرب الذي يقترب من الموت في صرخة عميقة وكأن الصوت نافورة دم، ويكشفه سقوط راقصة الفلامنكو الغجرية مضرجة بضوء القمر متمردة على الأرض وخارج مدار جاذبيتها، وتدل عليه أيضاً اللحظة التي يغرس فيها مصارع الثيران سهمه مقامراً بآخر نبضة في شرايينه… أما مغادرة الجني فتعلنها اللحظة التي يصيح فيها الجمهور «أوليه» الإسبانية، فيما مسام الروح تنطق «الله».
دارت الكلمة وتحورت، ولكن إحساساً كالطرب يوحد أندلسيي الماضي والحاضر ويجعلهم يصرخون بمتعة حادة كالألم «الله» أو «أوليه»، مغتسلين بدمع العين والجسد والروح. لا حضور لغرناطة بلا لوركا، ولا حضور لوركا بلا موسيقى ووردة راقصة غجرية سمراء، هو الموسيقى في الشعر والشعر في الموسيقى.
صوت شعري عذب… يغني شعراً ويشعر غناءً كما كتب عنه درويش يوماً
موسيقية شعر لوركا تتجاوز لغته وتجعل شعره عندما يلقى بأي لغة، أغنية أندلسية:
يبدأ بكاء القيثارة
من المستحيل إسكاتها
إنها تبكي برتابة
كما يبكي الماء
كما تبكي الريح
فوق الجليد…

سحر لوركا الشعراء العرب المعاصرين من السياب إلى نزار فدرويش، سحر يتجاوز غنائيته وأندلسيته، إلى تماهيه مع مهمشي الأرض وموته المبكر ضحية للفاشية…
كان لوركا قد تنبأ بموته بحدس نبي:
حين أموت
دعوا شرفتي مفتوحة
فالطفل يأكل البرتقال
أراه من شرفتي

ومات لوركا في النهاية قرب شجرة الزيتون رمز شعره وأندلسه، مات ولم يعثر على جثمانه، وكأن موت شاعر لا يمكن أن يكون حقيقة.
في غرناطة لم أتوقف عن تعقب أثر لوركا…بحثت عن قيثارته وراقصته الغجرية ودمه العربي. ورائي كان قصر الحمراء يعج بالسياح يقفون أمام عبارة «لا غالب إلا الله»، تتكرر أحرفها في كل مرة ولا يتكرر أثرها. لم ألتفت خلفي كما التفت يوماً أبا عبد الله وتنهد على ملك لم يحفظه كالرجال، فبقيت تنهيدته عنواناً للمكان الذي ودع فيه غرناطة. لسبب خفي أحسست أنني لست سائحة في غرناطة ولسبب خفي كنت أبتسم للوجوه التي كانت تحييني بإسبانية وتسألني عن طريق ضائع، كنت أبتسم لأنني كنت أشعر بأنني لم أغادر هذا المكان يوماً.ربما هو جني الأندلس الذي يسكننا منذ ولدنا ويهدينا إلى طريق قرطبة… مهما تهنا.

كاتبة سورية

أية الأتاسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى