دكتور السيد إبراهيم أحمد - الأخلاق في المنظور الفلسفي السقراطي: الموقع والمفهوم


كان للفكر اليوناني قبل أرسطو اهتماما بالأخلاق على الرغم من قلته إلا أنه كانت تَرِد عددًا من العبارات التي تتردد في شعر الحكمة بعد القرنين السادس والسابع قبل الميلاد غير أنه يحسب للفيلسوف سقراط أنه كان الأسبق في من اهتم من اليونانيين بدراسة سلوك الإنسان وكان له فكره الأخلاقي ومفهومه الخاص به، وهو ما يضفي أهمية كبيرة عند دراسة الفلسفة وتعلقها بالجانب الأخلاقي في فلسفة سقراط ومكانته في الفكر اليوناني وعصره، وهو ما يكمن في نظريته الأخلاقية التي أسسها على ركائز مرتبطة بالسلوك الإنساني المحب للخير، وكيف جعل منها وسيلة لمجابهة الأخلاق المغلوطة عن طريق الفهم والتأمل، وربط المعرفة بالخير والجهل بالشر مختلفا عن غيره.

نظرية سقراط الأخلاقية:

عاش سقراط في أثينا لأب نحات وأم قابلة وهو ما ينفي انتمائه لإحدى العائلات اليونانية النبيلة في زمنه، غير أنه تلقى التعليم الأساسي الشائع بين اليونانيين آنذاك، ولذا فقد كرس حياته للفلسفة.

لقد كان السوفسطائيون يسبقونه في الوجود ويفسرون الأخلاق وقوانينها بأنها ضد طبائع البشر؛ لإن اللذة هي الغاية القصوى للإنسان وتساير طبيعته البشرية وأركانها الشهوة والهوى ومكمن سعادته في خرق القانون وعصيانه وعدم الخضوع له، كما رأى السوفسطائيون أن الفضائل السارية في المجتمعات البشرية هي في النهاية رذائل مقنعة، ولم يجد الفيلسوف سقراط بُدًا من أن يقف خصمًا عنيدًا أمام هذه الأفكار المغلوطة عن الأخلاق التي يتزعمها وينشرها السوفسطائيين، وهو لم ينكرها فقط بل تكفل بالرد على ترهاتهم وأباطيلهم بكل ما أوتي من علم وحجة ووسيلة من خلال هدم نظريتهم في المعرفة، ومنها نجاحه في تحليل الألفاظ لتحديد معانيها بدقة وتوضيح دلالاتها، عن طريق محاورة ومجادلة اليونانيين في تجمعاتهم ومنها الأسواق وعلى قارعات الطرق، الأمر الذي عرضه للمحاكمة بعد أن صدر الحكم بإعدامه، ولم يَخَف أو يتراجع بل تقبله دون أن يبرئ نفسه.

لقد كان سقراط يؤمن بخلود الروح، التي تدفع ثمنا مقابل أن تحيا النفس حياة فاضلة في دنيا غير فاضلة؛ فالحياة الدنيا عند سقراط غير عادلة، وأن الجزاء الذي سيلقاه نتيجة حياته تلك لن يكون فيها وهو حي وإنما بعد موته، ولم يكن سقراط يخشى الموت ولا يراه شرًا بل فيه الخير كل الخير وبعثًا لحياة جديدة، وقد أثارت آراء سقراط جدلا في اقتصاره على العقل في بناء الأخلاق لاغيا الاعتماد على أية سلطة خارجية ولو كانت سلطة الدين، وهذا نابع من انحراف الدين في عصره، بينما رأى رجال الدين أن الأمر في فعل الخير مرده لله.

لقد كان سقراط يؤمن بأن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تصل نتائجها إلى تحقيق المنفعة للمجتمع، ولهذا فقد عمل محاولا على تأسيس نظامه الأخلاقي النابع من فكره من خلال اعتماد هذا النظام على العقل البشري وليس على العقيدة الدينية، معتمدا على أن اختيارات الأفراد هي التي ستحركها في سعيها من أجل أن تصل إلى حقيقة السعادة الأبدية.

لقد أراد سقراط أن يقيم بناء الأخلاق على ركيزة العقل وحده، ولهذا فقد رفض تمامًا أن يردها إلى سلطة خارجية عن البشر سواء أكانت هذه السلطة إلهية أو تابعة للأعراف التي وضعها البشر في مجتمعاتهم أو غيرها من السلطات التي يتعارف عليها أفراد أي مجتمع، كما أراد أن يقيم قاعدة ثابتة للأخلاق لا تعرف التغير، وبهذا جعل مقياس الخير والشر لا يتأسس على مدى المصالح التي يحققها الناس من ورائه، هادفًا من وراء ذلك أن تكون قواعد الأخلاق صالحة لكل زمان ومكان، ولهذا لم يُسقِط سقراط الإرادة عن البشر في التجائهم لفعل الخير، كما تصور بعض الفلاسفة المحدثين، لأنه إذا تغلبت شهوة الإنسان على روحه؛ فهو شهواني في طبيعته بينما إذا تغلب عقله على روحه؛ فهو إنسان عقلاني، ولهذا ينتصر سقراط للمعرفة ودورها في الأخلاق، وأن معرفة النفس البشرية وطبيعتها ضرورة للحياة الفاضلة، ذلك أن فضيلة العقل هي الحكمة، وفضيلة النفس هي الشجاعة، وفضيلة الشهوة هي الاعتدال، وفهم طبيعة الخير ضرورة للأخلاق.

وبناء على ما تقدم وجب العلم أن نظرية سقراط الأخلاقية تتأسس على ضرورة أن يتحكم العقل في مكونات النفس الإنسانية الثلاث، وهي: مكون الأخلاق، ومكون الكمال، ومكون الفضيلة، وهذه المكونات هي التي تفرض على الفرد ضرورة الالتزام بالأخلاق وضرورة فعل كل ما هو خير ونافع له ولغيره، لأن هذا الإنسان من خلال التزامه ـ طبقا لرؤية سقراط ـ يعمل لمصلحته حينما يعمل لمصلحة الناس أيضا، ولو لم يفعل الخير وفعل الشر؛ فسيساهم في تعريض نفسه والمجتمع المحيط به لشتى أنواع الفوضى وسينتهي به الأمر ليكون عرضة لصراع دائم نفسي في داخله بين عقله الذي يمنعه وشهواته التي تقوده، ولهذا جعل سقراط مسئولية الأخلاق كقاعدة عند البشر مسئولية ذاتية تصدر عن الضمير الفردي للإنسان النقي وليس اتكاءً على سلطة خارجية فوقية أو عرفية عليه.

مفهوم الأخلاق عند سقراط:

على الرغم من أن مفهوم الأخلاق ـ بوجه عام ـ يعاني من الغموض والالتباس غير أن هذا المفهوم عند سقراط يرتكز على الفضيلة والعلم وبدونهما يفتقد الإنسان الإدراك وحسن التمييز، ومفهوم الإخلاق له مكانته في العالم النظري والعالم العملي أيضا؛ فسقراط اهتم بالفضيلة وطبيعتها ولهذا أعْمَلَ فيها عقله وفحصها، وكانت عنده بمثابة "أم المسائل" أو "مسألة المسائل الفلسفية" التي ستقود سقراط نفسه للسؤال عن الغاية من العدل وبطبيعة الحال ستتشابك مع الإرادة كجانب آخر وهو ما يجعله يقر بأن الفضيلة هي المعرفة، ومن ثم كانت الإرادة هي السبيل أمام الإنسان من خلال إدارته لعقله وإرادته في أن يسيطر على الحس الذي سيجعله يحترم القوانين العادلة، ولهذا حاول أن يبني مفهوم الأخلاق على ثوابت من الحقائق في مجال المعرفة، وهو ما دعاه للتصدى لكل مغالطات السوفسطائيين بداية ثم بدأ الاهتمام في فلسفته بالإنسان وسلوكه، حيث رد الأخلاق إلى العقل والمعرفة، والبحث عن الفضيلة بعيدا عن التقليد عن طريق فحص المعتقدات جيدا.

إن مفهوم الأخلاق عند سقراط يتمركز في الاهتداء بالعقل إلي الثوابت المعرفية للوصول إلى القيم المطلقة الأخلاقية بالعلم وبالنفس التي توجب تقويمها، ويرى أن التمسك بالأخلاق لمصلحة الفرد المتمسك بها والتي يجب أن تنبع من داخله ولا تُفرَض عليه من خلال سلطة علوية قاهرة، كما يرى أن الأخلاق والفضيلة معرفة وأن من يعرف معنى الخير، سوف يفعل الخير في الحال، بينما الذين يفعلون الشر لأنهم لا يعرفون، ففعل الشر ليس اختيارا منهم بل جهلًا منهم تأسيسًا على مقولته التي ترى أن العلم فضيلة والجهل رذيلة، وأن الإنسان إنما يريد الخير دائمًا ويهرب من الشر بالضرورة، فإذا تبين الفرد ماهيته وعرف الخير سيفعله حتمًا، أما الفرد المتكالب على الشهوات فهو جاهل بنفسه وبالخير، وهو ما يجعل من غير المعقول أن يرتكب الشر قصدًا منه بل عن جهل منه بطبيعة الشر.

لقد كَمُنَ اتجاه سقراط الروحي الديني في عبقريته الخاصة به وسلوكه واستعداده النفسي تكذيبًا لمن يرى أن العبقرية نتاجًا مجتمعيا، ولم يكن للمجتمع الأثيني فضل فيه بل ولم يكن الاهتمام قبل سقراط في مجتمعه غير شذرات هنا وهناك، ولم يقل أحدًا قبله بأن القوانين العادلة مصدرها اليقيني العقل، ولم يقل أحدا قبله أن هذه القوانين صورة إلهية في قلوب البشر مرسومة بأيدي الآلهة.

من هنا قرن سقراط، تبعًا لاتجاهه الروحي الأخلاقي، بين احترام الفرد لهذه القوانين وبين احترامه لعقله وللنظام الإلهي كذلك، لكونه يؤمن بالثواب والعقاب بعد الموت؛ فمن أفلت من عقاب الدنيا وقد فعل شرًا ظنا منه أنه أفلت بفعلته، إلا أنه سيؤاخذ بالقصاص في الحياة القادمة، وبلغ يقينه إلى أن التمسك بالأخلاق يعمل لصالح الفرد دائما، حتى ولو لم يفهم معظم الأفراد ذلك. إذا رأينا أحدا يفعل فعلا لا أخلاقيا، فهو يفعل ذلك لأنه لا يعرف مصلحته الحقيقية كما ينبغي.

إن الإنسان وفقا لمفهوم الأخلاق في المنظور الفلسفي السقراطي يريد الخير على الدوام ويسعى إليه ويرغب في فعله، ولهذا فهو يهرب من الشر بالضرورة خاصة إذا عرف حقيقته وماهيته معرفة يقينية، ولهذا سيفعل الخير لا محالة، أما الإنسان المتكالب على الشهوات فهو إنسان جهول لا يدري ما حقيقة نفسه وماذا يريد ولا يدري كنه الخير وحقيقته، فلا يعقل أن يرتكب أي إنسان الشر عامداً أو يرتكب الرذيلة قاصدا؛ لأن الرذيلة جهل والفضيلة علم، وقد يجهل مكنون الفضيلة وجوهرها وحقيقتها مع كونها ثابتة، وسيكتشف أن تمسكه بغير الأخلاق ليس إلا عرضًا من الأعراض الزائلة، أو تمثل بالنسبة له بعض الحاجات الوقتية الفانية.

مفهوم الأخلاق بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية عند سقراط:

على الرغم من احتفاء سقراط بالإرادة البشرية ويقينه في أنها ستعرف الخير وستسعى إليه من خلال السلوك الذي يمثل الاختيار الصحيح له، إلا أنه يرى أن الإرادة البشرية يجب أن تستمد طاقتها وقوتها من داخلها دون الإذعان لسلطة لاهوتية فوقية أو عُرفٍ مجتمعي، إيمانا نابعا منه بأن الإرادة الإلهية هي التي أوحت إليه ـ أي إلى سقراط ـ أن يقوم بوعظ وإرشاد مواطنيه الأثينيين، ويحثهم على الصلاح باتباع تعاليمه والأخذ بنصائحه، حيث يرغب بل يحرص على هدايتهم ولا يريد شيء من أعراض الدنيا الزائلة مقابل هذا الدور المنوط به أو التي اختصته به الإرادة الإلهية، كما أنه يرى الخير كل الخير في اتباع الأخلاق وقيمها الثابتة، مُنبهًا إلى أن الإنسان الشرير مُجبر بالجهل على ما يفعله ضد إرادته؛ فهو يناقض رغبته الحقيقية التي تسعى نحو الخير الأسمى دائما.

إن المراد من قول سقراط بأن الأخلاق والفضيلة عبارة عن معرفة، والمعرفة وحدها هي التي تحرر الإنسان وتجعله طليقا في تحقيق رغباته التي تنعكس آثارها عليه نفسه داخليًا وخارجيًا، سواء في طريقة كلامه أو في أسلوب تفكيره بل في مظهره الخارجي أيضا، وفي سلوكه الإنساني مع المحيطين به في بيئته وفي تعاملاته معهم، وهي التي تلزمه باختيار الصحبة الجيدة الطيبة.

لذا فسقراط تبعا لمفهومه الأخلاقي المرتكز على نظريته وفكره وفلسفته، تيى أن جميع الحلول حول مشكلة الأخلاق يمكن الوصول إليها بسهولة عندما يفهم البشر طبيعة أنفسهم، ومن خلال فهمهم لهذه الطبيعة سيفهمون ما يدور حولهم سواء في مجتمعهم الداخلي أو الخارجي، كما أن مفهومه الأخلاقي من منظوره الفلسفي يتكامل داخله المنظور النظري مع المنظور التطبيقي، مما يضفى عليه إمكانية أن يتخذه الإنسان منهاجا لحياته دائما في كل المجتمعات باعتباره فضيلة ومعرفة وخير لنفسه ولمجتمعه.

غير أن الأخلاق من منظور فلسفة سقراط لم تمر دون نقد بدأه بالفعل أرسطو حين قال: (إنَّ سقراط جهل أو تناسى أن نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده، وتخيل أن كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل، ومن ثم إذا علم العقل فضل العمل، ولكنه نسي أن أكثر أعماله محكومة بالعواطف والشهوات، وإذ ذاك قد يقع في الخطأ مهما علم العقل).

يرى الدكتور زكي نجيب محمود والأستاذ أحمد أمين في كتابهما: "قصة الفلسفة اليونانية"، أنه على الرغم من أنَّ نظرية المعرفة كانت أبقى وأعمق أثرًا في مجرى تاريخ الفلسفة من نظرية الأخلاق، إلا أن الوضع قد انعكس في أعين تلاميذ سقراط؛ لأن حياته الأخلاقية قد بهرتهم بمخالطتهم لأستاذهم حتى أنستهم جوانب فلسفته الأخرى، فساروا على نهجه بعد مماته، وحاولوا ما استطاعوا أن ينسجوا حياتهم الأخلاقية على منوال حياته، فاتخذوا مثله الأعلى شعارًا لهم.

لقد رأى سقراط في كل إنسان جزءًا من الإله، وهو ما ينم عن مدى اتساق مفهومه للأخلاق في دعم براهين وجود الله أمام من ينكرونه من الملحدين، ومن أن الكمال الإنساني ـ في تصوره ـ ليس إلا انعكاسا للكمال الإلهي الأكبر، وهو ما يعكس أن الإنسان كان هم سقراط الأكبر وشغله الشاغل، وهو ما جعله يُنزِل الفلسفة من السماء إلى الأرض من أجله.

لذا فقد اهتم في فلسفته بالإنسان وسلوكه وجعله مركز دائرتها، ونقله من الهامش إلى القلب حيث كان يشغل مكانًا ثانويًا في البحث الفلسفي قبل ظهور سقراط، ويتراجع عن درس النظريات العلمية في عصره حتى انحصرت فلسفته في محيط الأخلاق وأهميتها للإنسان؛ لأنها أهم ما يتصل بالإنسان، فكان بحق فيلسوفا إنسانيا أخلاقيا غايته أن يكون الإنسان عارفا لنفسه بنفسه، مُعليًا قيم الفضيلة، متمسكا بالمعرفة؛ فقد دارت فلسفته حول نظريتا المعرفة والأخلاق، غير أن نظرية الأخلاق عنده تنحصر مهمتها في توحيد الفضيلة والعلم.

وخلاصة القول المُستخلص من خلال السياحة الفكرية في تعقب مسيرة الأخلاق ومفهومها وموقعها في المنظور الفلسفي السقراطي أنها قامت على ركائز معرفية ثابتة، استطاع من خلالها سقراط، كما يرى دكتور توفيق الطويل في كتابه: "الفلسفة الخلقية" أن يَرُدَ الأحكام الخلقية على الأفعال الإنسانية إلى مبادئ عامة تتخطى الزمان والمكان، وكما يمكن اعتبار سقراط أنه أول من أوجد مقياسا ثابتا تقاس به خيرية الأفعال وشِريتَها، واضعا الأسس والقواعد لعلم الأخلاق لمن أراد أن يبني عليها من العلماء والفلاسفة والمفكرين بحسب تنوع مشاربهم واختصاصاتهم بما يفيد الإنسان في كل حين.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى