الفصل الثالث عشر
في مدح العشق وذمه
سألني بعض المائلين إلى الهوى، المصابين بسهام الصبابة والجوى - الساهرين في الليل الطويل الذوائب، الذين صرفوا على المحبة حبات قلوبهم الذوائب - عن مراتب العشق وضروبه، وقبائل الحب وشعوبه، وهزله وجده، وجزره ومده، وشواهد شهده وسمه، وما قيل في مدحه وذمه، فأجبته إلى سؤاله، وجمعت بينه وبين آماله:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
يا هذا إن أول العشق استحسان من يلائم الطبع من الجواري والغلمان، تحدث منه إرادة القرب والمودة، ثم يقوى الود فيكون حباً لا يمكن القلب رده. فإذا استحكمت المحبة في القلوب، عادت هوى يهوي بصاحبه في اختيار المحبوب، ثم يصير عشقاً ثم تتيماً ثم يرجع ولهاً على العقول مخيماً، وهو طمع في القلوب يتولد، يعظم بالحرص على الطلب ويتأكد. يخفى عن الأبصار، ويهيج باللجاج والتذكار، كامن كالنار في الحجر، والزهر في الشجر. إن قدحته أورى، وإن سقيته أخرج نوراً:
العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تحكم صار شغلا شاغلا
فأما أوصافه الممدوحة فإنه جليس ممتع بمشاهدته، وأليف مؤنس بمنادمته، مسالكه لطيفة، وممالكه شريفة. برق لامع، ونور ساطع. تستضيء به نواظر العقول، ويفعل في الشمائل مالا تفعله الشمول، ويتصل بجواهر النفوس، فيزيل عنها لبوس البوس، فرح يجول في الروح،وارتياح يغدو في القلب ويروح، وسانح ينشر من البشر ما انطوى، وسرور ينساب في أجزاء القوى:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان. يولد الأخلاق الجميلة، ويرغب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع ويشنف الأسماع، ويدعو إلى تحسين اللباس، ويستعمل بالرياضة أهل الشماس، لا يقع فيه إلا من قليب قلبه صافي، ولا يسلم منه إلا كل جلف جافي:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
وأما أوصافه المذمومة: فإنه ملك قاهر، وحاكم جائر. هزله جد وراحته تعب، وأوله لعب وآخره عطب. يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة، ويكسف من الآراء شموسها البازغة، ويسوق إلى وليه غمام الغم، ويهيم في وادي الهم. يذهب العقل، ويمرض الجسد، ويقوي الفكر ويضعف الجلد، ترتعد منه الفرائص، وتتقد به نار النقائص. يستعبد الأحرار، ويستأثر ذوي الأقدار، ويصفر الأبدان، ويوقع في الذل والهوان:
وكنت أظن الهوى هيناً ... فلاقيت منه عذاباً مهينا
يورث الأسف والحرق، ويجلب الوسواس والأرق، ويجدد ملابس الوجد والألم، ويمنع عن الاشتغال بالعلوم والحكم. يحالف أرباب الشبهات، ويستخدمهم في تدبير الشهوات، ويعطل عن المصالح، ويجرح بمديته الجوارح. من جنده الغرام والكلف، ومن رفده الهيام والشغف، يعوق الطالب عن الاستفادة، ويشغل الإنسان عما خلق له من العبادة. جان يفضي إلى الجنون، ويدني أهل المنى من المنون:
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب
واعلم، وقاك الله شر الشرر، أن أقوى أسباب العشق النظر. رياحه تنشىء سحائب الفكر، ومرآته تجلو على القلب محاسن الصور. فاتق النظرة، فإنها تزرع حَب حُب ينبت سنبل الحسرة. كم سلب النظر قلب عابد، وفتن عقل ناسك، وحل عقد زاهد، وأجرى آفة، وقرن ذلاً بمخافة، وأثار غبار معركة، وألقى شهماً إلى التهلكة، وأقام حرباً على ساق، وسفك الدماء وأراق، وأوقع في مصائد المصائب، وهشم العظام بأنياب النوائب:
فمن كان يؤتى من عدو وحاسد ... فإني من عيني أتيت، ومن قلبي
فاسلك سبيل السلامة، لتصل إلى دار الكرامة، واقطع أسباب المطامع، واشتغل عن المصنوع بالصانع. فأما من آثر اللذات فقد تورط في حبائل البلوى، وانتهى من حرم الحرمان إلى الغاية القصوى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى " .
الفصل الرابع عشر
في الفراق
الفراق - جمع الله الشمل بمحياك، ورعى ودك على بعد المزار وحياك - وقد اجترى واجترح، وأذهب المسرة والفرح ، وضيق رحب الفضا، وقلب القلب على جمر الغضا، وأورث الكمد، وأذاب جليد الجلد، وجاب. وجال، ونثر عقود الاحتمال، وأوجد الوجد والهيام وأحوج الصب إلى العبث بالأقلام:
كتبت وعندي من فراقك لوعة ... تزيد بكائي أو تقل هجوعي
فلو أبصرت عيناك حالي كاتباً ... إذاً كنت ترثي في الهوى لخضوعي
أخط وداعي الشوق يملي، وكلما ... تعديت سطراً رملته دموعي
يا لها لوعة أسعرت وقد الضلوع، ومالت إلى الصبر فأذوت منه الأصول والفروع وصبابة صبت النفس إليها، ووقفت لامتثال الأمر طائعة بين يديها، وغراماً يلازم غريم الفؤاد، ويتكلم من الدموع بألسنة حداد، وشوقاً إلى تلك الليالي المستنيرة، والأيام التي تطول الشرح في وصف محاسنها وإن كانت قصيرة:
حيث اللقا والنوى حل ومرتحل ... والدهر يقضي لنا من وصلك الغرضا
لئن تعوضت عني غير مكترث ... فعنك، ما دمت حياً، لم أجد عوضاً
إلى الله أشكو جور أحباب، لا شك في ظلمهم ولا ارتياب:
ساروا وسر الوجد قلبي أودعوا ... يا ليتهم يوم النوى لو ودعوا
أفديهم غائبين أطالوا شقة البين، ونازحين سكنوا القلب حين غابوا عن العين:
رحلوا عن الأوطان لكن في الحشا ... نزلوا، وما راعوا ولكن روعوا
كيف العمل؟عز الاحتيال، هل من طريق إلى منزلة الوصال؟
يا صاح إن ظباء جيران النقا ... جاروا علي فدلني ما أصنع؟
أحسن بهم ظباء غير أوانس، كم أسهرت العشاق عيونهم النواعس:
نفروا وما التفتوا وعادة مثلهم ... يتلفتون إذا نفاراً أوقعوا
أيها المغرم باللوم والتفنيد، لا تتعب نفسك فيما لا يجدي ولا يفيد:
قسماً بهم مالي غنىً عنهم ولو ... أمسيت كاسات الأسى أتجرع
كُف كف العذل والتأنيب، فلست أحول عنهم ولو براني النحيب.
وأنا المقيم على محبتهم وإن ... حفظوا عهودي في الهوى أو ضيعوا
نعم أقيم على الود والمحبة، وأرعى رب الخال ولو اشترى قلبه بحبة، وأحفظ زمام الذمام، وأصبر في هاجرة الهجر على الأوام وأتعلل بلعل وعسى، وأحتمل مشقة آسي جرح الأسى، وأتعلق بأذيال ضيف الطيف، وأتشبت بأن أوقات الفراق سحابة صيف:
وأطوف في تلك الديار مسائلاً ... عن أهلها أبكي ما قد جرى
لله بعد البعد حمر مدامع ... بنُضارها المبدول قد أثرى الثرى
وقد علم الله أن يوم النوى،أضعف بناء جسدي بالهوى فهوى، وأحال صبغة حالي، وسقاني كأس بعد مذاقها غير حالي، فعدت ذا سكر دائم، وعناء تحل دونه عقد العزائم. القلب مأوى الهموم، والطرف موكل برعي النجوم، والكآبة في الخاطر خاطرة، والعين إلى نحو الطريق ناظرة، وأسياف الضنى تجرح الجوارح، وسهام الجوى تجنح إلى الجوانح. لا أعرف لذة الوسن، ولا أمل من السير في حزن الحزن. ولا أرد الماء النمير إلا ويلفحه من كبدي حر السعير.إن مر الفكر في خلدي شرحت له صدراً، وإن دعاني الذكر الجميل مرة لبيته عشراً. ولولا رجاء العود والإياب، لانفصمت من قوى حياة العليل عرا الأسباب، فتباً لأيام الصد والقطيعة، وسقياً لأوقات كانت على رغم العدا مطيعة، حيث الأوطان عامرة، ووجوه الأوطار ناضرة، وأغصان العيش مائدة، وصلة الأحباب عائدة:
وسعاد تسعدنا بروضات الرضا ... ويعمنا منها سنا وسناء
لهفي على ذاك الزمان وطيبه ... فلفقده أنا والخلال سواء
أمبشري برجوعه لك عن رضا ... روحي وما ملكت يداي فداء
والله المسؤول في بلوغ الأماني، وإباحة ممنوع التلاقي والتداني، واجتماع المشوق بأهل وداده، ونصرة المظلوم على أعدائه وحساده، فإنه " نعم المولى ونعم المصير " ، " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " .
الفصل الخامس عشر
في الاستعطاف
أيها المعرض الهاجر، الذي سعى لصده دمع صبه على المحاجر، رفقاً بمن ملك الوجد قياده، وعطفأ على من أذاب الشوق فؤاده، متيم أقلقه فرط صدودك، ومغرم أغراه بحبك قول حسودك، وسقيم لا شفاء له دون مزارك، ومقيم على عهدك ولو طالت مدة نفارك. إلام هذا التنائي والنفور؟ وعلام ياذا القد العادل تجور؟ لقد تضاعف الأسف والأسى، وتطاول التعلل بعل وعسى، وفني حاصل الصبر ولم يبق إلا المقابلة بالجبر.
هبني تخطيت إلى ذلة ... ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من بعدها حرمة ... توجب لي منك جميل الرضى؟
نعم لي حرمة وذمام، وسابق خدمة توجب رفع الملال والملام. ولت ألوذ إلا بباب نعمك، ولا أعتمد في محو الإساءة إلا على حلمك وكرمك. وما جل ذنب يضاف إلى صفحك، ولاعظم جرم يطرد غراب ليله باز صبحك. ومثلك من يسد الخلل، ويغفر الخطأ والخطل، ويقيل العثرات، ويتجاوز عن الهفوات، ويمح بالعفو تفضلاً، ويزيل القبض عن بسط العذر متطولاً، فلا تخدش وجه رضاك بالغضب، ولا تجمع لمن أسره التفريق بين العتب والتعب، ورق على عبدك رقك، وأره الدجا والضحى من فرعك وفرقك، وأذقه أري وصالك، كما جرعته شري انفصالك.
وكنت اظن أن جبال رضوى ... تزول وأن ودك لا يزول
ولكن القلوب لها انقلاب ... وحالات ابن آدم تستحيل
طالما آنستني بقربك، ودنوت مني مفارقاً ظباء سربك، واعتنيت بأمري، وأخمدت برضاب ثغرك جمري، وأنجزت وعودي، وأطلعت نجوم سعودي، وأطلت سروري وابتهاجي، وأصلحت بشراب وصلك مزاجي، وجلوت طرفي بمحاسن طلعتك، وأرويت ظمئي بالعذب الفرات من شرعتك.
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة ... إلي بها في سالف الدهر تنظر
قيدت أملي عن سواك، وبهرت ناظري بنظرة سناك، وضاقت بعدك عليّ المسالك، وغدت مطالبي محفوفة بالمهالك، وكسرت جيش قراري، وتركتني لا أفرق بين ليلي ونهاري. أجول حول الديار، وأعوم في بحر الأفكار، وأتمسك بعطف عطفك، وأتعلق بأذيال مكارمك ولطفك. أما علمت أن الكريم إذا قدر غفر؟ وإذا صدرت عن عبده زلة أسبل عليها رداء العفو وستر، وأن شفيع المذنب إقراره، ورفض خطيئته عند مولاه استغفاره. ومن أبدى باعترافه الحجة، فقد استوجب أن يُسلك في مساحته أوضح المحجة.
ومن كان ذا عذر لديك وحجة ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
لهفي على عيش بسلاف حديثك سلف، وأوقات حلت ثم خلت وأورثت التلف، وزمان ولى مجانباً، وحبيب ذهب مغاضباً، واهاً لأيام بطيب أنسك مضت، وبروق ليال لولا قربك ما أومضت:
ما كنت أعرف في الهوى مقدارها ... رحلت وبالأسف المبرح عوضت
كيف السبيل إلى إعادة مثلها؟ ... وهي التي، بالبعد، قلبي أمرضت
إلى كم أموه وأغالط، وأجاهد في سبيل الصبر وأرابط، وأكلف اللسان مكابدة حمل الكتمان، وأسر من الصبابة ما أعلنه دمع الأجفان. أتكتم رائحة الطلا؟ وهل يخفى على ذوي الأبصار ابن جلا؟ لقد برح الخفاء، وأطلت يا رقيق الحاشية شقة الجفاء، وأشمت الأعادي، ومددت ظل التمادي، وزدت في الهجر والبعاد، وكلمت القلب بألسنة الصعاد. فجد بالتداني، واسمح بنيل الأماني، وارحم والهاً وأبدت ظلمة الفراق فرقه، وتصدق على مدنف سائل دمعه يقبل الصدقة. وألن قلبك القاسي، وعد عن التنائي والتناسي، وارع الود القديم، وأبدل شقاء محبك بالنعيم، ولا تعدل عن منهاج المعدلة، وسلم فقد أخذت حقها المسألة. واغمد سيف حيف صيرته مسلولا، وأوف بالعهد " إن العهد كان مسؤولاً " .
في مدح العشق وذمه
سألني بعض المائلين إلى الهوى، المصابين بسهام الصبابة والجوى - الساهرين في الليل الطويل الذوائب، الذين صرفوا على المحبة حبات قلوبهم الذوائب - عن مراتب العشق وضروبه، وقبائل الحب وشعوبه، وهزله وجده، وجزره ومده، وشواهد شهده وسمه، وما قيل في مدحه وذمه، فأجبته إلى سؤاله، وجمعت بينه وبين آماله:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
يا هذا إن أول العشق استحسان من يلائم الطبع من الجواري والغلمان، تحدث منه إرادة القرب والمودة، ثم يقوى الود فيكون حباً لا يمكن القلب رده. فإذا استحكمت المحبة في القلوب، عادت هوى يهوي بصاحبه في اختيار المحبوب، ثم يصير عشقاً ثم تتيماً ثم يرجع ولهاً على العقول مخيماً، وهو طمع في القلوب يتولد، يعظم بالحرص على الطلب ويتأكد. يخفى عن الأبصار، ويهيج باللجاج والتذكار، كامن كالنار في الحجر، والزهر في الشجر. إن قدحته أورى، وإن سقيته أخرج نوراً:
العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تحكم صار شغلا شاغلا
فأما أوصافه الممدوحة فإنه جليس ممتع بمشاهدته، وأليف مؤنس بمنادمته، مسالكه لطيفة، وممالكه شريفة. برق لامع، ونور ساطع. تستضيء به نواظر العقول، ويفعل في الشمائل مالا تفعله الشمول، ويتصل بجواهر النفوس، فيزيل عنها لبوس البوس، فرح يجول في الروح،وارتياح يغدو في القلب ويروح، وسانح ينشر من البشر ما انطوى، وسرور ينساب في أجزاء القوى:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان. يولد الأخلاق الجميلة، ويرغب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع ويشنف الأسماع، ويدعو إلى تحسين اللباس، ويستعمل بالرياضة أهل الشماس، لا يقع فيه إلا من قليب قلبه صافي، ولا يسلم منه إلا كل جلف جافي:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
وأما أوصافه المذمومة: فإنه ملك قاهر، وحاكم جائر. هزله جد وراحته تعب، وأوله لعب وآخره عطب. يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة، ويكسف من الآراء شموسها البازغة، ويسوق إلى وليه غمام الغم، ويهيم في وادي الهم. يذهب العقل، ويمرض الجسد، ويقوي الفكر ويضعف الجلد، ترتعد منه الفرائص، وتتقد به نار النقائص. يستعبد الأحرار، ويستأثر ذوي الأقدار، ويصفر الأبدان، ويوقع في الذل والهوان:
وكنت أظن الهوى هيناً ... فلاقيت منه عذاباً مهينا
يورث الأسف والحرق، ويجلب الوسواس والأرق، ويجدد ملابس الوجد والألم، ويمنع عن الاشتغال بالعلوم والحكم. يحالف أرباب الشبهات، ويستخدمهم في تدبير الشهوات، ويعطل عن المصالح، ويجرح بمديته الجوارح. من جنده الغرام والكلف، ومن رفده الهيام والشغف، يعوق الطالب عن الاستفادة، ويشغل الإنسان عما خلق له من العبادة. جان يفضي إلى الجنون، ويدني أهل المنى من المنون:
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب
واعلم، وقاك الله شر الشرر، أن أقوى أسباب العشق النظر. رياحه تنشىء سحائب الفكر، ومرآته تجلو على القلب محاسن الصور. فاتق النظرة، فإنها تزرع حَب حُب ينبت سنبل الحسرة. كم سلب النظر قلب عابد، وفتن عقل ناسك، وحل عقد زاهد، وأجرى آفة، وقرن ذلاً بمخافة، وأثار غبار معركة، وألقى شهماً إلى التهلكة، وأقام حرباً على ساق، وسفك الدماء وأراق، وأوقع في مصائد المصائب، وهشم العظام بأنياب النوائب:
فمن كان يؤتى من عدو وحاسد ... فإني من عيني أتيت، ومن قلبي
فاسلك سبيل السلامة، لتصل إلى دار الكرامة، واقطع أسباب المطامع، واشتغل عن المصنوع بالصانع. فأما من آثر اللذات فقد تورط في حبائل البلوى، وانتهى من حرم الحرمان إلى الغاية القصوى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى " .
الفصل الرابع عشر
في الفراق
الفراق - جمع الله الشمل بمحياك، ورعى ودك على بعد المزار وحياك - وقد اجترى واجترح، وأذهب المسرة والفرح ، وضيق رحب الفضا، وقلب القلب على جمر الغضا، وأورث الكمد، وأذاب جليد الجلد، وجاب. وجال، ونثر عقود الاحتمال، وأوجد الوجد والهيام وأحوج الصب إلى العبث بالأقلام:
كتبت وعندي من فراقك لوعة ... تزيد بكائي أو تقل هجوعي
فلو أبصرت عيناك حالي كاتباً ... إذاً كنت ترثي في الهوى لخضوعي
أخط وداعي الشوق يملي، وكلما ... تعديت سطراً رملته دموعي
يا لها لوعة أسعرت وقد الضلوع، ومالت إلى الصبر فأذوت منه الأصول والفروع وصبابة صبت النفس إليها، ووقفت لامتثال الأمر طائعة بين يديها، وغراماً يلازم غريم الفؤاد، ويتكلم من الدموع بألسنة حداد، وشوقاً إلى تلك الليالي المستنيرة، والأيام التي تطول الشرح في وصف محاسنها وإن كانت قصيرة:
حيث اللقا والنوى حل ومرتحل ... والدهر يقضي لنا من وصلك الغرضا
لئن تعوضت عني غير مكترث ... فعنك، ما دمت حياً، لم أجد عوضاً
إلى الله أشكو جور أحباب، لا شك في ظلمهم ولا ارتياب:
ساروا وسر الوجد قلبي أودعوا ... يا ليتهم يوم النوى لو ودعوا
أفديهم غائبين أطالوا شقة البين، ونازحين سكنوا القلب حين غابوا عن العين:
رحلوا عن الأوطان لكن في الحشا ... نزلوا، وما راعوا ولكن روعوا
كيف العمل؟عز الاحتيال، هل من طريق إلى منزلة الوصال؟
يا صاح إن ظباء جيران النقا ... جاروا علي فدلني ما أصنع؟
أحسن بهم ظباء غير أوانس، كم أسهرت العشاق عيونهم النواعس:
نفروا وما التفتوا وعادة مثلهم ... يتلفتون إذا نفاراً أوقعوا
أيها المغرم باللوم والتفنيد، لا تتعب نفسك فيما لا يجدي ولا يفيد:
قسماً بهم مالي غنىً عنهم ولو ... أمسيت كاسات الأسى أتجرع
كُف كف العذل والتأنيب، فلست أحول عنهم ولو براني النحيب.
وأنا المقيم على محبتهم وإن ... حفظوا عهودي في الهوى أو ضيعوا
نعم أقيم على الود والمحبة، وأرعى رب الخال ولو اشترى قلبه بحبة، وأحفظ زمام الذمام، وأصبر في هاجرة الهجر على الأوام وأتعلل بلعل وعسى، وأحتمل مشقة آسي جرح الأسى، وأتعلق بأذيال ضيف الطيف، وأتشبت بأن أوقات الفراق سحابة صيف:
وأطوف في تلك الديار مسائلاً ... عن أهلها أبكي ما قد جرى
لله بعد البعد حمر مدامع ... بنُضارها المبدول قد أثرى الثرى
وقد علم الله أن يوم النوى،أضعف بناء جسدي بالهوى فهوى، وأحال صبغة حالي، وسقاني كأس بعد مذاقها غير حالي، فعدت ذا سكر دائم، وعناء تحل دونه عقد العزائم. القلب مأوى الهموم، والطرف موكل برعي النجوم، والكآبة في الخاطر خاطرة، والعين إلى نحو الطريق ناظرة، وأسياف الضنى تجرح الجوارح، وسهام الجوى تجنح إلى الجوانح. لا أعرف لذة الوسن، ولا أمل من السير في حزن الحزن. ولا أرد الماء النمير إلا ويلفحه من كبدي حر السعير.إن مر الفكر في خلدي شرحت له صدراً، وإن دعاني الذكر الجميل مرة لبيته عشراً. ولولا رجاء العود والإياب، لانفصمت من قوى حياة العليل عرا الأسباب، فتباً لأيام الصد والقطيعة، وسقياً لأوقات كانت على رغم العدا مطيعة، حيث الأوطان عامرة، ووجوه الأوطار ناضرة، وأغصان العيش مائدة، وصلة الأحباب عائدة:
وسعاد تسعدنا بروضات الرضا ... ويعمنا منها سنا وسناء
لهفي على ذاك الزمان وطيبه ... فلفقده أنا والخلال سواء
أمبشري برجوعه لك عن رضا ... روحي وما ملكت يداي فداء
والله المسؤول في بلوغ الأماني، وإباحة ممنوع التلاقي والتداني، واجتماع المشوق بأهل وداده، ونصرة المظلوم على أعدائه وحساده، فإنه " نعم المولى ونعم المصير " ، " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " .
الفصل الخامس عشر
في الاستعطاف
أيها المعرض الهاجر، الذي سعى لصده دمع صبه على المحاجر، رفقاً بمن ملك الوجد قياده، وعطفأ على من أذاب الشوق فؤاده، متيم أقلقه فرط صدودك، ومغرم أغراه بحبك قول حسودك، وسقيم لا شفاء له دون مزارك، ومقيم على عهدك ولو طالت مدة نفارك. إلام هذا التنائي والنفور؟ وعلام ياذا القد العادل تجور؟ لقد تضاعف الأسف والأسى، وتطاول التعلل بعل وعسى، وفني حاصل الصبر ولم يبق إلا المقابلة بالجبر.
هبني تخطيت إلى ذلة ... ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من بعدها حرمة ... توجب لي منك جميل الرضى؟
نعم لي حرمة وذمام، وسابق خدمة توجب رفع الملال والملام. ولت ألوذ إلا بباب نعمك، ولا أعتمد في محو الإساءة إلا على حلمك وكرمك. وما جل ذنب يضاف إلى صفحك، ولاعظم جرم يطرد غراب ليله باز صبحك. ومثلك من يسد الخلل، ويغفر الخطأ والخطل، ويقيل العثرات، ويتجاوز عن الهفوات، ويمح بالعفو تفضلاً، ويزيل القبض عن بسط العذر متطولاً، فلا تخدش وجه رضاك بالغضب، ولا تجمع لمن أسره التفريق بين العتب والتعب، ورق على عبدك رقك، وأره الدجا والضحى من فرعك وفرقك، وأذقه أري وصالك، كما جرعته شري انفصالك.
وكنت اظن أن جبال رضوى ... تزول وأن ودك لا يزول
ولكن القلوب لها انقلاب ... وحالات ابن آدم تستحيل
طالما آنستني بقربك، ودنوت مني مفارقاً ظباء سربك، واعتنيت بأمري، وأخمدت برضاب ثغرك جمري، وأنجزت وعودي، وأطلعت نجوم سعودي، وأطلت سروري وابتهاجي، وأصلحت بشراب وصلك مزاجي، وجلوت طرفي بمحاسن طلعتك، وأرويت ظمئي بالعذب الفرات من شرعتك.
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة ... إلي بها في سالف الدهر تنظر
قيدت أملي عن سواك، وبهرت ناظري بنظرة سناك، وضاقت بعدك عليّ المسالك، وغدت مطالبي محفوفة بالمهالك، وكسرت جيش قراري، وتركتني لا أفرق بين ليلي ونهاري. أجول حول الديار، وأعوم في بحر الأفكار، وأتمسك بعطف عطفك، وأتعلق بأذيال مكارمك ولطفك. أما علمت أن الكريم إذا قدر غفر؟ وإذا صدرت عن عبده زلة أسبل عليها رداء العفو وستر، وأن شفيع المذنب إقراره، ورفض خطيئته عند مولاه استغفاره. ومن أبدى باعترافه الحجة، فقد استوجب أن يُسلك في مساحته أوضح المحجة.
ومن كان ذا عذر لديك وحجة ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
لهفي على عيش بسلاف حديثك سلف، وأوقات حلت ثم خلت وأورثت التلف، وزمان ولى مجانباً، وحبيب ذهب مغاضباً، واهاً لأيام بطيب أنسك مضت، وبروق ليال لولا قربك ما أومضت:
ما كنت أعرف في الهوى مقدارها ... رحلت وبالأسف المبرح عوضت
كيف السبيل إلى إعادة مثلها؟ ... وهي التي، بالبعد، قلبي أمرضت
إلى كم أموه وأغالط، وأجاهد في سبيل الصبر وأرابط، وأكلف اللسان مكابدة حمل الكتمان، وأسر من الصبابة ما أعلنه دمع الأجفان. أتكتم رائحة الطلا؟ وهل يخفى على ذوي الأبصار ابن جلا؟ لقد برح الخفاء، وأطلت يا رقيق الحاشية شقة الجفاء، وأشمت الأعادي، ومددت ظل التمادي، وزدت في الهجر والبعاد، وكلمت القلب بألسنة الصعاد. فجد بالتداني، واسمح بنيل الأماني، وارحم والهاً وأبدت ظلمة الفراق فرقه، وتصدق على مدنف سائل دمعه يقبل الصدقة. وألن قلبك القاسي، وعد عن التنائي والتناسي، وارع الود القديم، وأبدل شقاء محبك بالنعيم، ولا تعدل عن منهاج المعدلة، وسلم فقد أخذت حقها المسألة. واغمد سيف حيف صيرته مسلولا، وأوف بالعهد " إن العهد كان مسؤولاً " .