أبووردة السعدني - القاضي محمود كعت مؤرخ سنغي الإسلامية (2)

دولة سنغي في تاريخ الفتاش

حين نقلب صفحات كتاب " تاريخ الفتاش " نجد أن قبيلة سنغي كانت إحدى القبائل التي دانت بالطاعة لسلاطين دولة " مالي " أو " مل " ، التي حكمت في "بلاد التكرور " أو " بلاد السودان الغربي " من سنة 637/1240 ، والتي اشتهر سلاطينها بأنهم " ملوك الذهب " - لوفرته في بلادهم - ، وحين دب الوهن في أوصال تلك الدولة في النصف الأول من القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي ، سادت حالة من الفوضى استمرت أربعين سنة تقريبا ، حتى تمكنت قبيلة سنغي من حكم تلك المناطق الشاسعة عام 873/1468....
... وبسيطرة قبيلة سنغي - التي كانت قد اعتنقت الإسلام دينا أثناء حكم سلاطين دولة مالي - على بلاد
السودان الغربي ، قامت دولة سنغي التي شهدت هذه المنطقة - في عصرها - نهضة إسلامية زاهرة ، خاصة حين جلس على عرشها الحاج محمد بن أبي بكر في الرابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام 898/1493 ، فتلقب بلقب " أسكيا " ، واتخذ من مدينة " كاغ " - ذات الموقع الإستراتيجي على الضفة اليسرى لنهر النيجر - عاصمة له ، واتبع سياسة إسلامية يمكن إيجاز أهم ملامحها الرئيسة في الآتي :
... أولا : سار على السياسة الإسلامية التي انتهجها سلاطين دولة " مالي " إبان قوتهم ومجدهم ، بل فاقهم في هذا المضمار ، فكان حماسه للإسلام منقطع النظير ، ويرى " محمود كعت " أن تلك الحماسة ليست غريبة على أهل سنغي ، لأن أصلهم عربي من الجزيرة العربية ، من أسباط " جابر بن عبدالله الأنصاري " المتوفى سنة 78/697 ، أى يعود أصلهم إلى المدينة المنورة ، وإلى هذا الصحابي الجليل الذي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الثانية ، وشهد المشاهد كلها ، وكان مشهودا له بالعلم والفضل ....
... لذا نجد القاضي محمود كعت يقول عن أسكيا محمد : " ... فلما ثبتت له السلطنة ، واستقامت له المملكة ... جعل يسأل العلماء عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويمشي على أقوالهم " ، فأحاط نفسه بالعلماء والصالحين ، واتخذهم مستشارين وأعوانا ، فلا " يجلس معه على سريره إلا الشرفاء ... ولا يقوم لأحد إلا للعلماء والحجاج إذا قدموا من مكة ... ولا يأكل معه إلا العلماء والشرفاء وأولادهم ..."....
وكان أمرا طبعيا أن يعمل أسكيا محمد - وخلفاؤه من بعده - على إحياء الشعائر الاسلامية ، فكانوا يحافظون على الصلاة في أوقاتها في المساجد الجامعة ، ويحرصون على أن تعم صدقاتهم سكان سنغي من أقصاها الى أقصاها طوال شهر رمضان المعظم ....
... وأولى هؤلاء السلاطين الحج اهتماما كبيرا ، فدعموا قافلة الحج - التي كانت تخرج في شهر صفر من كل عام - بالأموال الطائلة والخدمات الطبية وغيرها ، وكانت أغلى أمنية لدى مسلمي سنغي أن ينتظم الواحد منهم في قافلة الحج لأداء الركن الخامس من أركان الاسلام ، ليحظى بشرف الطواف حول الكعبة المشرفة ، وبزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وكان السلطان يخرج بنفسه - يرافقه كبار رجال دولته من علماء وأمراء - لاستقبال الحجاج عند عودتهم من رحلة الحج تكريما لهم ، يقول المؤرخ محمود كعت : " ... ويخرج أسكيا لملاقاتهم ، ويأتيهم بالكسوات واللباس ، ويسألهم الدعاء ، ويتبرك بهم ... ويقبل .. أيديهم جميعا تعظيما وإجلالا لهم " ، حتى وإن كان أحد هؤلاء الحجاج من عبيد السلطان - وسوف نتناول حج أسكيا محمد في مقال قادم - ...
ثانيا : تبنى أسكيا محمد سياسية الجهاد في سبيل الله تأكيدا للروح الإسلامية التي غلبت عليه ، فبعد أن استكملت الدولة - في عهده - استعدادها العسكري ، استشار أهل العلم والورع ، فلما أفتوه بمشروعية الجهاد في سبيل الله ، انساح بجيوشه فوق السهول لا يعوقه عائق ، محرزا الانتصارات المظفرة ، فخضعت له قبائل كثيرة ، اعتنقت الاسلام - طوعا - إعجابا بسياسته التي تحلت بالسماحة والرحمة والعدل والإنصاف ....
ثالثا : نعمت دولة سنغي في عهد أسكيا محمد - وعهود خلفائه من بعده - بالرواج الاقتصادي ، فكانت من أغنى الدول الإسلامية في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي ، إن لم تكن أغناها على الإطلاق ، نظرا لسيطرتها على مساحة شاسعة تفوق مساحة دول غربي أوربا مجتمعة ، واحتواء أرضها على ثروات معدنية هائلة ، فقد كانت المصدر الوحيد للذهب ، فضلا عن وجود " الملح "بوفرة في منطقة " تغازى " في الشمال ، والذي كان السودانيون يتصارفون به كما يتصارفون بالذهب والفضة ، وكانت أراضيها خصبة ، يجري فيها نهرا " السنغال " و " النيجر " وروافدهما الكثيرة ، وتهطل عليها الأمطار الموسمية الغزيرة ، فيزرع أهلوها القطن والشعير و الأرز والأذرة وغيرها من المحاصيل ، كما كانوا يربون قطعان الماشية التي وفرت اللحوم والألبان للرعايا جميعهم ....
... قامت في سنغي - أيضا -صناعات محلية لصناعة الأقمشة القطنية ، والرماح والحرشان ( السهام ) ، وكانت أساطيل التجار وقوافلهم - من مصر وشمال إفريقيا وجنوبها - تقصد أسواق سنغي ومراكز التجارة فيها ، تحمل منتجات تلك البلاد إلى بلاد السودان الغربي ، لتعود محملة بما في أسواق سنغي من أصناف السلع التجارية ، وكان أسكيا سنغي على قدر كبير من العلم بشئون المال والاقتصاد ، فنظم الأسواق ، وعين المشرفين والأدلاء ، وأمن الطرق التجارية ، وفرض المكوس ( الجمارك ) على اليضائع ، وحافظ على الأسعار بحكمة تفوق الوصف ، ، وضارعت " كاغ " - عاصمة سنغي - كبرىات العواصم - حينذاك - في كثرة السكان وروعة البنيان ، ووصلت مدينتا " تنبكت " و "جني " قمة الاتساع والازدهار ، وتمتع سكانهما بالأمن والثراء ، ويمكن القول : إن أرض بلاد السودان الغربي - عموما - كانت من أعظم أرض الله : نعمة ، ورفاهية ، وأمنا ، وعافية ، في كل جهة ، وكل مكان ....

" يتبع "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى