أبووردة السعدني - القاضي محمود كعت مؤرخ سنغي الإسلامية ( 4 ) الحياة العلمية في سنغي:

( 4 )
الحياة العلمية في سنغي:


ارتبطت بلاد السودان الغربي - منذ انتشار الإسلام فيها في القرن الخامس الهجري / السادس عشر الميلادي - ببلاد المغرب العربي ، وتأثرت بالثقافة الإسلامية الوافدة إليها من المغرب تأثرا عظيما ، فانتشر فيها مذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - ، كما وصلت إليها التأثيرات الأندلسية عن طريق المغرب - أيضا -...
وحين قامت دولة مالي في تلك المناطق ، استطاع سلاطينها - بما أوتوا من ثراء واسع - أن يولوا وجوههم شطر المشرق الإسلامي ، خاصة مصر وبلاد الحجاز ، فكانت رحلاتهم لأداء فريضة الحج مناسبات طيبة للاطلاع على التقاليد الإسلامية ، والحياة العلمية في مصر وفي بلاد الحجاز ...
... وكان قرب الجامع الأزهر الشريف من بلاد الحجاز ، وعلى الطريق المؤدي إليه عاملا له أثره ، إذ كانت جموع الحجيج القادمين من بلاد السودان تمر بالقاهرة - وهي في طريقها إلى الحجاز ، وفي عودتها منه ، وضمت قوافل الحج - عادة - عددا كبيرا من العلماء الذين حرصوا - أثناء وجودهم في القاهرة - على التردد على الجامع الأزهر ومشاهدة حلقات العلم فيه ، والتعرف على كبار علمائه ، وكان عدد منهم يتخلف عن القافلة ويمد فترة إقامته - في القاهرة - رغبة منه في تعميق صلاته بالأزهر وعلمائه ، ويبدو أن بعض المصريين - من العلماء وغيرهم - رحلوا إلى بلاد السودان الغربي واستقروا بها ، بدليل ما رواه " ابن بطوطة " من أنه حين زار تلك البلاد سنة 753/1352 ، وجد الأزياء المصرية منتشرة فيها ، وحين ألم به مرض لم يسعفه بالعلاج إلا طبيب مصري ، وشاهد في مدينة " تنبكت " قبرا لتاجر من مدينة الإسكندرية ...
... ومن جهة أخرى : فإن إقامة بعض طوائف من بلاد السودان الغربي في مصر ، دفعت عددا من التجار إلى بناء مدرسة لهم ، لتدريس المذهب المالكي ، عرفت باسم " مدرسة ابن رشيق " ، غدت - هذه المدرسة المالكية - مركزا لطلاب العلم الوافدين من بلاد التكرور ، حتى إن الخيرين من تلك البلاد اعتادوا أن يبعثوا للمدرسة المذكورة التبرعات النقدية والعينية ، كما أنشىء لهم رواق مستقل في الجامع الأزهر ، عرف باسم " رواق الدكارنة " ...
... وحين قامت دولة سنغي الإسلامية - في أواخر القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي - شهدت الحياة العلمية نهضة كبرى ، فلقد سار سلاطين هذه الدولة على خطى سلاطين دولة مالي ، بل فاقوهم في هذا المضمار الحضاري ، حتى عد القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي أزهى عصور الثقافة الإسلامية في بلاد السودان الغربي ، ظهرت هذه السياسة الرشيدة - واضحة جلية - في عهد " أسكيا محمد " ، واستمرت في عهود خلفائه من بعده ، ويمكن إرجاع عوامل ازدهار الحياة العلمية - في تلك الآونة - إلى عوامل عدة ، منها :
أولا : تبوأ العلماء مكانة رفيعة إبان عصر دولة سنغي ، فبفتواهم تتم ولاية السلطان ، وبفتواهم يصير معزولا ، واتخذهم السلاطين مستشارين لهم ، فلا يبرم أمر دون مشورتهم ، ولا يتخذ قرار دون موافقتهم ، ولا يشاهد السلطان إلا محاطا بكوكبة من العلماء ، ووجدت عدة وظائف مرموقة اختص بها العلماء ، منها : وزير القلم ، والترجمان ، هذا إلى جانب القضاء الذي اقتصر عليهم دون غيرهم ...
...من جهة أخرى : بارك سلاطين سنغي النهضة العلمية والثقافية في بلادهم ، بتشجيع العلماء والفقهاء واحترامهم ، وإعفائهم من الضرائب ، وإغداق الأموال الطائلة عليهم ، ومنحهم إقطاعات واسعة ، فتفرغوا لعلمهم ، وعلت مكانتهم ، وسما قدرهم ، وذاع صيتهم ...
ثانيا : التوسع في إنشاء المدارس لتحفيظ القرآن الكريم ودراسة العلوم الدينية والعربية ، فلقد تنافس السلاطين والأمراء والأعيان - ومن إليهم - في إنشاء المدارس تقربا إلى الله تعالى ، ، وتنافسوا - أيضا - في إنشاء المساجد الكبرى ، التي كانت بمثابة كليات يتخرج فيها العلماء - بعد الحصول على إجازاتهم العلمية - لتولي وظائف القضاء والتدريس والإمامة والخطابة ، ودرست مدارس سنغي المناهج العلمية التي كانت تدرس في أقطار العالم الإسلامي في تلك الآونة ، فنجد الفقيه يجمع - إلى جانب دراسة الفقه - دراسة النحو والصرف ، والبلاغة والبيان ، والتفسير والحديث ، والتاريخ والسير ، الأمر الذي أدى الى انتشار اللغة العربية على نطاق واسع ، حتى غدت لغة التخاطب بين سكان سنغي ، إلى جانب كونها لغة الإدارة والمراسلات والمعاملات و المراسيم والدواوين ، وبذلك طبعت البلاد بطابع إسلامي عربي واضح....
ثانيا : الاحتكاك الثقافي بالعالم الاسلامي ، عن طريق الحج ، والتجارة ، والرحلة طلبا للعلم ، وتبادل العلماء والمفكرين ، وحسبنا أن نذكر - تدليلا على ذلك - أن أسكيا محمدا اصطحب معه - أثناء رحلته للحج عام 902 /1496 - عددا من علماء سنغي ، والتقى - في طريق عودته بمدينة القاهرة -بالشيخ جلال الدين السيوطي - ت911/1505 - ، وجلس بين يديه - طويلا - مجلس التلميذ من الأستاذ ، سأله عن أشياء ، وأجابه السيوطي عن كل ما سأل ، ومن جملة قول السيوطي لأسكيا محمد :
" ... أنت مريد منصور عادل ، كثير الفرج والعطاء والصدقة ، تنام أول الليل ، ثم تصلي آخره ، سيصيبك عمى في أخر عمرك ، ويعزلك واحد من أبنائك ، ويرميك في بعض الجزائر ، ومصداق جميع ما قلت : علامة في فخذك اليسرى ، كانت من برص ، فأبرأه الله بغير علم أحد ، فقال أسكيا ( السلطان ) : صدقت سيدي وقرة عيني " ...
... كان الشيخ جلال الدين السيوطي ذائع الصيت في بلاد التكرور ، انتشرت مؤلفاته في تلك الأنحاء ، وأقبل الطلاب على دراستها ، كما راسله علماء سنغي يستفتونه في العديد من القضايا الفقهية ، فلقد أرسل إليه الشيخ " شمس الدين محمد االلمتوني " - ت898/1484 - رسالة تحتوي على مشكلات فقهية مختلفة ، أجاب عنها السيوطي في رسالة سماها : " فتح المطلب المبرور ، وبرد الكبد المحرور ، في الجواب على الأسئلة الواردة من بلاد التكرور " ، ويرى أحد الأساتذة أن السيوطي زار هذه المناطق وأقام بها زمنا يفقه أهليها ويفتيهم ، هذا إلى جانب ارتباط علماء سنغي بعلاقات وطيدة مع أسرة البكري في مصر ...
...فكان لما سبق ذكره من عوامل أثر كبير في أن تموج الحياة العلمية والثقافية - في سنغي - بالحيوية والحركة ، فلا تجد مدينة من المدن إلا فيها كتاتيب ، أو مدارس أولية تقوم بتحفيظ القرآن الكريم ، وتعليم مبادىء اللغة العربية للأطفال ، لتأهيلهم للمراحل الدراسية العليا في مدينة " تنبكت " أو مدينة " جني " أو مدينة " كاغ " ، بالإضافة إلى رعايتهم ماديا ومعنويا ، فصاحب " تاريخ الفتاش " يروي أن مدينة " كنجور" - في اقليم " كياك " ، يفد إليها أمير " كياك " ليزور " علماءها وقاضيها في شهر رمضان من كل عام ... بصدقاته وهداياه ، يفرقها عليهم ، وإذا كانت ليلة القدر ، يأمر بطبخ الطعام ، ثم يحمل المطبوخ في ... مائدة ...يحملها فوق رأسه ، وينادي قراء القرآن ، وصبيان المكاتب ، يأكلونها والمائدة فوق رأسه ... يحملها ، وهو قاعد ، وهم قائمون يأكلون ، تعظيما لهم"...
... ومن جهة أخرى : انتشرت المكتبات العامة والخاصة في شتى أرجاء سنغي ، وراجت تجارة الكتب حتى فاقت - في ربحها - كل تجارة ، وتنافس السلاطين والأمراء على شراء الكتب والمخطوطات ، ثم يأمرون بإعادة نسخها وتوزيعها - مجانا -على العلماء وطلبة العلم ، فالقاضي محمود كعت - مؤلف تاريخ الفتاش - حين احتاج إلى نسخة من كتاب " القاموس المحيط " للفيروز أبادي ، اشتراها له " أسكيا داود " بثمانين مثقالا من الذهب ، وكان داود من أشد الناس حبا للعلم والعلماء ، حافظا للقرآن الكريم ، درس العديد من أمهات الكتب العربية ، وله شيوخ يقومون على تعليمه ، ونساخ ينسخون له الكتب ليهادي بها العلماء ، هذا إلى جانب أنه كان يمتلك مكتبة خاصة تضم ألوانا من العلوم والآداب والفنون ، ومن شدة حبه للعلم وتكريمه للعلماء ، وإذعانه لآرائهم ، واعترافه بقدرهم ، كان يردد دائما : " لولا العلماء لكنا من الهالكين " ، فكان يكثر من مجالستهم تبركا بمشاهدتهم ، وإذا علم بمرض عالم داوم على زيارته ومؤانسته حتى يبرأ من مرضه ، كما كان كثير التصدق على طلبة العلم والفقراء والمساكين ، وأوقف عليهم حدائق واسعة ، أطلق عليها : " جنات المساكين " ....
... وإذا كان هذا شأن داود ، فإن ابنه " أسكيا اسحق " - ت 999/1591 - كان هو الآخر : " كريما ، سمحا ، جوادا ... غاية في التصدق والعطاء ، محبا للعلماء ، مكرما لهم " ....
... فلا عجب إذا ، أن نقرر أن الحضارة الإسلامية شهدت في عصر دولة سنغي - إبان القرن العاشر الهجري /السادس عشر الميلادي - ازدهارا عظيما ، وتلك فطرة الإسلام ، إذا شرح الله به صدور قوم سادوا ، وصاروا في طليعة الأمم ، علما ، وحضارة ، ورقيا ، وتقدما ......


" يتبع "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى