"أما بعد، فقد اختفيت، ولكنني لم أمت"
متشائل إميل حبيبي
"الذين نحبهم لانودعهم· لأننا في الحقيقة لانفارقهم"·
أحلام مستغانمي
"ثمة شخص يحرس لك الذكريات· ينتظرك هناك، ويتعب قليلا قبل ان تصل· وعندما يدركك النوم، تغدر بك الاحلام· (فاطفىء قناديلك يا مجنون)··· "·
قاسم حداد
"ما يحدث لايسترجع بنفس الشكل والرغبة إلا في الذكرى"·
محمد شكري
على سبيل الاضاءة
1
مذ صافحته أول مرة، صيف 1955، وحتى جاءني نعيه، رمضان 2003 ، لم نفترق إلا في المكان· في براثن حب محمد شكري سقطتُ!
2
لم نكد نتعاطى بضعة كلمات، حتى ضبطت نفسي أحسُّه أكثر قربا مني· كما لو كنتُ من زمن طويل أعرفه·
أحسني أصرخ كما أرخميدس: "وجدته ! وجدته!"·
3
ما أبت منه إلا إليه· بمحاذاته تمشي الاسئلة، تربك جاهز القناعات، في حضرته يتوقف الزمن· تكف عقارب الوقتعن: تيك تاك·
ما أعرف كاتبا يعطيك الإحساس بأنك كبير، يبقيك حبيس كل مساحات حفاوته، إلاه·
4
ما فارقت محمدا يوما الا وجمعت حصيلة اللقاء البهي:
- بشاشة وجه، دفء كف· إنسانية تختلف عن أيام إنسانية لأيما كاتب·
- قدرة لاتجارى على تفجير ضحكات لا ينتهي مفعولها توا· إنما يمتد صهيلها ابتهاجا في كل الآتي من أيامك·
- طفولة تتوارى خلف كهولة مواربة· لكأن شكري مثل الاجل: يكبر ليصغر!
5
تكر الايام مثل سبحة· ولانتراءى· وسواء تصادفنا· او تواعدنا· دائما أجده كالعهد به: نفس الحفاوة· نفس السموق· نفس الفيض الإنساني الذي يحتل باحات القلب·
ويجدني هو عارفا قدره· تفضح ملامح وجهي ما أكنه له من إعجاب يكبر في داخلي يوما على صدر يوم·
وعلى أمل مصادفة أخرى، او لقاءات· نفترق: هو بالحفاوة نفسها· وبالتقدير ذاته أنا·
6
لاذ محمد شكري بفيء شبر صامت، هادىء، من أرض مرشان· مستقيلا من هجير حياة ضاجة بالحركة، تنحفر عذاباتها في المسام·
··· ورحل تاركا على لسان من أحبوه تعبير يوسف وهبي الخالد:
يا للهول!
7
لشد ما أفتقد جلساته التي تظل على رسلها
لشد ما أحن الى لهجته الهاربة من قاموس اللغة الطنجاوية، سقاها الغيث ورعاها·
من فرط أفتقده، يخيل إلي أنه يحدجني بنظرته الثاقبة· ويقول ضاحكا: "السي حسن، كفى حنينا!"·
8
على مرأى من الحنين ذاته، أتصفح لقاءاتي به، أستعيد رجلا حبي له لا يحصى بعدد الكلمات· بل يحصى بدقات القلب· أستحضر كاتبا تقرأه فتجد نفسك تقول:
ذلك من فضل الكتابة توتيه من تشاء·
9
ما تمنحنيه ذكرياتك أكثر مما حاولت إجلاءه فيما مر - فيما سيمر·
فلنبث، كعادتنا، بقايا الكلام، في الآتي من لقاءاتنا، يا محمد·
على مرمى خطوات
على بعد مسافة، ما فتئت تتقلص خطوة اثر خطوة· كنت ألمح الشحرور الطنجاوي الرائع محمد شكري: متوكئا على ستيناته، يمشي بخطوات بطيئة، متثاقلة· يده اليمنى في جيب سرواله، واليسرى تحمل كتابا، او كتابين· يصوب نظراته الثاقبة نحو الأمام· يمسح المكان، يدقق في ملامح العابرين·
فجأة (أمام سينما غويا) يشرق وجهه· يتوقف عن الخطو· يمد صوته باتجاه ماسح احذية
- أهلا سي عبد السلام· لابأس عليك، بخير، كيف الصحة؟
يرد الكهل، ماسح الاحذية، بنبرة مدججة بالامتنان
- الله يبارك فيك، اسي شكري، نحمده ونشكره فهاذ الساعة·
يستأنف شكري سيره الوئيد صوب شارع البحتري، حيث شقته، ملوحا بيمناه:
- الله يعاون··· الله يرزق الصحة
أتوقف عن رصد الكاتب الكبير· اتجه صوب "ليسي رينيو" بداخلي يواصل الاعجاب تعملقه، يصير كلاما اسجله توا:
"ما أروع ان ترى نوى التواضع وهو يستطيل نخيلا"·
في حضرة شموخه
اتقاسم وإياه نفس الفضاء· أواصل الانتظار بمحاذاته· تخونني شجاعتي للاقتراب اكثر· لتحقيق حلم يربض على مرمى شارعين مني·
يتطوع المصور الصحافي محمد الباهي (السبتاوي) لتقديمي اليه· ذات يوم قائض من سنة 1995
فأصافح محمد شكري: هذا الذي في مخيلتي كان غامضا مثل الجوكاندا· غير متوقع كما هو بحر طنجة· فصار الان، في شموخ حضوره·· مضيافا· حفيا· متفتحا كما كتابته بالضبط·
واقفين كنا، نحن الثلاثة، على عتبة (النكريسكو) بترحاب جميل يليق به، يدعونا شكري الى مقاسمته المائدة· استغل الفرصة فأكاشفه بما تمنحنيه كتاباته من متعة الامتلاء باصداء الزمن الجميل الآفل···
يرن هاتفه (السيمنس) فينشغل بالكلام يأخذه ويعطيه·· ننسحب· الباهي وانا، من المكان· ولسان لهفتي يردد:
"لو أراه مرات أخر"
ما من اقنعة هناك
ما كنت اظن ان يلتقي الابداع مع السلوك عند الكتاب· حتى التقيت الريفي - الطنجاوي الجميل محمد شكري·
ان ما يكتبه يعيشه· وما يعيشه يكتبه· البساطة الناطقة عمقا، التي تستوقفنا في كتاباته، هي نفسها التي تسم شخصيته الآسرة·
ذلك كان انطباعي الاول، الذي ستليه انطباعات اخرى: ابهى وأكثر جمالا·
كما يكتب يتحدث
اسبوعان على اللقاء الاول · العاشرة والنصف صباحا· سألتقي شكري في مبنى البريد· اقترحت اجراء حديث معه لفائدة صحيفة "اخبار الادب" المصرية، فكر للحظات· بادرني:
- هل قرأت كتبي؟
- بالتأكيد
- ما الذي تريد ان تسأل عنه؟
- خصوصية تجربتك السردية في "الخبز الحافي"
- تعال الى (النكريسكو) هذا المساء· مع السلامة· حوالي الخامسة سأجده هناك· طلب مني ان اتناول مشروبا· وبدأنا تسجيل الحديث·
الحوار مع شكري يظل عالقا بالذهن مثل وشم· راسخا في النفس كما الذكرى الجميلة· مشعا بالذاكرة كالبلور·
انك لا تصبح بعد محاورته ما كنته قبلها· اشياء كثيرة تبدأ في التبلور داخلك· في التحول· افكار تبزغ واخرى تذوي· رؤى يصيبها التمدد· او الانكماش· قناعات تضيء او تعتم· حالة من الاحتدام تسفر عن غنى·
شكري كما يكتب يتحدث: نفس الفصاحة المسكونة بالتلقائية· نفس العراء الذي يلاحق اكثر اللحظات عراء· نفس التدفق الذي يذكرك بالانهار·
والاعتصام بالتذكرات· بالقراءات، بالمشاهدات، هو ذاته لا يطرأ عليه تغيير·
8/6/2005
متشائل إميل حبيبي
"الذين نحبهم لانودعهم· لأننا في الحقيقة لانفارقهم"·
أحلام مستغانمي
"ثمة شخص يحرس لك الذكريات· ينتظرك هناك، ويتعب قليلا قبل ان تصل· وعندما يدركك النوم، تغدر بك الاحلام· (فاطفىء قناديلك يا مجنون)··· "·
قاسم حداد
"ما يحدث لايسترجع بنفس الشكل والرغبة إلا في الذكرى"·
محمد شكري
على سبيل الاضاءة
1
مذ صافحته أول مرة، صيف 1955، وحتى جاءني نعيه، رمضان 2003 ، لم نفترق إلا في المكان· في براثن حب محمد شكري سقطتُ!
2
لم نكد نتعاطى بضعة كلمات، حتى ضبطت نفسي أحسُّه أكثر قربا مني· كما لو كنتُ من زمن طويل أعرفه·
أحسني أصرخ كما أرخميدس: "وجدته ! وجدته!"·
3
ما أبت منه إلا إليه· بمحاذاته تمشي الاسئلة، تربك جاهز القناعات، في حضرته يتوقف الزمن· تكف عقارب الوقتعن: تيك تاك·
ما أعرف كاتبا يعطيك الإحساس بأنك كبير، يبقيك حبيس كل مساحات حفاوته، إلاه·
4
ما فارقت محمدا يوما الا وجمعت حصيلة اللقاء البهي:
- بشاشة وجه، دفء كف· إنسانية تختلف عن أيام إنسانية لأيما كاتب·
- قدرة لاتجارى على تفجير ضحكات لا ينتهي مفعولها توا· إنما يمتد صهيلها ابتهاجا في كل الآتي من أيامك·
- طفولة تتوارى خلف كهولة مواربة· لكأن شكري مثل الاجل: يكبر ليصغر!
5
تكر الايام مثل سبحة· ولانتراءى· وسواء تصادفنا· او تواعدنا· دائما أجده كالعهد به: نفس الحفاوة· نفس السموق· نفس الفيض الإنساني الذي يحتل باحات القلب·
ويجدني هو عارفا قدره· تفضح ملامح وجهي ما أكنه له من إعجاب يكبر في داخلي يوما على صدر يوم·
وعلى أمل مصادفة أخرى، او لقاءات· نفترق: هو بالحفاوة نفسها· وبالتقدير ذاته أنا·
6
لاذ محمد شكري بفيء شبر صامت، هادىء، من أرض مرشان· مستقيلا من هجير حياة ضاجة بالحركة، تنحفر عذاباتها في المسام·
··· ورحل تاركا على لسان من أحبوه تعبير يوسف وهبي الخالد:
يا للهول!
7
لشد ما أفتقد جلساته التي تظل على رسلها
لشد ما أحن الى لهجته الهاربة من قاموس اللغة الطنجاوية، سقاها الغيث ورعاها·
من فرط أفتقده، يخيل إلي أنه يحدجني بنظرته الثاقبة· ويقول ضاحكا: "السي حسن، كفى حنينا!"·
8
على مرأى من الحنين ذاته، أتصفح لقاءاتي به، أستعيد رجلا حبي له لا يحصى بعدد الكلمات· بل يحصى بدقات القلب· أستحضر كاتبا تقرأه فتجد نفسك تقول:
ذلك من فضل الكتابة توتيه من تشاء·
9
ما تمنحنيه ذكرياتك أكثر مما حاولت إجلاءه فيما مر - فيما سيمر·
فلنبث، كعادتنا، بقايا الكلام، في الآتي من لقاءاتنا، يا محمد·
على مرمى خطوات
على بعد مسافة، ما فتئت تتقلص خطوة اثر خطوة· كنت ألمح الشحرور الطنجاوي الرائع محمد شكري: متوكئا على ستيناته، يمشي بخطوات بطيئة، متثاقلة· يده اليمنى في جيب سرواله، واليسرى تحمل كتابا، او كتابين· يصوب نظراته الثاقبة نحو الأمام· يمسح المكان، يدقق في ملامح العابرين·
فجأة (أمام سينما غويا) يشرق وجهه· يتوقف عن الخطو· يمد صوته باتجاه ماسح احذية
- أهلا سي عبد السلام· لابأس عليك، بخير، كيف الصحة؟
يرد الكهل، ماسح الاحذية، بنبرة مدججة بالامتنان
- الله يبارك فيك، اسي شكري، نحمده ونشكره فهاذ الساعة·
يستأنف شكري سيره الوئيد صوب شارع البحتري، حيث شقته، ملوحا بيمناه:
- الله يعاون··· الله يرزق الصحة
أتوقف عن رصد الكاتب الكبير· اتجه صوب "ليسي رينيو" بداخلي يواصل الاعجاب تعملقه، يصير كلاما اسجله توا:
"ما أروع ان ترى نوى التواضع وهو يستطيل نخيلا"·
في حضرة شموخه
اتقاسم وإياه نفس الفضاء· أواصل الانتظار بمحاذاته· تخونني شجاعتي للاقتراب اكثر· لتحقيق حلم يربض على مرمى شارعين مني·
يتطوع المصور الصحافي محمد الباهي (السبتاوي) لتقديمي اليه· ذات يوم قائض من سنة 1995
فأصافح محمد شكري: هذا الذي في مخيلتي كان غامضا مثل الجوكاندا· غير متوقع كما هو بحر طنجة· فصار الان، في شموخ حضوره·· مضيافا· حفيا· متفتحا كما كتابته بالضبط·
واقفين كنا، نحن الثلاثة، على عتبة (النكريسكو) بترحاب جميل يليق به، يدعونا شكري الى مقاسمته المائدة· استغل الفرصة فأكاشفه بما تمنحنيه كتاباته من متعة الامتلاء باصداء الزمن الجميل الآفل···
يرن هاتفه (السيمنس) فينشغل بالكلام يأخذه ويعطيه·· ننسحب· الباهي وانا، من المكان· ولسان لهفتي يردد:
"لو أراه مرات أخر"
ما من اقنعة هناك
ما كنت اظن ان يلتقي الابداع مع السلوك عند الكتاب· حتى التقيت الريفي - الطنجاوي الجميل محمد شكري·
ان ما يكتبه يعيشه· وما يعيشه يكتبه· البساطة الناطقة عمقا، التي تستوقفنا في كتاباته، هي نفسها التي تسم شخصيته الآسرة·
ذلك كان انطباعي الاول، الذي ستليه انطباعات اخرى: ابهى وأكثر جمالا·
كما يكتب يتحدث
اسبوعان على اللقاء الاول · العاشرة والنصف صباحا· سألتقي شكري في مبنى البريد· اقترحت اجراء حديث معه لفائدة صحيفة "اخبار الادب" المصرية، فكر للحظات· بادرني:
- هل قرأت كتبي؟
- بالتأكيد
- ما الذي تريد ان تسأل عنه؟
- خصوصية تجربتك السردية في "الخبز الحافي"
- تعال الى (النكريسكو) هذا المساء· مع السلامة· حوالي الخامسة سأجده هناك· طلب مني ان اتناول مشروبا· وبدأنا تسجيل الحديث·
الحوار مع شكري يظل عالقا بالذهن مثل وشم· راسخا في النفس كما الذكرى الجميلة· مشعا بالذاكرة كالبلور·
انك لا تصبح بعد محاورته ما كنته قبلها· اشياء كثيرة تبدأ في التبلور داخلك· في التحول· افكار تبزغ واخرى تذوي· رؤى يصيبها التمدد· او الانكماش· قناعات تضيء او تعتم· حالة من الاحتدام تسفر عن غنى·
شكري كما يكتب يتحدث: نفس الفصاحة المسكونة بالتلقائية· نفس العراء الذي يلاحق اكثر اللحظات عراء· نفس التدفق الذي يذكرك بالانهار·
والاعتصام بالتذكرات· بالقراءات، بالمشاهدات، هو ذاته لا يطرأ عليه تغيير·
8/6/2005