أبووردة السعدني - القاضي محمود كعت مؤرخ سنغي الإسلامية ( 3 )

حج أسكيا محمد :


... بعد أن أمضى " أسكيا محمد " أربع سنوات في توطيد أركان دولته وإرساء دعائم الأمن والسلام فيها ، تجهز للسفر الطويل الذي تهفو إليه قلوب أهل بلاد السودان الغربي ، وذلك لأداء فريضة الحج سنة 902 /1496 ...
... وقد كان الحج من الأركان التي حرص سكان تلك المناطق - طوال تاريخهم - على أدائه ، على الرغم من بعد الشقة بين بلادهم وبلاد الحجاز ، إذ كانت رحلة الحج تستغرق أكثر من ثلاثة وعشرين شهرا ذهابا وإيابا ، إلا أنهم كانوا يستعذبون العناء في سبيل أداء الركن الخامس من أركان الإسلام ، وزيارة الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ...
... كانوا يسلكون - في طريقهم إلى بلاد الحجاز - الدرب الصحراوي المعروف بطريق " غات " ، الذي يبدأ من مدينة غات - جنوب غرب ليبيا على مشارف الحدود الجزائرية - ، وينتهي عند الأهرام بالجيزة ، فإذا وصلوا مصر فانهم اعتادوا أن يقضوا وقتا حتى تتهيأ قافلة الحج المصري في الذهاب إلى مكة ، ولاريب في أن تلك المدة -التي كانوا يقضونها في مصر - كانت فرصة طيبة يتواصلون فيها مع المصريين ، ويتعرف كل طرف منهم على الآخر ....
... وقد حدثتنا أسفار التاريخ أن أول من مر بمصر - في طريقه إلى بلاد الحجاز " منسى ولي " - منسى : أي سلطان " ، سلطان مالي - 619/1255- 653/1270 - الذي حج أيام السلطان الظاهر بيبرس البندقداري ، كما تخبرنا الأسفار التاريخية - أيضا - أن قافلة أخرى من حجاج بلاد التكرور قدمت - بعد ذلك - إلى مصر سنة 725/1325 ، وكانت تضم عشرة آلاف تكروري على رأسهم " منسى موسى " - أي : السلطان موسى - ، الذي أحاط نفسه بمظاهر الترف ، وأخذ ينفق في مصر عن سعة استرعت أنظار المصريين ، وقدم هدايا جليلة للسلطان الناصر محمد بن قلاون - في سلطنته الثالثة - 709/1310-741/1341 - ، من بينها : حمل بعير من الذهب الخام ، وقد أكرم السلطان الناصر وفادته ، وبعث إليه - وإلى أفراد حاشيته - الخلع والسيوف ، كما أمده بالخيول والجمال والمؤونة ، ليتمكن من مواصلة رحلته إلى بلاد الحجاز رفقة قافلة الحج المصري ...
... ويبدو أن الحج كان من فوائده - بالإضافة إلى أداء الركن الخامس من أركان الاسلام - إكساب شخصية السلطان الهيبة والاحترام ، الأمر الذي يمكن له في بلاده ويدفع رعيته إلى طاعته ، هذا إلى جانب الفوائد الثقافية والحضارية التي تعود على سكان بلاد السودان الغربي ، جراء الاحتكاك الثقافي والاتصال بمشاهير العلماء في مصر وفي بلاد الحجاز ، وأيضا الفوائد الاقتصادية التي تعود عليهم نتيجة التبادل التجاري والمعاهدات التجارية التي كانوا يعقدونها مع سكان البلاد التي يمرون بها ....
... وسيرا على تلك السنة الطيبة ، تجهز أسكيا محمد بن أبي بكر في السنة الرابعة من حكمه إلى السفر الطويل الذي تتشوق إليه قلوب المسلمين في بلاده ، وأذن في الناس بالحج ، فتقاطرت إليه جموع غفيرة من رعاياه ، وأعد قافلة كبيرة خرج على رأسها ، ومعه أمراء الأقاليم في دولته ، وسبعة من كبار فقهاء سنغي ، هم : ألفا صالح جور ، ومور محمد هوكار ، وألفا محمد تل ، وكاغ زكريا ، ومور محمد تتك ، والقاضي محمود يندبغ ، والقاضي محمود كعت - مؤلف تاريخ الفتاش - ، كما كان معه ثمانمائة من العبيد ، هذا إلى جانب ما تحتاجه القافلة من مؤن ، وزاد ، وذهب ، وغير ذلك ...
... ويحدثنا القاضي محمود كعت عن كرامات علماء سنغي - أثناء رحلة الحج - ، فيذكر أنهم بعد مغادرتهم مدينة الإسكندرية بثلاثة أيام ، هبت على القافلة عاصفة شديدة الحرارة ، وكان ماء " قربهم " قد نفد ، وأشرفت القافلة ودوابها على الهلاك : " فأمر أمير المؤمنين أسكيا محمد غلاما ، بأن يذهب إلى الفقيه ألفا صالح جور ، يطلب منه أن يدعو الله بحرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقينا ... فقام ساعتئذ وتوجه إلى القبلة ، وقال : اللهم إنا عطشنا ، وأنت أعلم بحالنا منا ، وأنت عالم الظاهر والباطن ، فما تم كلامه ، حتى سمعنا رعدا ، فمطرنا مطرا ساعتئذ ، فشربنا ، وسقينا دوابنا ، واغتسلنا ، وغسلنا ثيابنا ، وأقمنا هنا يومين "...
... وأظهر أسكيا محمد تواضعا زائدا ، إذ أحاط أفراد القافلة جميعهم بعطفه ورعايته ، فلم يدع محتاجا إلا أعانه ، ولا مريضا إلا أمر الأطباء بمداواته ، وحرص على توزيع الطعام بنفسه على الركب ، فيذكر القاضي محمود كعت : أن السلطان وزع تمرا على مرافقيه كعادته - ، ونسي إعطاء الفقيه " ألفا محمد تل " ، فلما تذكر السلطان أسرع إليه ، و " أكب يقبل يديه ورجليه ، ويعتذر إليه بالنسيان "...
... أما في بلاد الحجاز ، فلقد فاق جود أسكيا محمد كل وصف ، إذ عمت صدقاته فقراء الحرمين الشريفين ، فأنفق عليهم مائة ألف دينار ذهبا ، واشترى منازل وحدائق وأوقفها على العلماء والفقراء والمساكين ، وجلس كثيرا مع شريف مكة المكرمة - في رحاب الكعبة المشرفة ، وقلده شريف مكة الخلافة ، ولقبه بلقب إمام " وجعل على رأسه قلنسوة خضراء ، وعمامة بيضاء ، وأعطاه سيفا ، وأشهد الحاضرين : أنه خليفة بأرض التكرور ، وأن كل من خالفه - في تلك الأرض - فقد خالف الله تعالى ورسوله " ، وبناء على هذا " التقليد " يرى القاضي محمود كعت - بعد دخول الحجاز تحت الحكم العثماني في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي - : أن خليفة المسلمين الأعظم سلطان الدولة العثماتية ، وخليفته في أرض الحجاز شريف مكة ، وخليفة شريف مكة - في بلاد التكرور - أسكيا محمد وخلفاؤه من بعده ....
...ودأب سلاطين بلاد السودان الغربي على أن يصطحبوا معهم - عند عودتهم إلى بلادهم بعد أداء مناسك الحج - عددا من الأشراف للإقامة في بلادهم ، توطيدا للروابط الدينية التي تربطهم ببلاد الحجاز ، وليضفوا على أنظمتهم المظهر الديني ، فيزدادوا - في نظر رعاياهم - إجلالا وإكبارا ، فطلب أسكيا محمد من شريف مكة أن يأذن لواحد من الأشراف بالتوجه إلى دولة سنغي " ليتبركوا به " ، فأرسل إليه سنة 925 /1519 شريفا يصل نسبه إلى الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ، يدعى : أحمد بن عبدالرحمن بن إدريس ، الذي وصل إلى سنغي صبيحة عيد الأضحى المبارك ، فكان وصوله حدثا رائعا ، حيث استقبله السلطان وكبار رجال دولته من العلماء والأمراء والأعيان ، وجماهير المسلمين استقبالا حافلا ، وأعطاه السلطان مائة ألف دينار من الذهب ، وعددا كبيرا من العبيد ، ومائة من الإبل ضيافة له ولمرافقيه ، وأقام الشريف الحسني في مدينة " تنبكت " ، وتزوج فيها بامرأة تدعى " زينب " ، ولما لم يطق السلطان صبرا على فراقه ، قدم إليه بنفسه ، ورجاه أن يقيم معه في العاصمة " كاغ " ، وأوقف عليه قرى كثيرة ، وكان دائم الجلوس معه ، للمؤانسة ، والمفاكهة ، وليزداد بركة ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى