د. محمد الشرقاوي - يَوْمَ كنتُ بائعَ السْفُوفُ!.. ذكريات الصيف 3

ذكريات الصيف 3


كنتُ في الثّامنة من العمر عندما انتابتْ نفسيتي موجةٌ شديدةٌ من الرّتابة والملل خلال العطلة الصيفية. كانت عطلة جافة، والجفاف أنواع، لثلاثة اعتبارات مضاعفة: الأول، جفافُ الطقس الحار. والثاني الأكثر قسوة هو استحالةُ السّفر إلى مدينة أخرى، فيما لا تجد الوالدة الوقت لكي تأخذنا للاصطياف في شاطئ المدينة كل يوم. أما الاعتبار الثالث الكابح لمغزى العطلة هو الإفلاسُ الماليُ الشاملُ، وقد أعلنت حركة النقود حالة العصيان المدني عن أيّ إمدادات نحو جيبي الصغير.
بصّرتُ ونجّمتُ ودبّرتُ كثيرا، كما قال نزار قباني، في أحوالي المزرية، وفي السبيل لإنهاء هذه الرتابة القاتلة والجفاف المالي. فقرّرتُ أن أخوض أولى تجاربي في التجارة، وأعتمد على نفسي ببدء مقاولتي الخاصة وتحقيق ثروة بتكاثر الريالات والدراهم مرحليا، على أمل أن أصل إلى الورقات النقدية من الحجم الثقيل.
بعد تخطيطٍ وتدقيقٍ في طبيعة المعروضات في المحلات القريبة، بدا لي أن ما ينقص هو مشروع بيع "السفوف" إلى أبناء الحي وما أكثرهم في حالة انتشار واسع النطاق خلال العطلة الصيفية. وبدأتُ حملة الطلب والالتماس من والدتي التي ستكون الممول طبعا وأيضا من يحضّر المنتوج الجديد. فهي الخبيرة في إعداد السفوف الذي يقوم على طهي الدقيق وتحليته وخلطه مع اللّوز وبقيّة المكسّرات المطحونة ليستقيم الطعم المنشود، وعادة ما تزخر به موائد الإفطار المغربية خلال شهر رمضان.
طالت حملةُ المناشدة والترغيب في الفكرة مع الوالدة مدة عشرة أيام ماراثونية، وأنا أسافر كل يوم في أحلامي بقرب انطلاق مشروعي الصغير. لكنه كان نواة أحلام كبيرة بأن أستقطب الصّغار والكبار إلى الوقوف عند طاولتي التي خطّطت لها في نقطة مركزية استراتيجية على جانب أقرب شارع في الحي. تكرّر هذا المشهدُ مرارا في مخيّلتي بأني سأكون تاجرا جيدا وأحقق سمعة طيبة لأن بضاعتي من السفوف مصنوعةٌ يدويا وبمهارة الوالدة أو "شغل الدار"، وليست صنيعة مغشوشة أو مسلوقة بسرعة.
سكنني هذا الحلمُ حتى النّخاع، وعشتُ فيه صباح مساء، وكيف سأبدأ لفّ الورقات التي سأضع فيها السفوف، وكيف أقيس بعدد الملعقات، وكيف سأتفادى حدوث خسارة. وامتدّت تخيّلاتي واستشرافاتي أيضا إلى تزايد عدد الزّبائن مستقبلا، وكيف سأزيد الكميّة المعروضة واحتمال أن أحتاج لمساعدتي أخي الأصغر مع اتّساع المسؤوليات، وبقية التصوّرات التي كانت تحملني من واقعية اللحظة إلى السفر بعيدا مع جاذبية وبريق "مشروع العمر" الذي شعّ في جوارحي آنذاك.
ذات صباح، انفتحت أبوابُ السماء، وجاء الفرج وانفرجت أساريري عندما أبلغتني الوالدة أننا سنذهب سويا إلى السوق لاقتناء كمية من اللوز والزنجبيل وأمور أخرى. وما رفع مستوى تفاؤلي أنّها لن تشتري الدقيق، بل ستستخدم كمية مما لدينا في المطبخ والمخصّص عادة لعجينة الخبز.
كان يوما تاريخيا وأنا أشهد الأمور تتحرّك بشكل جيّد، ووالدتي تدعمني ماليا وعمليا لكي أصبح من الباعة المشهورين في الحي. بعد الظهر، أشارت إليّ بالتوجّه إلى فرّان سيد البخاري لاستجلاب "الطاوية"، وهي الصفيحة الحديدية المستطيلة، لكي تضع فيها كمية الدقيق والعودة بها إلى الفرّان للطهي على حرارة معتدلة. وقد بدأت الوالدة تحضير اللوز وبقية المكسرات واللوازم في المطبخ.
قضينا بقية المساء منهمكين في استكمال مواد السفوف ووضع اللمسات الأخيرة عليه. ثم بحثتُ في دفاتر العام الدراسي السابق لأجد كراسة من حجم اثنتي عشرة صفحة لم أستخدم منها سوى صفحات معدودة. نزعتُ الصفحات النظيفة، وقسمتها إلى نصفين، وبدأت لفّ كل منها لتكون حاوية السفوف عندما أبيعه إلى الزبائن في الغد.
في الصباح الموالي، صحوتُ مبتسما منتفخ الصدر كانتفاخ الديك قبل الصياح. استعجلتُ في تناول فطوري لأبدأ تنظيم أموري لانطلاقة المشروع الجديد. في حدود العاشرة صباحا، وضعت الوالدة كمية السفوف في "الطبسيل"، أو الصحن متوسط الحجم من صنف "البروسي" أبيض اللون، ووضعت عليه غطاءً بلاستيكيا لحمايته مع الغبار والشوائب. ووضعتُ أنا أوراقي الملفوفة وملعقة جديدة في جيبي الأيمن، ومسكتُ في اليد الأخرى طاولة مستطيلة صغيرة الحجم، وبدأت في مسيرة النجاح الأكبر.
كانت خطواتي المتّئدة نحو وجهتي المقصودة وأنا منتصبَ القامة أمشي مزهوًّا بنفسي، وعيني تمتد إلى وجوه بعض أطفال الحي وعليها نظراتُ التعجب والفضول بشأن ما أنا بصدد القيام به. خطى خلفي اثنان منهم بسؤال ملحّ ليكونا مساعدين لي، إلى أن استقر بي المقام بجانب تاجر بقالة اسمه "بّا رحّال"، عملا بنصيحة الوالدة حتى أكون في مأمن من بعض الأشرار. وضعتُ الطبق على الطاولة، ونصبتُ الملعقة عند فتحة الغلاف البلاستيكي باتجاه دائرة السفوف المعروض بأناقة، ورتبتُ أوراقي الملفوفة على الجانب، إيذانا بأني تاجر محترف يعرف قواعد العرض الجيد واستمالة الزبناء.
كانت نشوتي عارمةً عندما تسلّم منّي الزبونُ الأول ملفوفةَ السفوف، وناولني قطعة ريالين. ثم جاء الثاني وتكرّر المشهد، لكن المعنويات هذه المرة بلغت الطابق السابع. وساورتني الحيرة بين أن أضع الريالات الأربعة في جيبي أو على جانب الطاولة الصغيرة، إسوة بالباعة الكبار المحترفين ممن يتركون كمشة من القطع النقدية أو "الصْرافة" بجانب بضاعتهم المعروضة. المهمّ أنا الآن في عصبة "الدوري الأول" في نادي الباعة بمنتوج متقن وطريقة عرض مناسبة!
في لحظة من اللّحظات، ساورني القلق عندما لمح بصري أحدَ أبناء الحي. ولم يكن بيننا ودّ خاصة بعد أن سجّلتُ هدفًا في شباكه في مباراة كرة القدم كان هو الحارس لدى الفريق المنافس قبل ثلاثة أيام. ازداد توجّسي عندما اقترب وهو يضع يداه خلف ظهره. وفجأة، حدث مشهدٌ غيرُ متوقّع لا تزال ذاكرتي تعيده بالتّصوير البطيء كل مرّة:
حجرةٌ سميكة تهوي من أعلى على حافّة الصحن.. يتطاير السفوف إلى الأعلى... ثم ينزل إلى الأرض كأنقاض زلزال باثنتي عشرة درجة على سلّم ريختر... استجمعُ تركيزي لأفهم ما حدث... تمتدّ يدي بعصبية إلى صحن أبيض أصبح مدموغا ببقعة سوداء... فينقطع خيط الأحلام الكبيرة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى